يبدو العام الجديد 2019 عام الجزائر بامتياز. وما يخطه الشعب الجزائري من تحركات استثنائية على جميع الأصعدة، من أجل التغيير ينهض كعنوان للمرحلة في البلاد وفي المنطقة. وبقدر الخشية على الجزائر- المتعطشة للتغيير- من مصائر صعبة من عدم الاستقرار، عالقة في النفوس والذاكرة القريبة والبعيدة المرتبطة بالبلاد والمنطقة، بقدر ما يتبدد هذا القلق وتتوارى هذه الخشية عندما نتوقف عند السمت العام الذي طبع هذا الحراك التاريخي، وما انطبع به أسبوعا بعد أسبوع من مظاهر تبدو غير تقليدية، وتقطع مع الأنماط التقليدية للاحتجاجات، ومع أي حراك تقليدي شهدته بلدان منطقتنا سابقا، مشرقا ومغربا، واتسم بحالة معهودة من الاحتقان والتوتر ومظاهر العنف والعنف المضاد. ينهض الحراك الجزائري اليوم مختلفا واستثنائيا، وبمعالم فريدة، تميّز بها إلى حد الآن وفرضت علينا التوقف عندها لما لها من دلالات عميقة على المشهد السياسي الجزائري والعربي، وحتى أوسع من ذلك، بحكم ما للجزائر من ثقل في المنطقة. وهو أيضا حراك ذو تأثير عميق لما له من انعكاسات على تجارب وحركات التغيير والإصلاح في المنطقة. إصلاح وتغيير يبدو اليوم حاجة تاريخية واستراتيجية ملحة، في منطقة ترنو للعبور لمرحلة جديدة بعد عقود من الركود، استنفد خلالها المنوال القديم، تجربة سياسية، وتنمية اقتصادية. ولعل من المناسب قبل التوقف عند الخصائص الأساسية المميزة لهذا الحراك أن نعطي لمحة مختصرة عن سياقاته. تعتبر الجزائر البوابة الرئيسية بين ضفتي أوروبا وإفريقيا، وقد نالت استقلالها باقتدار في 5 جويلية 1962، متحررة من الاستعمار الفرنسي بعد حرب تحرير كانت الأكثر ملحمية على المستوى العربي والإفريقي. تقع الجزائر على مساحة جغرافية تقدر ب 2.4 مليون كم مربع، ويبلغ عدد سكانها حوالي 41 مليون نسمة، وهي تمثل أحد الأعمدة الأساسية للقارة الإفريقية جغرافية وسياسة، وأحد أبرز البلدان المغاربية والعربية. نجحت الجزائر في تحقيق حد معقول من الاستقرار، بعد أزمة حادة عصفت بها لسنوات طويلة، عقب إلغاء المسار الانتخابي عام 1991. وكان لبوتفليقة، الذي يطالب الشعب اليوم برحيله، وقبله لمين زروال، الذي يتم تداول اسمه ضمن سيناريوهات الخروج من الأزمة، كان لهما دور مقدر في تخفيض منسوب الأزمة واحتوائها في إطار مصالحة وطنية أو ما عُرف بالوئام المدني، رغم ما أثير حوله من مؤاخذات. قدرة النخب السياسية والعسكرية الجزائرية في تجاوز العشرية السوداء، لم يواكبه نجاح على المستوى الاقتصادي، فلم تنجح الجزائر في إنجاز إصلاحات هيكلية عميقة، وبقي اقتصادها يعتمد أساسا على الثروات النفطية، حيث أن 97% من صادرات البلاد هي من المحروقات (النفط والغاز)، كما أن ثلثي الدخل الوطني الخام هو من المحروقات. وعلى الرغم مما ضخه ارتفاع أسعار النفط والغاز على المستوى العالمي، من مداخيل للخزينة الجزائرية، مكنها من استخلاص ديونها الخارجية، ووفّر لها احتياطيا من العملة الصعبة وصل في 2014 إلى 178 مليار دولار أمريكي إلى جانب صندوق سيادي بقيمة 37 مليار دولار. غير أن هذا الاحتياطي انكمش مع بداية عام 2018 إلى 97 مليار دولار فقط، بينما استنزف الصندوق السيادي بالكامل لتغطية العجز المتتالي في الميزانيات السنوية. وبسبب هذا العجز المزمن للحكومات المتعاقبة في إجراء إصلاحات اقتصادية واجتماعية هيكلية جدية وعميقة، ظل الاقتصاد الجزائري يعاني من حالة انكماش مزمنة، ومن خلل متواصل في التوازنات المالية، استنزفت بسببها إمكانيات هائلة من مقدرات البلاد من أجل الإنعاش وتغطية العجز، بينما كان يمكن لتلك الإمكانيات المبددة أن تكون رافعة للازدهار والنهضة. وقد عمّق من هذه الأزمة الاقتصادية الهيكلية، وعدم القدرة على تجاوزها، حالة الركود السياسي وغياب دينامكية تنافسية في المشهد السياسي، بسبب عوامل كثيرة ترتبط بشرعية الحكم ومرجعيته. وفي هذا السياق يدخل الحراك الشعبي السلمي اليوم في الجزائر إلى مرحلة جديدة، تبدو البلاد أحوج ما تكون إليها من أجل الاندراج في ديناميكية جديدة، تؤسس لعقد اجتماعي وسياسي جديد بين الدولة والمجتمع، تأخذ بعين الاعتبار الحيوية الكبيرة في المجتمع لاسيما وأن 70% منه من الشباب المندفع باتجاه التغيير. ديناميكية تستعيد بها الجزائر حيويتها الداخلية، سياسة واجتماعا واقتصادا، وتعيد تفعيل دورها الخارجي في سياق دبلوماسية نشيطة تليق بمكانتها التاريخية والاستراتيجية في الفضاء المغاربي العربي والإفريقي والدولي. فالسلمية التي ميّزت الحراك في أسابيعه المتتالية، والإصرار عليها، أعطى للحراك زخما غير مسبوق. وتحوّل الحراك بفضل هذا النهج السلمي منه حراكا طاردا إليه حراكا جاذبا. وبقدر ما عهدنا في الاحتجاجات السياسية من مظاهر التوتر والاحتقان والعنف، بقدر ما شهدنا في حراك الجزائر حالة من الايجابية والتفاؤل والاحتفالية، فقد نجحت الهبّة الجزائرية التغييرية في إخراج وإظهار أجمل ما في الجزائريين من تحضر وتلاطف وتضامن وتوحّد. وبسبب هذا الاصرار على السلمية والنجاح في تكريسها سمتا يوميا في الاحتجاجات، تصاعد زخم الحراك بشكل متدرج، وتوسعت دائرة المشاركين فيه والمؤمنين بمطالبه وأهدافه. بدت السلمية رسالة جديدة من الجزائريين لبلادهم وللمنطقة والعالم، إن المطالبة بالتغيير والإصلاح الحقيقي لا الشكلي، والعميق لا السطحي، ليس تجذرا في العنف، وإنما تجذرا في السلمية وتعزيزا لها. كما بعث هذا السمت السلمي للحراك برسالة للعالم، أن قوى التغيير قوى جادة ومعتدلة، حريصة على أمن بلدانها وأمان شعبها، ومكاسب العمران فيها، وهي قوى جاءت لتعزيزه وتطويره وليس لنقضه وتفويره. جدّد الحراك شعور الجزائريين بوطنيتهم واعتزازهم بهويتهم. وبدّد صورة نمطية شائعة، علقت بأذهان الكثيرين عن الجزائريين بسبب تجربة العشرية السوداء التي ذهب ضحيتها عشرات الآلاف من الأشخاص، فقد نجح الجزائريون في إعادة اكتشاف أنفسهم، وانتمائهم، فرفرف العلم الجزائري في البلاد، وتزيّنت به الشوارع وتوشحت به المدن والقرى، وتلحّف به شباب وشابات الجزائر في المليونيات التي خرجت للتظاهر، وتناقلته شاشات وفضائيات العالم، حتى استحال راية ترفرف في الفضائيات العالمية. ولعل البهاء المميز لألوان الراية بأخضرها الباعث في الروح سلما، والبياض المعانق لها صفاء، والنجمة الحمراء المتوسطة لها كأنها وجه شهيد التحرير يتلألأ، كل ذلك كثف سردية جديدة لحراك تاريخي لا يزال يسطّر ملحمة فريدة عن الجزائريين. مسالمون نهجا ومبدئيون قيما وموحدون شعبا، محتفون بالتنوع ثقافة والأهم من ذلك مبدئيون أهدافا. أظهر الجزائريون، نساء ورجالا، شبابا وكهولا، في الداخل والخارج، أجمل ما فيهم من قيم، قدمت الجزائر والجزائريين بشكل مختلف، كما يرون هم أنفسهم لا كما يقدّمهم الآخرون. إلى جانب ذلك أبزر الحراك حالة وعي متقدمة للجزائريين بتنوعهم واختلافهم في إطار وحدتهم. وبدا الاحتجاج في شكل من أشكاله احتفاء غير مسبوق بالتنوع لدى مختلف الشرائح التي شاركت في المسيرات، عبرت عن نفسها بتلقائية وبشكل بهيج. وتحوّل الحراك رغم جدية وحيوية مطالبه، في الوقت نفسه إلى احتفالية بالتنوع والتعدد والاختلاف، بدا واضحا من خلال اللباس والشعارات وطرق التعبير وأشكالها، حتى كأننا أمام حراك بقدر ما عبّر عن مطالب الجزائريين بقدر ما حرص على إعادة تقديمهم بشكل مختلف وفريد. لذلك فالتوقف عند هذه الرسالة التي بعث بها الجزائريون من خلال احتفالية التنوع واحتفائية التعدد، هي السردية الجديدة المتخيلة التي يكتبها الشعب الجزائري عن نفسه. سردية تقوم على الاحتفاء بالتعدد والاختلاف في إطار وحدة وطنية مرتكزاتها التعايش السلمي في إطار مجتمع حر وسيد يتطلع للمستقبل عبر نظام ديمقراطي تعددي يعبّر عن إرادة الشعب في الحكم الرشيد والتنمية والكرامة وحسن إدارة ثرواته. اللافت أيضا في حراك الجزائر أنه جاء مشددا ومتمسكا بالتصدي للتدخلات الخارجية لا أداة لها. وقد بدا الأمر واضحا من خلال الشعارات التي رفعت منذ الأيام الأولى للحراك والمحذرة من التدخلات الأجنبية في شأن بلادهم وخيارات شعبها، بل تصاعدت الشعارات التي رفعها أبناء الجزائر في الحراك ضد الدول الإقليمية والغربية المعروفة بنزعتها التدخلية في شؤون المنطقة وبلدانها، وكانت الشعارات الرافضة للنفوذ الفرنسي والتدخل الأمريكي واضحة صارخة. هذا الإصرار الجزائري على رفض التدخلات الخارجية، يؤشر إلى اعتزاز الجزائريين بأنفسهم وباستقلاليتهم، وأيضا بوعيهم بحجم الضرر الذي انجرّ عن التدخلات الأجنبية في بلدان ما يعرف بالموجة الأولى من الربيع العربي، كمصر وليبيا واليمن وسوريا. تدخلات خارجية كانت مبيّتة وواضحة في مخططها لإرباك التغيير الذي طالب به كثير من الشعوب العربية، ونجحت هذه التدخلات فعلا في تحويل حلم التغيير إلى حالة من الاحتراب الأهلي، وانتهت بعض هذه الدول على غرار مصر بيد ديكتاتورية أبشع من التي تم التخلص منها، لذلك كان مفهوما أن ترتفع حساسية الحراك الجزائري وهو المستفيد من دروس المنطقة ضد التدخلات الخارجية، حتى بدا الحراك مواجها للتدخل الخارجي وليس أداة له. تكتب الجزائر اليوم عبر حراكها الشعبي سردية جديدة، تحتفي فيها بتاريخها ومنجزاتها ماضيا، وتتجاوز إخفاقاته، وتصحح الحاضر وتعالجه، وتطلق نفسها للمستقبل أكثر قوة ومناعة وثقة، شعارها في ذلك ما رفعه شباب الجزائر في الحراك: «نعم إننا قادرون».