لم يكن تواجدنا بمستشفى أسعد حساني الجامعي ببني مسوس مجردّ صدفة، بل حتمية أملتها علينا الظروف..ولأننا عشنا مواقف لا تمت لمكان وجد لعلاج المرضى أو مساعدتهم على الشفاء بأية صلة، ...... أرادت "الحياة العربية" نقلها لقرائها الكرام، بل وتسعى من خلالها لإيصال صرخة الضعفاء إلى أعلى المستويات، علّهم ينقذون من خانتهم صحتهم في لحظة من لحظات الحياة ولأن موضوع المستشفيات وسوء حالتها في الجزائر موضوع ليس بجديد على التناول الإعلامي، سعت "الحياة العربية " للغوص لأبعد من ذلك، وقضت عدّة ليالي رفقة المرضى بمستشفى بني مسوس، وحاولت بكل الطرق التي تفرضها الغريزة المهنية عندما تتحرك، نقل صورة واقعية، لا نقول ليوميات المرضى، لأن النهار تستر فيه العيوب هناك، بل لياليهم الحالكة في مراكز إهمال معتمدة رسميا... المحتضرون يموتون ..والمرضى يصدمون ويلحقون.. كانت بداية إقامتنا بمصلحة مرضى الربو والحساسية، وهي في الواقع أحسن مصلحة من حيث المبنى والهياكل، وكلّ شيء عادي نهارا، أطباء بالجملة، وممرضات وممرضون لا عدّ لهم، وعاملات النظافة يتنقلن هنا وهناك، والحارس في مكانه، والوضع يبعث على الارتياح.... ولا تسمع من حديثهم سوى "البروفيسور قادم"، "احترس من البروفيسور"، "لو سمع البروفيسور هذا أو رآه ستكون نهايتك"... حتى الأطباء يخشونه، وكأنه وحش سيلتهمهم. لكن بمجرّد حلول المساء، وبالضبط الساعة الثالثة زوالا، يغادر الجميع، ولا يبقى سوى ممرضان حتى الساعة السابعة ليلا، ليغادرا هما أيضا، ويحلّ محلهما آخران مناوبان ليلا، وهكذا دواليك... في البداية، كان الأمر عاديا للغاية، لكن بمرور الأيام، بدأنا نشعر بمجرّد دخولنا باب المصلحة برائحة غريبة، لم نكن نعلم بأن رائحة الموت بدأت تعم المكان، وفي كلّ ليلة كان يموت أحدهم. وعندما سألنا عن سبب ارتفاع عدد الموتى بهذه المصلحة دون سواها، قيل لنا إنّها الوحيدة التي تستقبل الأشخاص الميئوس من شفائهم، في حين ترفض مصالح أخرى توسيخ سجلاتها بأسماء الموتى، كي لا يسألوا على ذلك. حميد شفي ليموت...ومصطفى أسعف بعد فوات الأوان حميد "رحمه الله"، كان عند مجيئنا يشارف على الشفاء، إن لم نقل شفي تماما، وبقي فقط صدور قرار الطبيب بالخروج. كان الجميع يحبه، من مرضى وعمال بالمستشفى، لكن حدث وأن مات مريض كان يقاسمه الغرفة، وكان هو من شهد لحظاته الأخيرة، وبقي صامدا حتى أخرج من الغرفة، ونقل إلى مصلحة حفظ الجثث.. وبعد أيام، أصيب حميد بصدمة عنيفة، أدت إلى إصابته بشلل نصفي، فقرروا تغيير غرفته، وفعلا شفي قليلا...لكن أيامه كانت تشرف على الانتهاء، وأصبح يقضي كل ليلة في الرواق حتى انهار تماما، ولحق برفيق غرفته إلى الرفيق الأعلى.. نفس الشيء حدث لعديد المرضى ممّن كانوا بالمصلحة، ففي كلّ ليلة، يتفاجىء المرضى بالأطباء يركضون في الرواق، والممرّضون يتسارعون، وكأنهم حقيقة في الاستعجالات... مصطفى.. واحد ممّن ماتوا ولم يحظ بحقه في الإسعاف..ففي الليلة التي جاء فيها إلى المستشفى كنّا نحن حاضرين..كانت حالته لا تدعو للقلق، وليست حرجة كثيرا...شاهد التلفزيون، وكان عاديا، لكن بعد منتصف الليل، سمعنا نداءاته المتكررة للممرّضين، صرخ وصرخ ولم يسمعه أحد منهم، رغم أن كل المرضى الموجودين بالمصلحة في تلك الليلة استيقظوا على صراخه...وبعد خروج الممرّض ليقدم حقنة منتصف الليل لإحدى المريضات، سمعه يناديه لكنه لم يذهب مباشرة، بل أمر عاملة النظافة برؤيته، وعندما سألته إحدى المريضات عن حالته، قال لها لا تقلقي إنه "يشخر"...وفعلا كان يشخر، لكن لم يكن نائما، بل كانت سكرات الموت.. فقد كان يحتضر.. عندها صرخت المنظفة بأنه في حالة حرجة، فأمرها بالاتصال بالاستعجالات، مضت عليهم 15 دقيقة، وكان مصطفى قد سكت، ولم يبق يسمع منه سوى الشخير...قدم الطبيب، وأخذ يناديه، لكنه دخل في غيبوبة...قدم أطباء من مصلحة الإنعاش ..ولم نعد نسمع غير آلة ضبط نبضات القلب، وفي كل مرة كانت تذهب فيه المنظفة إلى المرضى لتخبرهم بآخر المستجدات، بقي على ذلك الحال ما يقارب الساعتين، بعدها توقف كل شيء، غادر الأطباء كلهم، وتم إخراج مصطفى جثة هامدة، لتأخذ إلى مصلحة حفظ الجثث...نظفت الغرفة.. وكأن شيئا لم يحدث، ولكن الأسوء هو أن المرضى لم يغمض لهم جفن، بعدما عاشوا تلك اللحظات، وبقي الموضوع راسخا في عقولهم، لا يفكرون إلا في الأسوء. السهرات والدومينو... وصفات لعلاج الممرضين... ممّا شدّ انتباهنا ونحن في المصلحة، هو فوج من الممرضين العاملين ليلا، يضم ممرضين يعملان بنظام يومين بيومين، هذان الأخيران اللذان لا تشعر بوجودهما أصلا، حتى وإن طلبهما المرضى عن طريق زرّ وضع أمامهم لهذا الغرض، إذ وبمجرد وصولهما، يتجهان إلى المكتب ويغلقانه، وبفضل فضولنا الصحفي، تمكنا من الدخول إلى المكتب ومعرفة ما يجري هناك، حيث يعمد أحد الممرضين على جلب مجموعة من أصدقائه من داخل وخارج المستشفى للعب "الدومينو" حتى منتصف الليل، بينما يتجه الآخر للسهر خارجا... أمّا المنظفة، فمهنتها بعيدة كلّ البعد عن طبيعة عملها، إذ تفضل الدردشة مع المريضات، ونقل الكلام هنا وهناك إلى منتصف الليل، حيث تقدم الحقن للمرضى، وبعدها يتجه الجميع للنوم، غير سائلين ولا مبالين حتى بالمرضى الذين لم توصف لهم الحقن. الاستعجالات اسم على غير مسمّى انتقلنا إلى مصلحة الاستعجالات، والتي لا تمت بصلة إلى تسميتها، ونفس الأمر يحدث دائما نهارا... كلّ شيء على ما يرام، أطباء وممرضون، سيارات الإسعاف داخلة وأخرى خارجة، ما ينبأ بأنّ كلّ شيء بخير... لكن بمجرد حلول الظلام، كلّ شيء يختلف، عتمة تعم المكان، لا أطباء، لا ممرضين، فقد حدث وأن جاءت إحدى المريضات على الساعة الواحدة والنصف ليلا، وقصد زوجها مصلحة الاستعجالات الطبية، لكنهم لم يجدوا أحدا حتى للسؤال، طرقوا كل الأبواب إلى أن خرج أحد الأطباء المقيمين، وهو يتثاءب، ما يؤكد أنّه كان نائما..وبعدما فحص المريضة، قال لها إن القولون هو سبب ألمها، وأعطاها حقنة مهدئ، لكن ابن المريضة أكّد لنا في اليوم التالي أنّ وضع والدته ازداد سوء..ثم سألنا مرضى آخرين كانوا هناك حول الموضوع، وإجابتهم هي ما أكّد لنا أن أطباء الاستعجالات لا يعرفون غير مرض القولون.. في حين، قالت لنا سليمة، أخت لإحدى المريضات المقيمات هناك، أن أختها ساءت حالتها في نهاية الأسبوع، ولم تجد أحدا من الأطباء في الاستعجالات، كون يومي الجمعة والسبت عطلة لجميع الأطباء، ولا يبقى في المستشفى بأكمله غير المناوبين، لكنها تأسفت كثيرا عندما لم تجد أحدا، وكأنّها مصلحة دون عمال. ولم ينقص المرضى غير الناموس ومما لا يخطر على بال، أن أكثر الزائرين للمرضى ليلا هم ضيوف ثقيلو الظل، إذ لم يكف المرضى أوجاعهم وأناتهم، حتى زادتهم الحشرات، وخاصة الناموس، همّا جديدا يضاف إلى قائمة معاناتهم...إذ تنتشر بكثرة في الليل حاملة معها دماء مرضى آخرين، مساهمة في انتشار أمراض عديدة عن طريق نقلها للفيروس... حيث أن إحدى المريضات بمصلحة أمراض القلب تتأسف تقول: "عوض أن ننام ونستريح ليلا، نبيت نحرص أنفسنا ونطارد الناموس هنا وهناك خوفا أن يلدغنا، وينقل لنا أمراضا أخرى..علما أنّ مصلحة مرضى سرطان الدم مجاور لمصلحتنا، وهذا ما أثر سلبا على صحتنا، فالنوم عامل مهم في الشفاء". ممرّضات مبتدئات ومرضى فئران تجارب روت لنا إحدى المريضات فقالت: "تناسب وجودي في المستشفى مع دخول بعثة جديدة من ممرضات شبه الطبي، ولسوء حظنا كنّا نحن فئران تجارب لهن، فقد شرعن في تطبيق ما تعلمنه فينا، وما كان علينا سوى السمع والطاعة، وقدمنا لهن أيدينا ليتعلموا تقديم الحقن، ناهيك عن عمليات أخرى، كاستخراج الأسيد من الجسم وغيرها...ثم أردفت صليحة قائلة.... كانت إحدى الممرضات تقوم بغرس الإبرة في يدي اليمنى، وتفرغ نصف الحقنة، ثم تنزعها لتعيد غرسها في اليد اليسرى لتكمل باقي الحقنة دون تغييرها... ونفس الشيء عندما تقوم بأخذ عينات من أجل الفحوصات". واعترفت لنا هذه الممرضة أنّها تلقت مساعدة كبيرة من المريضات، حيث كان لزاما عليها تعلّم التقنيات بسرعة. فطور الصباح يقدم نادرا.. والعشاء على الخامسة والنصف مساء وكما هو معلوم أنّ أغلبية المرضى بمستشفى بني مسوس من ولايات داخلية، أي يقطنون بعيدا عن المستشفى، فنادرا ما يزورهم أحد من الأهل، وحتى وإن قدموا، فلن يجلبوا معهم الغذاء أو العشاء..هذا يعني أنّهم مجبرون على تناول ما يقدّم من وجبات في المستشفى، والأمر لحدّ الآن عادي...لكن ماذا إن كان فطور الصباح نادرا ما يقدم، وإن قدم فالحليب وحده يصل إليهم باردا، وإن لم يكن فتقدم لهم حبّة "الكرواسون"على الساعة العاشرة صباحا...ماذا إن كان لزاما على المريض تناول الدواء صباحا، وهو حتى لم يتناول شيئا... بعدها يقدم الغذاء على الساعة الواحدة زوالا، أي بعد انتهاء دورة الأطباء والفحوصات، ويتزامن ذلك مع دخول الزائرين، ما يحرم الكثيرين من وجبة الغذاء، ولأنّ عاملات النظافة هن من يقدمن الوجبات، ولأنهن يعملن طوال اليوم، فيلجأن إلى تقديم العشاء على الخامسة والنصف مساء في أغلب الأحيان، كي يغادرن باكرا، فيضطر المرضى إلى تناوله باكرا في ذلك الوقت، أو باردا إذا فضلوا تركه إلى وقت آخر. أبواب موصدة ولا أحد غير المرضى بمجرد إنهائنا صعود تلك السلالم الملتوية، والتي تقطع الأنفاس، وقفنا عند ذلك الباب، فشعرنا بقشعريرة تدب في كلّ جسمنا... وما إن تقدمنا نحو الغرف، تنفسنا هواء ممتلئا برائحة الموت..واصلنا التقدم للأمام سمعنا أنات، صرخات، وتنهدات تنبعث من غرف تشبه غرف البيوت المهجورة... لم نكن نتوقع أن تكون الظروف هناك بتلك الصورة، لأننا عندما كنا في مصلحة مرضى الربو والحساسية، كانوا يقولون لنا "هنا أحسن مائة مرة من مصلحة الجراحة"... في ذلك الوقت، قلنا أكيد أنهم يخفون نقائصهم بإلقائها على مصالح أخرى، لكن عندما وقفنا عند باب المصلحة، بدأنا فعلا بالتماس الفرق الشاسع بين المصلحتين. كانت وجهتنا الأولى غرفة الإنعاش، هي غرفة تحتوي على 5 أسرة، ينقل إليها المريض بمجرد خروجه من غرفة العمليات، يدخل إليها من هب ودب، وكأن المرضى في ساحة عمومية، ومن يريد رأيتهم فالمجال مفتوح، متناسين أن مجرد جرثوم واحد يحمله الزوار معهم قادر على إفساد عملية جراحية بأكملها، بالإضافة إلى حاجتهم للراحة الكاملة، وعلى الرغم من معرفتهم لهذه الأشياء أكثر منّا، إلا أنهم لا يحترمونها...وتزامن وجودنا مع خروج مريضتين من غرفة العمليات، ولأن حالة إحداهما كانت حرجة، بقيت 3 أيام في غرفة الإنعاش، لكنها توفيت في اليوم الرابع، وبعدما نقلت إلى مصلحة حفظ الجثث، ترك سريرها مملوء بالدماء، ولم يغيروه، وعند مجيء ممرّض الفترة الليلية، دخل ليعاين المرضى، فوجد السرير في تلك الحالة، الأكيد أنّكم تتساءلون ماذا فعل؟ لم يحمّل نفسه معاناة رفع غطاء السرير وتغييره، فقد اهتدى إلى فكرة سهلة، أخذ غطاء من سرير فارغ، وغطى ذلك السرير، تاركا تلك الدماء على حالها... وعندما لاحظ انتشار الرائحة الكريهة، واستغرابنا للأمر، أحضر قارورة ماء الجافيل، وسكب قطرات على السرير، وقطرات على الأرض، وأخرى فوق كيس القمامة، لكن الرائحة زادت في الانتشار، ولم يبال لأنه لم يكن مضطرا للبقاء هناك، واتجه إلى مكتبه تاركا المرضى يتخبطون في تلك الرائحة الكريهة. نزلنا إلى الطابق الثالث، وبالضبط إلى قسم النساء، وكم كانت دهشتنا كبيرة حين رأينا الحالة المزرية التي يتواجد عليها القسم 4، مريضات في غرفة واحدة ضيّقة، فمنهن من أجرت العملية، ومنهن من هي بانتظار ذلك، لكن لم نتخيل أن تصل الأمور إلى حد غلق كل الأبواب، وعدم ترك أي أحد، رغم معرفتنا بإمكانية تواجد مع كل مريضة واحدة من أهلها لرعايتها، وتوفير ما تحتاجه، بحكم عدم مقدرتها على النهوض، لكن هناك الأمر مستحيل، حتى الممرّضات لا وجود لهن، خاصة ليلا، باستثناء ممرض واحد رجل، يعمل يومين بيومين، تاركين المريضات لوحدهن في اليومين التاليين...ولحسن حظهن، وجدن المساعدة ممّن لم تجر العملية بعد. ومن ناحية أخرى، لمسنا رغم تلك الحالة السيئة جانبا من الإنسانية والرحمة بين المريضات، فالواحدة تحمل الأخرى، وتلك تقدم الأكل لتلك...وهذه محمومة، وتلك المريضة تضع لها كمادات باردة وترعاها.... حقيقة لن ننكرها، وهي التي غطت على انعدام الممرضين ليلا. دورة مياه مشتركة منعدمة النظافة وخطر على صحة المريضات لم أتوقع أبدا أن أجد مريضات يضطرن للذهاب مشيا على الأقدام ساعات قليلة بعد العملية كي يصلن إلى الحمام، ورغم اعتيادي على مشكل انعدام النظافة، إلا أن الوضع هناك فاجأني... مرحاض وحيد في الطابق بآخر الرواق، عفن لا ينظف سوى مرة كل صباح، تستعمله أكثر من ثلاثين امرأة، وعلى المريضة من صباحها الأول، أن تحمل قارورة المصل المعلقة بجسدها، وقارورة الجافيل المطهر... و و و و و.. وأن تعبر أمتارا عديدة منحنية الظهر خوفا من تمزق الجراحة، لتصل في نهاية المطاف إلى باب تقابله 3 مراحيض، ولم أفهم الفائدة من حوضي الاغتسال تلك التي تشغل حيزا هاما بالغرفة، بحنفية واحدة ملغاة، والآخر مسدود..وفوق ذلك، على المريضات بما فيهن اللواتي خضعن للجراحة، أن يعتنين بأنفسهن، وأن يسخنّ الأكل، وينظفن أنفسهن.. هذا هو نصيب المرأة من أبسط الحاجات الإنسانية في مستشفى بني مسوس. مرضى يستيقظون أثناء العملية ونحن ننتقل من غرفة إلى أخرى، لمحنا إحدى المريضات وقد بدت على محياها علامات الألم، وكان قد مضى يوم على إجرائها عملية استئصال ورم من كبدها، اقتربنا منها، وسألناها عن حالتها وكيف تشعر، ردّت علينا بصعوبة، فهي من شدة الألم لم تستطع حتى رفع صوتها، وبعدها انتظرناها لترتاح قليلا، ساعة بعد ذلك قالت لنا لقد رأيت الموت بين عيني، فقد خدروني أثناء العملية لكنني أفقت خلالها، ورأيت الأطباء حولي، وعندما استأصلوا الورم، رأيته بأمّ عيني، وسمعت الطبيب عندما قال خذ هذه الكرة.. عندها أغمي علي...لن أستطيع أن أنسى ذلك أبدا، وما لاحظناه هو أنها ردّدت ما جرى لجميع المريضات. من جهتها، أجرت نورة عملية جراحية على قلبها، وقاموا بتخديرها جزئيا، ما مكّنها من أن تعي كلّ ما جرى لها أثناء ذلك، ورغم نجاح العملية، إلا أنّها مرّت بعدها بظروف جدّ صعبة، فقد كانت ترى كوابيس أثناء نومها -على حدّ تعبير أختها-، وأخذت يوما بعد يوم تتدهور صحتها، وعندما سألنا الأطباء عنها، كانوا يقولون لنا إنها بخير، أما الممرضين فقالوا إنّها مصابة بالوسواس، وتتوهّم أشياء لا وجود لها، وما كان لعائلتها من حلّ سوى نقلها للعلاج في الخارج. ولكريمة حكاية أخرى مع مستشفى بني مسوس كريمة سعدي، طفلة في العقد الأول من عمرها، ابتلاها الله سبحانه بمرض سرطان الدم من نوعLAM3 ، كانت بمصلحة طب الأطفال بمستشفى بوفاريك، وبعد اكتشاف المرض، تم الشروع مباشرة في البحث عن مستشفى متخصص يتكفل بعلاجها، حيث استمر الأمر 15 يوما، في النهاية لم يكن إلا مستشفى بني مسوس، الذي به سرير واحد لكريمة، ودخلت المسكينة هذا المستشفى. دخلت كريمة مصلحة الأطفال المصابين بالسرطان، وظن أهلها أنها نجت بما أن النوع ليس خطيرا، وبدأت المعاناة من أول يوم دخلت فيه هذه المصلحة، حيث كان من اللازم أن تحقن بالصفائح الدموية، وعلى الأولياء أن يحضروا المتبرعين بالدم، وإلا فإنها لن تحصل أبدا على الصفائح. وبقيت كريمة في القسم مدة عشرين يوما، دون أن تبدأ العلاج الكيميائي، والمرض ينخر جسدها، وهذا بحجة أن الدواء المطلوب استخدامه وفق البرتوكول العلاجي الجديد ليس متوفرا في صيدلية المستشفى، وأن الإمكانية الوحيدة للحصول عليه، كانت لدى مركز بيير وماري كوري بمستشفى مصطفى باشا الجامعي، إلا أن هذا المركز رفض إعطاء مستشفى بني مسوس الجرعة التي تحتاجها كريمة، نظرا لندرة الدواء الذي يحتفظون به من أجل مرضاهم. أعطي الأب الوصفة التي تحتوي على نوع الدواء، وتعاون أهلها حتى تبرع لهم أحد الأولياء الذي لديه ابنة تعاني من نفس المرض بعلبة واحدة، وأحضروها للمستشفى، لكنهم تفاجئوا أنهم بدؤوا العلاج وفق البروتوكول القديم، وحالة البنت كريمة تزداد كارثية، حيث أنها كانت تخرج دما من فمها، وأعلموهم أن ذلك من آثار العلاج الكيميائي الذي بدؤوا بتطبيقه، ثم اتخذ القرار بتوقيف هذا الأخير، والبدء بالعلاج وفق البروتوكول الجديد بما أن أهلها أحضروا لهم الدواء. رجع أب كريمة بعد المغرب، ووجدها تتألم بشكل شديد ممسكة بطنها، وضع يديه وقال لها لنقرأ معا شيئا من القرآن الكريم، هزت رأسها مجيبة بنعم، قرآ معا بعض الآيات فسكنت قليلا، ودعها وخرج وكله أمل أن يفيدها العلاج الجديد. رن هاتف والدها النقال صباحا، ليقال له: كريمة رحمها الله تعالى. والسؤال المطروح: لماذا تركت كريمة عشرون يوما لتبدأ العلاج الكيميائي؟ أين تذهب أدوية الأطفال المصابين بالسرطان؟ لماذا دائما هنالك عجز في أبسط أنواع الأدوية في هذه المصلحة بالذات؟ لماذا يكذب الأطباء على الأولياء ولا يخبرونهم الحقيقة، فقد كانت كريمة تنزف داخل بطنها الذي كانت تمسكه بيدها من شدة الألم؟ والعجب كل العجب، أنك تجد المستشفى عبارة عن ورشة، همهم الوحيد البلاط، الحشيش الأخضر، الزهور... المظاهر الخارجية التي تنفق عليها المليارات، أما عندما تدخل القسم العلوي، فإنك تصاب بالفزع..إنها زنزانة طويلة يحشر فيها الأطفال ومرافقوهم، النساء والرجال ذات اليمين وذات الشمال، دون أدنى مستويات الوقاية...إنها الكارثة في مستشفى بني مسوس.