تعززت المكتبة الوطنية حديثا بعمل روائي جديد للكاتب والإعلامي إسماعيل يبرير تحمل عنوان “منبوذ العصافير” الصادرة في طبعتين جزائرية عن منشورات دار الحبر، وعربية عن منشورات العين المصرية، والتي يجمع فيها الكاتب بين الواقع والخيال ويبحث في كيفية قبول الأخر والتعايش معه. تعتبر رواية “منبوذ العصافير” العمل السردي السادس في مسار الروائي، وتقترب من عالم مختلف عن رهاناته السابقة، ففي ثلاثيته السابقة “باردة كأنثى”، “وصية المعتوه”، “مولى الحيرة” كتب عن المكان ودافع عنه، كما ضبط عدسته على الحركات الداخلية لأبطاله، غير أنه في الرواية الأخيرة يختار مكانا افتراضيا غير حقيقي، وإن كان في جزء منه هو مكان محتمل في الفضاء الجزائري، ويركز على الشخوص والسرد والحكاية باقتصاد واضح. تنفتح “منبوذو العصافير” على قرن من الزمن، تشكلت فيه المدينة الافتراضية التي اسمها “العين”، وعلى مسافة قريبة بلدة اسمها “باب العين”، في هذا الفضاء ينشأ ازدحام بشري من شخوص الرواية الذين جاؤوا من جهات مختلفة وإثنيات عديدة، هناك مارك الألماني الذي هاجر من بلاده وادّعى أنه فرنسي ثم تحول إلى جزائري، وقد أنجب أولادا عمروا بعدهُ، وصار له أحفاد يحملون دمه، ويحضر مارك الثاني حفيده الذي يسعى لكتابة رواية مختلفة، ثم لا نعرف إن كان يكتب رواية أم يسرد سيرة حقيقية. وتوجد ليلى والتي هي في الأصل ريبيكا اليهودية بنت كوهين بن موريس، عجوز تحب الولهي (أحد الأبطال الرئيسيين للرواية) بعد رحيل زوجها “الكافي”، وقد هاجر أهلها سنة 1947 إلى وجهة مجهولة، يعتقد أنهم من اليهود الذين أسسوا إسرائيل، تخفي هويتها على أبنائها وأحفادها، غير أن زوجها يعرف هويتها وسيتوقف عن حبها إن لم يكن قد كرهها إثر تأسيس إسرائيل. توجد أيضا سيمون الفتاة الفرنسية التي تساعد الثوار وتحب وتتزوج بشار بن مارك الأول، ثم يتخلى عنها ويتنكر لها، وتجد نفسها في تيه قبل أن تعثر على سليمان القصاب (عازف ناي) ويلتقطها، ثم يقتله الفرنسيون، فتقرر الانتقام له بالالتحاق بالثوار. بالإضافة إلى الوافدين غير الأصلاء من السكان، يوجد الولهي رجل متعلم ومثقف أحب وفشل حبه فهاجر من بلدته “باب العين” ثم عاد مختلفا يرتدي عباءة الزهد والحكمة، ولكنه عاد أيضا حكاء يخيط القصص للناس ويبالغُ في تقديس الحب، يقيم في كوخ على أطراف البلدة. تبدو الرواية كمشاهد مسرحية متلاحقة، ففي كل مرة تميل كفة الحكاية إلى واحد من الشخوص، لكن للعصافير حضورا رمزيا، يقيس به الكاتب الحرية والحياة والتجرد من الآخرين، تلك العصافير التي يلاحقها سكان الفضاء الروائي منذ مطلع القرن، ولهذا فرت وغادرت إلى مكان مجهول ترقب منه البشر، وبدأت الملاحقة منذ جاء اليهودي موريس بعصفور حسون من أوروبا ليحميه من الطاعون الذي ضرب العين، مستندا إلى ميثولوجيا تقول إن من يملكه ينجو من الطاعون، لكنه باعه لأحد الأثرياء بمقابل كبير، هذا الأخير حرره، فرصد اليهودي موريس مكافأة كبيرة لمن يصطاده، لهذا اجتمع الناس للحصول عليه وطاردوا كل عصافير الحسون في المكان الذي أطلق فيه الحسون الأوربي. تدافع الرواية عن فكرة المواطنة ضمنيا، فلا توجد أي إشارة أيديولوجية أو سياسية، لكن القراءة العميقة تجعلنا نعتقد بأن يبرير يقول إن الأرض لا ترفض وافدا إذا ارتبط بها وأحبها وخدمها، إنها رواية تتشكل على معنى وقيمة التعايش وقبول الآخر، لأن البشري لا يعرف عادة بأن بعض الكائنات تنفر منه، ولربما جدد الكاتب رهانه على الأسلوب فكتب بلغته المميزة، وقدم الحكاية بكثير من المراوغات الجميلة التي تجعل القارئ يعيد في كل مرة الفقرة وكأنه في اختبار، لكنه لم يغفل أبدا الأسئلة التي علقت بالتاريخ عن موقع وحقيقة الوجود اليهودي والفرنسي في الحياة العامة للجزائريين، وعن مفاهيم الهوية الغامضة، وكذلك عن الحرية والحب، وفي النهاية تبدو الرواية وكأنها ملحمة من أجل الحب الذي يشكل الهوية المشتركة أو ما يشبه التيار الذي يجرف كل النفوس أو ينقذها.