“كتاب جديد يوثّق للثورة التي أنهت عهد الرئيس بوتفليقة” شهد الشارع الجزائري، بوصفه الفاعل الجديد في المشهد السياسي، منذ شهر فبراير الماضي، حراكًا اجتماعيًا كبيرًا، ضد ترشيح الرئيس عبد العزيز بوتفليقة لولاية خامسة، بعد أن فقد ثقته في السلطة والمعارضة في آن معًا، بل في جدوى الفعل السياسي، منذ انتهاء الحرب الأهلية المدمرة التي عاشتها الجزائر منذ بداية عقد التسعينيات من القرن العشرين، ولغاية بداية الألفيةالجديدة، والتي راح ضحيتها أكثر من 200 ألف قتيل. لا تختلف هذه المسيرات الشعبية التي انطلقت في العاصمة، وفي عديد المدن الجزائرية الأخرى عن الاحتجاجات الشعبية الكبيرة التي عرفتها البلدان العربية، وفي مقدمتها الانتفاضة التونسية في نهاية سنة 2010، ولغاية 14 يناير2011، ضد فجور الأنظمة، وظاهرة الفساد التي نخرت مقومات الدول العربية ومرافقها، وعوّقت ولا تزال حركة التغيير، وإعادة بناء الدول الوطنية على أسس ديمقراطية سليمة. في كتابه الجديد: “نهاية زمن بوتفليقة”، المتكون من مقدمة وسبعة فصول، يقدم الباحث التونسي رياض الصيداوي، (المتخصص في الشأن الجزائري، ولديه العديد من الكتب التي تتحدث عن الثورة الجزائرية، والجيش الجزائري، والإرهاب)، محاولة لفهم صراعات النخب السياسية والعسكرية في الجزائر ممتدة على مستويات عدة. يقول الصيداوي: “في 2 أبريل الماضي اجتمع ظهرًا قادة الجيش في مقر قيادة هيئة الأركان بدءًا من الفريق أحمد قايد صالح وقادة النواحي العسكرية الست وقادة الجيوش وحتى اللواء علي بن علي، قائد الحرس الجمهوري، والذي كان مقربًا من بوتفليقة ليذيعوا بيانًا شديد اللهجة يهددون فيه دون الإشارة بالإسم السعيد بوتفليقة وجماعته، وينعتونهم بالعصابة ويتحدثون عن فساد مستشري وعن تزوير رسائل الرئيس بوتفليقة التي لم يكتبها، ويدعون لتطبيق مواد الدستور 102 و7 و8 فورًا. وقبل يوم من هذا البيان شوهدت حوالي 20 سيارة عسكرية أمام مبنى التلفزيون الحكومي ليصعد إليه مجموعة ضباط ثم يغادرون المكان بعد ثلاثين دقيقة. وفي بداية مساء يوم 2 أبريل الماضي يعلن بوتفليقة عن استقالته فورًا. انتهت اللعبة. مرّة أخرة يكون الجيش الجزائري هو الحكم في الأزمات الكبرى. انتهى زمن بوتفليقة. الجيش والشعب أنهيا 20سنة من حكمه” (ص 5 من المقدمة). .. خصائص الحراك الشعبي الجزائري في فصله الأول الذي يحمل العنوان “راديكالية المعارضة الشعبية ومطالبتها برحيل النظام”، لا يقدم لنا الباحث الصيداوي تحليلاً عميقًا لطبيعة الحراك الشعبي، بل يكتفي بإبراز دور الصراع الفرنسي التركي انطلاقًا من المعلومات التي يقدمها “موقع مغرب أنتليجنس” المقرب من المخابرات الفرنسية، والذي يتهم قطر وتركيا بالوقوف وراء صفحات الفايسبوك التي تدعو إلى رحيل النظام. وفي ضوء انغلاق النظام السياسي الجزائري طيلة الفترة الماضية، ورفضه إجراء مفاوضات مع المعارضة السياسية، وتقديم تنازلات لها أو تأسيس وفاق تاريخي معها، أصبحت المعارضة الشعبية أكثر راديكالية وتحولت مطالبها من مطالب إصلاحية إلى مطالب جذرية تطالب برحيل النظام، وهذا ما عبر عنه الحراك الشعبي في الجزائر الذي اتسم بالخصائص التالية: أولاً: لقد جاء هذا الحراك الاجتماعي والسياسي عقب ما بات يعرف بالعشرية السوداء أوالأزمة الكبيرة التي مرّت بها الجزائر في عقد التسعينيات، وعقب أيضًا عقدين من الهدوء من جرّاء انغلاق المجال السياسي، وعدم إفساح السلطات الجزائرية في المجال للمجتمع كي ينتج السياسة في صلبه. فقد اعتمدت قيادة الدولة الجزائرية استراتيجية شراء السلم الاجتماعي من أجل المحافظة على استقرارالنظام السياسي القائم، لا سيما أن الجزائريين في أكثريتهم،لا يرغبون بعد تجربة الحرب الأهلية والتداعيات الكارثية التي حصلت في بلدان “الربيع العربي” منذ سنة 2011، في المخاطرة بما يمكن أن يعرِّض الاستقرار السياسي والأمني في البلاد مرّة أخرى للخطر. ثانيًا في ظل هذا الوعي الجمعي الجزائري الواعي جيدًّا بالمخاطر السابقة، اتسم الشارع الجزائري في حراكه الشعبي الجديد بالطابع السلمي والحضاري، وبرفضه سياسات الاحتواء من جانب أحزاب المعارضة، إِذْ رفضت جموع المتظاهرين انضمام الأحزاب إلى المسيرات، كما رفضوا دعوات المعارضة إلى الاصطفاف ضمن شعاراتٍ ترفعها تلك المعارضة. ثالثًا رغم أنّ السلطة والمعارضة في الجزائر خسرتا معركة المصداقية بمناسبة الانتخابات الرئاسية التي كانت ستجرى في نيسان (أبريل) الماضي، فإنّ السؤال القديم الجديد الذي ظل يفرض نفسه، ويطرحه المحللون باستمرار، حين يطفو على المشهد السياسي في أي بلد عربي، حراك اجتماعي وسياسي كبير، هل يمتلك المقومات الحقيقية للبديل للنظام القائم، المتمثل في عناصره الأساسية الثلاثة: المرجعية الفكرية والسياسية، والكاريزما القيادية، والمشروع الوطني الديمقراطي الجامع؟ بالنسبة للمرجعية الفكرية والسياسية، لا تشذ الجزائر عن باقي البلدان العربية، التي تعيش حالة من التصحر الفكري والثقافي والسياسي، وبالرغم من أن ما يميز هذا الحراك الاجتماعي والسياسي الجديد هوالتعدد والتنوع والاختلاف، إذ لا يمكن تصنيفه وفق المقولات الإيديولوجية التقليدية، فهو لا يعبرعن شريحة اجتماعية أو فئة اجتماعية أو طبقة اجتماعية، فإنّ هذا الحراك الشعبي الكبير يفتقد إلى المرجعية الفكرية والثقافية والسياسية، وبالتالي فهو غير قادرٍ على أنْ يُحْدِثَ تَغْيِيرًا رَادِيكَالِيًا في البنى والعلاقات الاجتماعية الاقتصادية الجزائرية القائمة، وهو ما يترافق مع تغيير جذري لعلاقات السلطة وتركيبها الطبقي المناسب لنوع العلاقات الاجتماعية السائدة.. التغيير الثوري في بلد كبير مثل الجزائر له ثروات كبيرة، ويحتل موقعًا جيبوليتيكيًا مهمًا في خارطة المنطقة المغاربية والعربيىة والإفريقية، ليست حالة مشهدية، جموعية، يحتشد في نطاقها الناس “الجماهير” ليمارسوا بالمظاهرات الاحتجاجية السلمية عملية تغيير للطبقة السياسية الحاكمة، وإسقاط النظام السياسي. وبالتالي فالحراك الاجتماعي والسياسي الآن، الذي يُعَدُّ عصْيَانًا مدنيًا نظرًا لطبيعة الحركة الاحتجاجية التي انطلقت من مختلف المدن الجزائرية، واحتكرت الشارع والفضاء العام، وتجاوزت النخب وكل الأحزاب المعارضة على اختلاف مرجعياتها الإيديولوجية، وإنْ مُنحت له فرصة لعب دور في عملية التغيير، فلن يتمكّن من القيام بدوره كاملاً بسبب فقدانه المرجعيات التي توجّهه، وتضع له خطة طريق سيرًا نحو التغيير. ولم تكن لهذا الحراك أيضًا قيادة ثورية، ووعي سياسي ناضج، وإذا حكمنا على هذه الحركة الاجتماعية الكبيرة، انطلاقًا من الأهداف التي صيغت في قالب شعارات، من قبيل” إسقاط النظام”، فلن يكون الحكم عليها في صالحها قطعًا، فليس كلَّ ما يُرِيدُ المرْءُ يُدْرِكُهُ، لوجود الفجوة الموضوعية بين الرغبات والشعارات المطروحة ووسائط القوة لتحقيقها، بين الينبغيات واليقينيات، أواختصارًا لامتناع ميزان القوى المناسب. هذه واحدة، الثانية أنّ أهدافًا كبرى مثل الديمقراطية، والعدالة الاجتماعية، لا تكفي الإرادة والرغبة فيها كي تتحقق، حتى وإِنْ أسْعَفَتْ موارد القوة (وميزان القوى بذلك)، فهي مثل سواها من الأهداف الثورية الكبرى التي عرفها التاريخ البشري في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وفي ثورات القرن العشرين، تتوقف على وجود الشروط التحتية، وليس في جوف البنى الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الجزائرية، ما يُفْصِحُ عن علائمها، حتى وإن كانت الجزائر تتميز بوجود طبقة متوسطة قادرة أن تَلْعَبَ دور الحامل الاجتماعي لأي تغيير ديمقراطي مستقبلي. من المحاذير الفكرية والسياسية التي يَجِبُ تَجَنُّبِهَا في تقييمنا الموضوعي للحراك الشعبي الجزائري، المحذور الأول، ويتمثل في التبجيل والتبرير الذي يتراءى لأصحابه مشهد الحراك مشهدًا، انتصاريًا، ورديًا، حتى وإن تخللته بعض المعوقات التي أجهضت مسيرته، هناوهناك. والمحذورالثاني، التحبيط والتيئيس والتخذيل، الذي لا يرى أصحابه في مشهد الحراك الجزائري و”الربيع العربي” عمومًا، سوى مؤامرة خارجية مبيتة لمجتمعاتٍ ودولٍ، لتدميرها وتقسيمها مجددًا، وهذا هو حال القوميين العرب، وبعض اليساريين الكلاسيكيين، والسياسيين المناهضين لحركات الإسلام السياسي. الدور المحوري للجيش الجزائري في الفصل الثالث: يتحدث الباحث رياض الصيداوي عن دور الجيش فيقول: “يُعَدُّ الجيش الجزائري العامل الحاسم الذي أنقذ النظام الجزائري من السقوط في عقد التسعينيات من القرن الماضي، وجعل من مهمة الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الوصول إلى الحكم وممارسته مهمة مستحيلة. وحافظ الجيش الجزائري في العشرية السوداء على وحدته وتمكن من خلق عصبية داخله. وأسقط نفس الجيش نظام بوتفليقة حينما انحاز إلى الشعب وضغط من أجل احترام الدستور وتطبيق المواد 102 و7و8″، (ص 113 من الكتاب) لقد كانت مراكز القوى داخل النظام السياسي الجزائري هي التي تحكم منذ مرض بوتفليقة، وتراجع قدراته الصحية في صورة ملحوظة منذ خمس سنوات، ولكن بوتفليقة المريض بقي في الواجهة، لأنّه لا يزال يمثل حصيلة مجموعةٍ من المصالح ومراكز القوى. فقد شهدت الطبقة السياسية الجزائرية انقسامًا واضحًا بشأن ترشح الرئيس عبد العزيز بوتفليقة بين مؤيدين لولاية خامسة للرئيس ومعارضين لها. ولم يعد سرًّا أنّ هناك مجموعة معيّنة مرتبطة ببوتفليقة تخشى خروجه من المرادية، أي قصر الرئاسة، بسبب ارتكاب هذه المجموعة مخالفات وهي تخشى بكلّ بساطة الملاحقة القانونية وربّما الانتقام السياسي. من المعروف في التاريخ السياسي المعاصر في الجزائر أنّ الجيش هو الذي يصنع الرؤساء في الجزائر، إذ تعتبر المؤسسة العسكرية الجزائرية أنّها الحامية الوحيدة لقوانين الجمهورية، ولم تشهد أي انقسام في صفوفها مطلقًا في خلال أخطر الأزمات، على غرار المؤسسة العسكرية التركية التي كانت تعتبر نفسها الحامية الوحيدة للعلمانية. يخوض الكاتب في علاقة الرئيس بوتفليقة مع المؤسسة العسكرية وكيف أصبح يتحكم فيها بعد سلسلة من التعيينات والإقالات طوال عشرين سنة وكان أبرزها اقالة الفريق مدين المعروف بالجنرال توفيق القابع حاليا في الحبس الإحتياطي في اطار استكمال تحقيق تشرف عليه المحكمة العسكرية بالبليدة. ثم المرور الى الترشح للعهدة الخامسة ثم بداية الحراك الشعبي واخيرا الاستقالة تحت ضغط الشعب الجزئري الذي خرج في مسيرات رافضة للنظام الحالي. “يشرفني أن أنهي رسمياً إلى علمكم أنني قررت إنهاء عهدتي بصفتي رئيساً للجمهورية، وذلك اعتباراً من تاريخ اليوم، الثلاثاء 26 رجب 1440 هجري، الموافق ل2 إبريل 2019″… “إن قصدي من اتخاذي هذا القرار إيماناً واحتساباً، هو الإسهام في تهدئة نفوس مواطنيّ وعقولهم لكي يتأتى لهم الانتقال جماعياً بالجزائر إلى المستقبل الأفضل الذي يطمحون إليه طموحاً مشروعاً”. بهذه الكلمات المنتقاة بعناية اختار الرئيس الجزائري، عبد العزيز بوتفليقة، الإعلان عن استقالته بحضور رئيس المجلس الدستوري في البلاد، الطيب بلعيز، بعد 40 يوماً من بدء الحراك الشعبي الرافض لترشحه لولاية خامسة في 22 شباط (فبراير) الماضي، ليكون بذلك خامس رئيس عربي منذ عام 2011 تجبره الاحتجاجات الشعبية على الخروج من الحكم، بعد عقدين قضاهما كرئيس للجمهورية. تثار تساؤلات عن المرحلة لما بعد استقالة الرئيس الجزائري من منصبه، دستورياً، وكيف ستكون طبيعة المرحلة الانتقالية في حين يهيمن على المشهد السياسي في الجزائر اليوم الحراك الشعبي الذي أطاح بعبد العزيز بوتفليقة، والجيش الذي كان له دور بذلك على الرغم من ولائه للأخير.