عاد النقاش بقوة في السنوات القليلة الماضية بشأن القوى الناعمة العربية، وانصب هذا النقاش بالأساس حول 3 أسئلة رئيسية، أولها: هل تراجعت القوة الناعمة لبعض الدول العربية التي اشتهرت بها تاريخيا؟. وباعتبار أن الإجابة على هذا السؤال كانت محسومة سلفا دون بحث أو عناء أو اجتهاد بالنظر إلى حالة التراجع التي لا تخطئها عين في منتجنا العربي الثقافي والأدبي والفني كما وكيفا، لذا كان السؤال الثاني: لماذا؟ لماذا تراجعت القوة الناعمة لهذه الدولة أو تلك، ولماذا فقدت هذه القوة جاذبيتها؟ ولماذا توقفنا عن توليد وإنتاج قوى ناعمة جديدة؟ وبالطبع كان السؤال الثالث: كيف تستعيد هذه الدول تأثيرها مرة أخرى خارج حدودها، من خلال قوتها الناعمة؟ هذه الأسئلة الثلاثة كانت محل سجالات فكرية ونقاشات أكاديمية كثيرة خلال العامين الماضيين، ونظمت من أجل الإجابة عليها الكثير من الفعاليات الثقافية، وكتبت الكثير من المقالات، معظمها بالغ في التهوين والاستعلاء، وبعضها بالغ في التهويل وجلد الذات، وقليل منها عالج الأمر بموضوعية، وإن كانت جميعها انطلقت من دافع الحرص على استعادة الدول العربية مكانتها دوليا بريقها ودورها في محيطها الإقليمي بتوظيف ما تملكه من موروث حضاري وثقافي كبير. في محاولة للاشتباك مع هذا الجدل الفكري، والإجابة على هذه الأسئلة الثلاثة، يمكن القول ابتداءً إن إشكالية التعاطي مع مفهوم القوة الناعمة في الساحة الفكرية العربية تمثلت في اجتزاء هذا المفهوم واختزال عناصره في الجانب الثقافي المتمثل في الفنون والآداب وصناعة السينما والإنتاج الدرامي، وبالتالي رهن من تصدى للأمر تقدم دولة عربية أو تراجعها على مؤشر القوى الناعمة بمدى تقدم أو تراجع الإنتاج الفني والسينمائي والأدبي والدرامي. على سبيل المثال، هناك من يرى أن معاودة استخدام فنون مصرية، عمر بعضها تجاوز نصف قرن، تكفي دليلا على تدهور "ترسانة القوى الناعمة المصرية"، ودافعا مهما للاعتراف بأن هذه القوة "فقدت جاذبيتها وأن مصر توقفت عن توليد قوى ناعمة جديدة".. مثل هذه الآراء وهي كثيرة تتجاهل أمرين مرتبطين.. أولهما ما طرأ على العالم من تغيير، نتيجة ثورة التكنولوجيا ودخول وسائل اتصال جديدة، وما أحدثه ذلك من انفتاح الشعوب العربية على ثقافات الآخرين وفنونهم، وبعضها مختلف كليا عما كان سائدا في الخمسينيات والستينيات، وهو ما أدى بدوره إلى تبدل مزاج شعوب المنطقة ومدى تقبلها وتأثرها بما كانت تصدره مصر من منتج فنى وثقافي، وكان مصدرا لتأثيرها ووجودها، وبالتالي تراجعت جاذبية النموذج المصري أمام المواطن العربي، في ظل ما أتاحته وسائل التواصل الحديثة من نشر نماذج منافسة أصبحت تملك هي الأخرى مقومات للقوة الناعمة، خاصة أن ذلك تواكب مع انشغال مصر بقضاياها الداخلية بعد أحداث عام 2014، وتراجع مستوى الاهتمام بالخارج. الأمر الثاني مرتبط بالتغيرات التي طرأت على مفهوم القوة الناعمة نفسه. فعلى الرغم من أن المصطلح حديث النشأة نسبيا، حيث كان الأكاديمي والعسكري الأميركي السابق، "جوزيف س. ناي، أول من استخدم مصطلح "القوة الناعمة" عندما صاغ لبنات هذا المصطلح في كتابه "وثبة نحو القيادة" (Bound to Lead) الذى أصدره في عام 1992، ثم أعاد استخدامه في كتابه "مفارقة القوة الأميركية" (The Paradox of American Power) الصادر عام 2002، حيث وضعه كعنوان فرعى صغير شمل عددا محدودا من الصفحات، ثم توسع ناي فيما بعد في المفهوم؛ فوضع كتابًا كاملا عام 2004 بعنوان "القوة الناعمة: وسيلة النجاح في السياسة الدولية"، بهدف تسليط الضوء على قدرة بعض الدول على استثمار عناصر الجذب الحضارية والثقافية، دون الاضطرار إلى اللجوء للإكراه، بهدف الإقناع ونشر الدعاية والفكر الوطني، عبر الآداب والثقافة والفنون والقيم السياسية. . ويعرّف ناي القوة الناعمة بأنها «القدرة على صياغة خيارات الآخرين، والحصول على ما تريد عبر الجاذبية أو السحر (Charm or Attractiveness) بدلا من "القهر أو الإكراه"، إلا أن المصطلح ما لبث أن انفصل عن مؤلفه واحتل مساحات كبيرة من الجدل الأكاديمي والفكري، وظهرت محاولات كثيرة لتحليله وقياسه، وظهرت تقارير ترتب الدول على مقياس للقوة الناعمة يضع معايير متعددة لقياس تلك القوة لكل دولة، هذه المعايير تتجاوز الفن والثقافة إلى عناصر أخرى أكثر شمولا وأهمية. وأدت هذه المحاولات إلى تغير كبير في المفهوم عن صياغته الأولى التي ظهرت على يد "ناى". ومن أهم المحاولات لقياس هذا المفهوم وضبطه، وفقا لمعايير محددة قابلة للقياس، هو مؤشر "القوة الناعمة 30″، وهو مؤشر سنوي طورته في عام 2015 مؤسسة بحثية أميركية مهمة وهى مركز الدبلوماسية العامة (CPD) التابع لجامعة جنوب كاليفورنيا، بالتعاون مع شركة "بورتلاند" البريطانية للعلاقات العامة والاستثناءات، لقياس قدرة دول مختلفة على التأثير في البلدان الأخرى عن طريق قيمها الاجتماعية، بدلا من الأموال أو الأسلحة، وصولا لقائمة بأعلى 30 دولة امتلاكا للقوة الناعمة. وتقوم الجهات المطورة للمشروع بوضع القائمة، انطلاقا من مؤشرات «موضوعية» Objective data وتسهم بنسبة 70 بالمئة في عملية تقييم القوة الناعمة للدولة، ومؤشرات "غير موضوعية" Non-Objective data، وتساهم بنسبة 30 بالمئة في تحديد ترتيب الدولة على مؤشر القوة الناعمة، ومن المؤشرات الموضوعية، يعتمد التقييم على عدة مؤشرات، أولها صيغة إدارة الدولة ومدى جودة المؤسسات السياسية فيها، وثانيها مدى جاذبية النظام الاقتصادي للدولة واجتذابه لمشاريع المستثمرين حول العالم. وثالثها مدى الانتشار الثقافي للدولة عالميّا، وهنا يدخل عدد السائحين في كل دولة ونسبة إنفاقهم، وعدد الأفلام السينمائية التي تنتجها الدولة وتشارك في المهرجانات الكبرى، وعدد المراسلين الصحفيين الأجانب في كل دولة، وعدد مواقع التراث العالمي فيها، ومدى قوة لغة كل دولة، وعدد الميداليات الأوليمبية التي حصلت عليها في آخر دورة أوليمبية، وموقع المنتخب الوطني لكرة القدم في تصنيف الفيفا، وحجم السوق الموسيقى في الدولة، ومدى سمعة وكفاءة شركة الطيران الوطنية، وعدد المطاعم في الدولة الحاصلة عل "نجمة ميتشلن". وثالثها مدى سمعة وشهرة نظام التعليم العالي الخاص بالدولة خارجيا، ورابعها مدى مشاركة الدولة في حل القضايا العالمية وقوة العلاقات الدبلوماسية للدولة ويقاس هذا المؤشر بمعايير من قبيل عدد البعثات الدبلوماسية للدولة في الخارج، وعدد البعثات الدبلوماسية على أراضي الدولة، وعدد بعثات الدولة في المنظمات الدولية، وحجم إسهام الدولة في المساعدات الدولية، وعدد ما تستقبله الدولة من طلبات اللجوء، وعدد البعثات الثقافية للدولة في الخارج، وعدد الدول التي يستطيع مواطني الدولة زيارتها، دون حاجة للحصول على تأشيرة دخول، وآخرها مدى التواصل الرقمي والتكنولوجي للدولة مع العالم ويشمل هذا المؤشر عدد المتابعين خارج الدولة لحساب رئيس الدولة ووزارة الخارجية على موقع فيسبوك، وعدد مستخدمي الإنترنت داخل الدولة، وسرعة الإنترنت وعدد الخوادم، وعدد الخدمات الحكومية المقدمة إلكترونيا، وعدد مستخدمي الهواتف الجوالة. أما المؤشر غير الموضوعي، فيتم تحديده، انطلاقا من نتائج استطلاعات آراء في 25 دولة. ومن الأسئلة التي طرحت على المشمولين بالاستطلاع: تقييم المطبخ القومي لدولة ما، والسلع التي تنتجها الدولة، بما في ذلك السلع التكنولوجية والكماليات، ونظافة شوارع المدن، والترحيب الذي يتلقاه الزوار من قبل السكان، ومدى الإسهام في الثقافة العالمية، ومدى جاذبية الدولة كمكان للعمل أو الزيارة أو الدراسة. وقد أعطى التقرير وزنا نسبيا لكل مؤشر من المؤشرات الموضوعية الست يعكس مدى أهميته في تقييم القوة الناعمة للدولة، وكان مؤشر الحكومة هو الأكثر أهمية، حيث بلغ وزنه النسبي بين المؤشرات 14.6 بالمئة، وجاء في الترتيب الثاني المشاركة العالمية، والسياسة الخارجية، وقوة العلاقات الدبلوماسية بنسبة 12.6 بالمئة، فيما جاء الاقتصاد في المركز الثالث، والتعليم في المركز الرابع بنسب 12.5 بالمئة و 11.6 بالمئة على التوالي. وجاء التواصل الرقمي للدولة في المركز قبل الأخير بنسبة 9.8 بالمئة، فيما حلت الثقافة في المركز الأخير بنسبة 8.9 بالمئة. وللحديث بقية في المقال المقبل حول موقع الدول العربية على خريطة القوى الناعمة وفقا لهذه المؤشرات.