بقلم الأسير: حسام زهدي شاهين ** سجن نفحة الصحراوي غالبية الناس تبدأ مسيرة حياتهم مع الحياة، إلا مقاتلي الحرية، فمسيرة حياتهم تبدأ مع الموت، مع الحرب التي يتعلمون منها حب الحياة أكثر، ويكتشفون في معمعانها التفاصيل الصغيرة التي تطرز حواشيها بالأمل، وتجعل من قيمة أصغر الأشياء بحجم قيمة أكبرها، لذلك يزدادون شراسة في فوضى معاركهم من أجل إسترداد ما سرق منهم، ودفاعاً عما يمكن أن يسرق من شعبهم، بعد أن يكونوا قد اكتشفوا مذاق الوطن بطعم الندى من على براعم نرجسة تُصلي في بهاء الكرمل، ويفوح عبق عطرها مع نجمة الصباح على صدر القدس العتيقة، ليحاكي عناقيد عنب تحتويها أيادي جداتنا في كروم قباطيا. ببساطة هذا هو الكمال في حب الوطن، ومن رحمه جاء كمال أبو وعر، الفدائي الذي يقدس الوطن، ويرى فلسطين في كل الأشياء، يراها في زهرة برية تشق طريقها بصعوبة بين حجرين، كما يراها في برتقال يافا، وفي جبال الجليل، يراها في بحر غزة وفي أعراس الفلاحين وفرحهم بعد موسم وفير، ويراها في مدن تعج بالحياة، وفي ترانيم الميلاد، والأناشيد النبوية، أو عند غروب الشمس أو ساعة إشراقها في حقائب اللاجئين. كمال الأسير بحب الوطن من قبل أن يكبل الإحتل معصميه وقدميه بستة مؤبدات وخمسين عاماً، قطف من عمره أجمل السنوات ليصنع منها غيمة تكلل رأس الجرمق، وبعد أن أُسر الوطن بحبه لقن السلاسل أناشيد الحرية بينما تحمله البوسطة في جوفها متنقلة بين الشتاء والصيف، وكلما التقينا في محطة من محطات الزمن المتشظي بين اليأس والأمل، كان يبتسم ويقول لنا: يكبر الوطن فينا بحب أصغر الأشياء فيه، ونصغر كثيراً إذا ما اختزلناه بأكبر الأشياء فيه!! كمال مقاتل شجاح، لحظة أبلغوه بأنه مصاب بسرطان الحنجرة من النوع الخطير، عاد من المستشفى مبتسماً وكأن شيئاً لم يكن، استيقظ مبكراً كعادته، وفي ساحة سجن جلبوع حيث كنا نمارس الرياضة، اقتربت منه لأرفع من معنوياته وأعزز من صموده، فقلت له: أتمنى لك السلامة ودوام الصحة والعافية من كل قلبي. وكعادته نظر إلي بوجهه البشوش المحاط بهالة أمل، وقال لي: أجراس العودة تناديني يا صديقي، سأعود إلى رحم فلسطين الذي لن يستطيع أن يخرجني منه أحد إلا الله، وسأدفن عمري بالطريقة التي أشتهيها، فأنا يا صديقي لازلت أرى النهار في العتمة، بينما غيري يُصر على أن يرى العتمة في النهار، دافعوا عن وحدة الحركة الأسيرة، وانبذوا من بينكم كل الآفات التي تراكمت طوال السنوات الماضية جراء الصمت والإهمال!! وأتمنى أن تسارع إلى إنهاء رياضتك لأنني أرغب أن أقبل سيجارتي؟! وقفت مذهولاً تحت وطأة الصمت من قوة عزيمته، رغم أنني أعرفه جيداً، أدار ظهره ومشى عدة خطوات ثم توقف فجأت، إلتفت نحوي مجدداً وقال: أخي حسام على ما يبدو بأني سأفقد حنجرتي من كثرة الصراخ الذي لم يعد يسمعه أحد، لقد تراكم الغبار فوق الكلمات الصادقة على طاولات المسؤولين، وأوراقهم أصابها الصمم!! أدار ظهره مجدداً، وقهقه بصوت مرتفع، وقال: سأودع صوتي قبل أن يصبح حلماً، الموت نعمة لمن يعرف طريق الحرية والشهادة، سأترك لكم ذاكرتي فوق هضاب قباطيا، حاولوا أن تلتقطوها مع دموع الندى!! كمال كبقية الأسرى الذين استبدل معظمهم قلبه بفلسطين، وكفن أيامه بترابها، ونثر الفاتحة، وتراتيل الإنجيل زنبقاً على ضفاف طبريا، ونذر روحه جسراً لكي يعود المشردين إلى وطنهم عبر الحدود الطبيعية، كفى لعودهم عبر بوابة السماء!! خلال إضراب "العزة والكرامة" في العام 2017، وتحديداً في يومه الخامس والثلاثين التقيت وصديقاي منصور شريم ولؤي صوان بكمال ونحن مكبلين فوق أسرة الإحتضار في إحدى مشافي الإحتلال، كنا فخورين بموتنا الذي تأخر قليلاً لأننا كنا نمتطي حصان الوفاء الذي ترك الخيانة وراءه تتعفن فوق قارعة الزمن، وصار همزة وصل بيننا وبين أسماءنا، بيتنا وبين كريم يونس الذي عبد لنا طريق الحرية بثمانية وثلاثين عاماً من عمره ولازال يبتسم، بيننا وبين أم كريم وكل الأمهات اللواتي جبلن بدموعهن تراب الوطن وغرسن لنا على بوابة كل سجن شجرة رمان، بيننا وبين مروان البرغوثي الذي دُفن حياً في مقبرة سجن الجلمة وعاد الينا حياً بعد أن صوموه عن الحياة أربعين يوماً. بينما كنا نطمئن على أخبار بعضنا البعض، إقترب منا أحد السجانين الذي تناوبوا على حراستنا لكي يمنعوا الأمل من التسرب نحو الغد مع ساعات الفجر الأولى، وبسخرية القوي بعضلات البندقية سالنا: أمن أجل إجراء مكالمة هاتفية وزيارة ثانية تموتون؟؟ تنطح لإجابته كمال قائلاً: هل تستطيع أن ترى الوجع أو الكرامة أو الحب أو الكراهية؟ فأجاب السجان قائلاً: لا، لا أستطيع أن أراها لكنني أستطيع أن أشعر بها! فقال له كمال: بالضبط، الحرية المفقودة وجع، والكرامة الناقصة وجع، والحب المغموس بالحرمان وجع، والكراهية العمياء وجع. نحن نحارب من أجل التخلص من أوجاعنا، وأنت تجلس هنا لتحرس أوجاعك وتصنع أوجاع الأخرين!! لازالت قافلة الأسرى المرضى تسير نحو الموت على عجلات من الإهمال الطبي المتعمد، والفشل السياسي الذريع، والتواطؤ الدولي المُعيب، وكراهية الإحتلال لحياة الفلسطيني، وعلى رصيف دربها تنتصب مائتا وأربع وعشرون سنديانه، تحاكي نجوم السماء بلغة القربان على مذبح الأنبياء، معلقة ذكرياتها على صدر الوطن لعنة لكل من كان بإمكانه إنقاذها ولم يعتذر عن سوء أدائه، بعدما أغرق أمهات النخيل بشعارات جوفاء لاقيمة لها، ومديحاً لأولئك الذين لازالوا يقبضون على الجمر بأياديهم العارية وأمعاءهم الخاوية وما بدلوا تبديلاً!