وأخيرا لم يتحقق الرهان على الإسلاميين الجزائريين لأن يحققوا في تشريعيات 10 ماي ما سبق وأن أنجزه أقرانهم في مصر وتونس والمغرب·· ما الأسباب التي أدت إلى مثل هذا السقوط، والنتائج المفجعة للعائلة الإسلامية في الجزائر؟! حصد التكتل الأخضر الذي جاء في المرتبة الثالثة 48 مقعدا، بينما حصد حليفاه السابقان، في الحلف الرئاسي، وهما الأفالان 200 مقعد، والأرندي 68 مقعدا·· وكانت هذه النتيجة الهزيلة مخيبة لآمال المراهنين على انتصار الإسلاميين الجزائريين مجددا، بعد سنوات على المفاجأة الكبرى والتاريخية التي حققها حزب الإنقاذ في بداية التسعينيات·· هل يعني ذلك تراجع التيار الإسلامي بشكل عام ومطلق لتعود الريادة من جديد للتيار الوطني والممثل أساسا في حزب جبهة التحرير الوطني الذي نادى البعض بإعادته إلى المتحف بعد أن اتهم عشية أحداث أكتوبر 88 بقيادة الجزائر إلى الهاوية والإفلاس السياسي، وبعد أن راهن عدد من المراقبين على انهياره وانحطاطه خاصة بعد الصراعات الأخيرة التي اندلعت بين أنصار أمينه العام عبد العزيز بلخادم وخصومه؟! عندما نتحدث عن التكتل الأخضر، فإننا نشير أساسا إلى نواته الصلبة، وهي حركة مجتمع السلم ذات المرجعية الإخوانية ونستطيع القول أن هذه التشكيلة عرفت منذ بداية نشأتها الرسمية صعوبات جمة على صعيد التأثير والإنتشار··· لأنها منذ لحظة الولادة الشرعية وُوجهت بقوة سياسية إسلامية ذات طابع شعبوي، وهي التي كانت ممثلة في جبهة الإنقاذ بحيث تمكنت هذه الأخيرة من افتكاك زمام المبادرة فأعلنت عن نفسها كأول حزب إسلامي يسعى إلى التعبير عن كل الجزائريين وليس عن فئة حزبية أو اجتماعية من الجزائريين، وكان ميلادها في خضم أحداث أكتوبر 88 فامتصت الغضب الشعبي ضد النظام الحاكم وحزبه الوحيد وطرحت نفسها بسرعة كبديل له، حاملة شعار الإسلام هو الحل، ومن هنا فوتت الفرصة على الإخوان المسلمين الذين كانوا مترددين في النزول إلى الشارع، والتوجه بخطابهم إلى مجموع الجزائريات والجزائريين، وهي إلى جانب ذلك تأقلمت مع الراديكالية في المطالب الإجتماعية والسياسية التي كان يحملها الجزائريون، فأضفت عليها الطابع الديني، والشعبوي، وعندما جاءت ولادة الإخوان الرسمية متأخرة كان القطار قد فاتها لتكون المعبر عن احتجاجات الغاضبين من الجزائريين، وهذا ما أدى بالإخوان الجزائريين لأن يُنظر إليهم من قبل الإسلاميين الراديكاليين باعتبارهم طابورا خامسا، وقوة مصطفة إلى جانب السلطة للحد من قوة التأثير التي لمعت بها جبهة الإنقاذ، وكان إيقاف المسار الإنتخابي بمثابة قوة الدفع للإخوان للإصطفاف بشكل واضح إلى جانب السلطة، بحيث انخرطوا في برلمان غير شرعي ومنحوا الشرعية لنظام غير شرعي في نظر الإسلاميين الراديكاليين عندما دخل الراحل الشيخ نحناح سباق الرئاسيات عام 95 الذي كان محسوما مسبقا لصالح مرشح السلطة ليامين زروال·· وكان الجزء الذي تحصل عليه الإخوان من قبل السلطة هو حصولهم على أصوات معتبرة في البرلمان عام 1997 وبالتالي منحهم حقائب وزارية ليكتمل المسار المشبوه في نظر الراديكاليين عندما دخل الإخوان إلى جانب الأفالان وحزب التجمع الوطني الديمقراطي وهما وجهان لعملة واحدة في نظر المعارضة الإسلامية الراديكالية في حلف رئاسي منذ مجيء بوتفليقة إلى الحكم في نهاية التسعينيات· الإسلاميون، مائدة السلطة والطورطة المسمومة منذ أن عاد بوتفليقة إلى الحكم وهو يحمل أجندة واضحة المعالم، وكانت تتمثل في تقوية موقع الرئيس كحاكم بونابرتي يمتلك بين يديه كل الصلاحيات وكل خيوط اللعبة وذلك على حساب وجودة قوة سياسية متعددة الأقطاب والأطياف·· وكانت نظرته ترتكز على إعادة صياغة المشهد السياسي على لاعبين أساسيين، اللاعب الوطني المهيمن واللاعب الإسلامي المعتدل كعنصر تابع ومكمّل في أحسن الحالات ليأتي بعدها وعن مسافة بعيدة اللاعب الديمقراطي شبه العلماني·· ومن هنا سعى إلى استقطاب كل من كان بإمكانه أن يتحول إلى قوة سياسية جديدة صاعدة ومقلقة تحت ثوب الإجماع، فقضى على العلمانيين الديموقراطيين عندما جرّهم بخدعة الإستحواذ من فتات على مائدة السلطة وبالتالي جرّدهم من مصداقيتهم الرمزية مثل الأرسيدي، وعمل على تقليم أظافر الإخوان الذين أصبحوا مع الوقت قوة سياسية مروّضة راحت تفقد شعبيتها وصدقيتها بمرور الزمن، خاصة بعد فضائح الفساد التي تورط فيها عدد من الوزراء الإخوان وكوادرهم على مستوى مركزي ومحلي·· وقد أدى ذلك إلى إحداث صدع داخل التيار الإسلامي المتحالف مع السلطة، وإلى اضمحلال هيبتهم وتمييع خطابهم الذي فقد الكثير من النقدية والوضوح·· وانتهت هذه الحالة العصيبة التي مر بها الإخوان إلى انشقاق عبد المجيد مناصرة وعدد من كوادر الإخوان ليؤسسوا حزبا جديدا، تحت مسمى جبهة التغيير، وذلك من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه لكن المحاولة جاءت في وقت جد متأخر·· ومن هنا فإن الربيع العربي الذي تحول في عدد من البلدان العربية الأتوقراطية إلى ربيع إسلامي لم تتكرر نسخته المتوقعة في الجزائر التي كان ينتظر حدوثها المراقبون الغربيون أساسا، والمراقبون العرب·· وهذا ما سيعزز أطروحة القائلين باستثناء الحالة الجزائرية·· لماذا وكيف سقط جاب الله؟! منذ الثمانينيات حرص جاب الله زعيم تنظيم النهضة في السبعينيات والثمانينيات أو ما يمكن أن نسميه بجماعة الشرق، أن يغرد خارج السرب·· فاختلف مع زعيم الإخوان الراحل محفوظ نحناح تنظيميا عندما أراد أن ينازعه قيادة الإسلاميين القريبين من تيار الإخوان، ثم اختلف مع قيادة الإنقاذ في بداية التسعينيات لنفس السبب أي الزعامة، ثم اختلف مع أنصاره الذين افتكوا منه تنظيمه مرتين·· وبرغم كل ما حدث له داخل التيار الإسلامي ظل جاب الله، يعتقد أن شخصه يكفي ليكون بديلا عن التنظيم وما يتبعه لوبيات وشبكات داخل المجتمع·· ومن هنا كان يعتقد عندما قرر دخول تشريعيات 10ماي تحت مسمى جديد، أنه سيثأر لنفسه من خصومه الإسلاميين الذين تحالفوا على السلطة ومن السلطة التي يعتقد أنها ألّبت عليه أنصاره، معا·· وكانت النتيجة التي حصل عليها في تشريعيات 10ماي، (7 مقاعد) بمثابة الضربة القاضية التي لم يرها ولم يكن مهيأ نفسه لتلقيها·· ومن تتبع مسار جاب الله عن كثب، لا يجد في ذلك مفاجأة·· لأن جاب الله برغم طول باعه في النضال، لم يكن مستعدا لممارسة النقد الذاتي لتجربته السياسية، ولهذا فهو لم يقم بتجديد خطابه، فخطابه ظل هو، هو أي نفس خطاب التسعينيات بينما أشياء كثيرة تغيرت في المشهد السياسي في ظل التحولات الإجتماعية، والتحولات الذهنية والثقافية داخل وخارج الوعاء الإسلامي·· بل أن التحولات أصابت الوعاء الإسلامي نفسه وعملت على تحويله·· كما أن جاب الله لم يقم بإعادة النظر في آليات التعبئة والتجنيد والإستقطاب، ولم يعمل على بناء القنوات المساعدة على التواصل مع الصوت الناخب إلى جانب إهمال جاب الله للخريطة التي انطلق منها كداعية ثم كسياسي، فلقد انفصل عنها وتعاطى معها كقطعة ثابتة وجامدة وغير متحولة ومكتسبة، والدليل على ذلك أنه لم يتحصل على أصوات في مسقط رأسه··· هل انتهى زمن الإسلاميين؟! يكون من السذاجة والتسرع إذا انتهينا إلى القول بنهاية زمن الإسلاميين في الجزائر اعتمادا على النتائج الهزيلة التي حققها الإسلاميون بشتى تنظيماتهم في هذه التشريعيات·· لأن الوعاء الإسلامي لازال غير مرئيا على المستوى السياسي بعد كل هذه السنوات التي تم في ظلها حظر جبهة الإنقاذ من النشاط السياسي العلني، فالوعاء الإسلامي يتشكل أساسا من التيار السلفي بلونيه الإحتجاجي والعلمي، وهذا التيار عزف في الوقت الراهن عن الإنخراط في اللعبة السياسية والإنتخابية، لكن لم يكف عن النشاط الديني والإيديولوجي والإجتماعي داخل الجمعيات الخيرية، وداخل المساجد الرسمية وغير الرسمية، وداخل المدن الكبرى والطرفية وفي أعماق القرى والأحياء الشعبية وداخل المؤسسات التربوية·· وهذا التيار ظل يحتفظ باحتقاره وتبرئه من التيار الإسلامي الشرعوي والذي مثّل الأحزاب التي انخرطت في اللعبة السياسية خلال العقدين الأخيرين·· ولقد لاحظنا هذا التيار في خروجه عن صمته ومغارته في لحظات التأزم الحرجة في ظل الفترات العصيبة والتي يميزها الإحتجاج الشعبي الحاد المتسم بالعنف، مثل الأحداث التي عرفتها الجزائر منذ أكثر من سنة في شهر جانفي·· وعلى هذا الأساس نقول أن انتصار التيار الوطني المحافظ على الإسلاميين الشرعويين جاء لا ليحقق لحظة فاصلة في تجاوز الإسلاميين، بل كان هذا الإنتصار تعبيرا عن مقاطعة جزء كبير من هذا التيار السلفي للإنتخابات وعن الأزمة العميقة التي يعيشها التيار الإسلامي الشرعوي بسبب الإستراتيجية التي تبناها منذ العشرين سنة الأخيرة·