كثيرة هي المعالم التاريخية والدينية العريقة في الجزائر، والتي تؤرخ لأهم الفترات التاريخية التي مر بها التاريخ الجزائري، كما تعد شاهداً حياً إلى يومنا عن البعد العربي والإسلامي لهذا البلد العربي الغني بتراثه وتاريخه. وتعد المساجد العتيقة من أهم تلك الشواهد على ارتباط الجزائريين الوثيق بدينهم الاسلامي الحنيف، وما أكثر تلك المساجد في كثير من المحافظات والمدن الجزائرية، لكن تبقى محافظة تلمسان (غرب الجزائر) أهم مدينة تاريخية، كونها تضم أكبر عدد من المساجد العتيقة. ومن بين تلك المساجد، يوجد “المسجد الكبير والعتيق” بمدينة “نَدْرومة” التاريخية والجميلة التابعة لمحافظة تلمسان، بل هو “ثالث أقدم مسجد في الجزائر بعد مسجدي “أبو المهاجر دينار” بمحافظة “ميلة” (شرق الجزائر) و”عقبة بن نافع” بمحافظة بسكرة (جنوب شرق الجزائر)، ويعود تشييده قبل نحو 10 قرون. التعريف بمدينة ندرومة لا يمكن الحديث عن عراقة مساجد تلمسان وأقدمها، دون التعريف بمدينة “نَدْرومة”، ذلك الكنز التاريخي المهم الذي تزخر به الجزائر، والذي أثرى التاريخ الجزائري المشرف مع التمسك بالهوية الإسلامية بكثير من المعالم الكنوز التاريخية التي لا يزال علماء التاريخ والآثار يكتشفون آثارها إلى يومنا هذا. تبعد “ندرومة” عن مدينة تلمسان بنحو 90 كيلومترا وب60 كيلومتراً عن الحدود المغربية، وترتفع ب650 متراً عن سطح البحر، فيما تبلغ مساحتها 140 كيلومتراً مربعاً، ويبلغ عدد سكانها بحسب إحصائيات 2018 نحو 35 ألف نسمة. “العين الإخبارية” زارت المدينة، واستفسرت من مثقفيها عن سر تسميتها، فقيل لنا إن تسميتها ب “ندرومة” يعود إلى القرنين 9 أو 11 ميلادي، وهو اسم قبيلة أمازيغية يعود أصولها إلى “بني فات بن تمصيت بن ضريس”، واشتهرت في القدم بكثرة مزارعها وحدائقها ومنابعها المائية. غير أن اسمها الأول كان “فلوسن” نسبة إلى الجبل المجاور لها الذي يبلغ ارتفاعه 1136 متراً، وهي تسمية أمازيغية من كلمتين: “أفلا” وتعني فوق وأعلى و”أوسن” وتعني القرية. يعود إنشاء مدينة ندرومة بحسب الدراسات التاريخية إلى عام 857 ميلادي، ورغم قدمها إلا أن الاحتلال الروماني الذي وصل إلى تلمسان لم يدخل ندرومة، حيث أكدت دراسات تاريخية أن موقعها كان سبباً في منع الرومان من احتلالها، خاصة وأنها تقع على هضبة عالية وتتدفق منها جبال شاهقة، مع تمرس جنودها على الحرب في مثل هذه التضاريس الوعرة. تعاقبت على المدينة عديد الحضارات والدول، أولها “المرابطون” ثم “الموحدون”، حيث تذكر الدراسات التاريخية أنها “المؤسس الحقيقي لندرومة”، وجعلت منها حصناً حصيناً ضد الغزاة، وبقيت صامدة حتى بعد سقوط الدولة الموحدية. كما مر على المدينة “الزيانيون” ثم “العثمانيون” الذين أقاموا بها جيشاً انكشارياً تذكر الأبحاث التاريخية بأنه “أساء كثيراً معالمة سكان المدينة”، كما كانت من أكثر المدن المستهدفة من قبل الاحتلال الفرنسي للجزائر، الذي فرض التجنيد الإجباري على سكانها ودمر عدداً كبيراً من آثارها وقتل الآلاف من سكانها. شيد المسجد أو الجامع الكبير لمدينة ندرومة الجزائرية القائد المرابطي “يوسف بن تاشفين” عام 474 هجري الموافق لعام 1081 ميلادي، ويشبه في هندسته المعمارية إلى حد كبير المسجد الكبير بالجزائر العاصمة. ويقع الجامع في الجهة الجنوبية من المدينة، ويعد من أهم آثار الدولة المرابطية التي حكمت تلمسان لمدة 64 عاماً وذلك من 1079 ميلادي إلى 1143 ميلادي. ولا يزال إلى يومنا هذا نقش مكتوب ومحفور على منبر الجامع كتبه “بن تاشفين”، ومما جاء فيه “بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطيبين وسلم تسليما، لا إله إلا الله ومحمد رسول الله”. حافظ مسجد ندرومة الكبير والعتيق ذو الشكل المستطيل على شكله المعماري، خصوصاً ما تعلق منه بصحنه وجدرانه ومداخله ومحرابه. إذ يحتوي على صحن مكشوف تحيط به 4 أروقة، أوسعها رواق القبلة وهو بيت الصلاة، الذي يقوم على عمود كبيرة فوقها أقواس وسقف وتسع بلاطات عمودية على حائط القبلة. أما عرض بيت الصلاة بمسجد ندرومة فيبلغ 28.30 متر وعمقه 9.70 متر، وهو ما يميز العمارة المرابطية في منشآتها الدينية، وهو ما نجده في مسجدي الجزائر العاصمة ومدينة تلمسان المرابطيْن. محراب الجامع، يظهر مجوفاً وغائراً في جدار القبلة، ويشبه المحاريب الموجودة في مصر التي تعود إلى الدولة الفاطمية. فيما يظهر صحن الجامع أقل اتساعاً مقارنة بمسجدي تلمسانوالجزائر العاصمة، وذكر المؤرخون أن السبب في ذلك يعود إلى توسيع بيت الصلاة الذي تسبب في عدم توسعة الصحن، وشُيد شكل الصحن مستطيلاً بعرض يبلغ 9 أمتار وعمق 6.80 متر. يحتوي ثالث أقدم مسجد في الجزائر على 37 دعامة، أكبرها دعامات رواق القبلة المستطيلة الشكل وتشبه حرف “L”، ويتمثل دورها في إحداث التوازن بهندسة المسجد بالنظر إلى ثقلها. أما مئذنة المسجد، فقدت بناها أهل مدينة ندرومة في “50 يوماً” وعلى نفقتهم الخاصة في عهد “الزيانيين” عام 749 هجري الموافق ل1348 ميلادي. وتذكر المراجع التاريخية أن المئذنة شُيدت تحت إشراف المهندس “محمد الشيصي” الذي اعتمد على طراز المآذن الموجودة في المملكة المغربية ومئذنة جامع القيروان بتونس. يبلغ ارتفاع مئذنة المسجد الكبير بمدينة ندرومة الجزائرية 23.30 متر، ويبلغ ارتفاع البرج الأول السفلي منها 19.80 متر، وتنتهي المئذنة برأس مستطيل ارتفاعه 4.24 متر وقاعدته 2.04 متر. وتضم المئذنة 99 درجة، وهي الدرجات التي يصعدها سكان المدينة ليصلوا إلى قمتها، ويذكروا فيها أسماء الله الحسنى.