العيش مع السيرة النبوية، والتأمل في دروسها وعظاتها، ليس من باب التفكّه الفكري، وإن لم يخلُ من بركة الأجر والطاعة، لكن لا بد مع ذلك من إسقاط ما تم في هذه الأحداث النبوية، على مجريات حياتنا، لتكون زادًا ونبراسًا فيما نعانيه من مشكلات، أو ابتلاءات صغرى أو كبرى، وهذا هو سر تعدد الكتابة عن سيرة النبي- صلى الله عليه وسلم – في كل زمان ومكان، وبلغات عدة، ومن مختصين مختلفين، حيث يرى كل مختص وكل جيل ما يجدّ له من زوايا النظر والفكر في هذه السيرة، وهذا سر عظمة نبيها، وعظمة سيرته العطرة. في شهر رمضان الكريم، حدثت أحداث كبرى وعظمى في السيرة النبوية، كان من أهمها: غزوة بدر الكبرى، والتي سميت بيوم الفرقان؛ لأن الله فرق فيها بين الحق والباطل، بنصرة أهل الحق في هذا اليوم، على قلة عددهم وعتادهم، ليكون درسًا لكل أجيال المسلمين، كلما مروا بمحنة قريبة منها، أن يستلهموا منها زادًا يتزودون به لملاقاة مصائبهم ومحنهم. ليس هناك محنة تعيشها الأمة الآن في هذا الشهر الكريم، أكبر ولا أهم من محنة أهل غزة، حيث يمطرون ليل نهار بكل وسائل القتل بعدوانية غير مسبوقة في هذا العالم، وهناك أوجه شبه مهمة ومفيدة من غزوة بدر، تعطي دروسًا وأملًا من هذا الماضي النبوي من حيث التاريخ، لكنه ماضٍ وحاضر ومستقبل من حيث العظة والدرس والأسوة، وهو ما نحاول تلمسه في هذا المقال في نقاط يسيرة، حيث إن المقام لا يتسع لحصرها جميعًا. كان من أوائل ما أسهم في حسم غزوة بدر، ما قام به المسلمون فيما عرف بأعراف الحروب، وهي: المبارزة، حيث يخرج من الطرفين من يخرج للمبارزة، وبالفعل خرج من الصحابة ثلاثة من كبار الصحابة، وأمهرهم في المبارزة، أمام ثلاثة من كبار جيش قريش، ومنوا جميعًا بالهزيمة وقتلوا في المبارزة، فكان ذلك عاملًا نفسيًا كبيرًا، في الفتّ بعضد كفار قريش ..أرادوا معركة صغرى ولكن الله أرادها كبرى إن أول الملامح التي تتضح لنا في غزوة بدر، في سببها، فقد كانت نية المسلمين الذين خرجوا، محدودة في هدف محدود صغير: أن ينالوا من عير قريش، قافلة التجارة التي كان يقودها أبو سفيان، ليسترد المسلمون بعضًا من حقوقهم، فقد نهبت قريش أموالهم وديارهم، ومارست تهديدًا عليهم، بعد هجرتهم للمدينة، بأن راسلت قادة المدينة، بأنهم آووا من خرجوا على دينهم، ونجا أبو سفيان بالقافلة بحيلته ودهائه، وقد كان أرسل رسولًا لقريش ينبهها لذلك. ولكنّ أبا جهل وفريقًا معه أصروا على خوض المعركة، بغية إبادة المسلمين، واستئصال شأفتهم، فتحولت المعركة من هدف صغير، إلى معركة كبرى، قال عنها القرآن الكريم: (وَإِذۡ يَعِدُكُمُ 0للَّهُ إِحۡدَى 0لطَّآئِفَتَيۡنِ أَنَّهَا لَكُمۡ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيۡرَ ذَاتِ 0لشَّوۡكَةِ تَكُونُ لَكُمۡ وَيُرِيدُ 0للَّهُ أَن يُحِقَّ 0لۡحَقَّ بِكَلِمَٰتِهِۦ وَيَقۡطَعَ دَابِرَ 0لۡكَٰفِرِينَ. لِيُحِقَّ 0لۡحَقَّ وَيُبۡطِلَ 0لۡبَٰطِلَ وَلَوۡ كَرِهَ 0لۡمُجۡرِمُونَ) الأنفال: 8،7. كان "طوفان الأقصى" في بدايته وتخطيط من قاموا به: مجرد عملية صغيرة، يتم فيها أسر بعض الجنود، ليتم التفاوض بهم لفك أسر الأسرى في سجون الاحتلال، ولكن العملية اتسعت، بحكم الاختراق الأمني للكيان الصهيوني، وفوجئ المشاركون بمشاركين مدنيين، وحدث ما لم يكن في حسبان أهل فلسطين، ليجد الجميع نفسه أمام معركة كبرى، لا صغرى، وأمام حدث سيهز العالم كله، قبل أن يهز الكيان الصهيوني. ..غطرسة المتجبر واحدة في كل زمان علمت قريش بنجاة القافلة، ولكن الغرور والكبر لدى أبي جهل، دفعه دفعًا لخوض الحرب، وقال كلمته المشهورة: والله لا نرجع حتى نرِد ماء بدر، ونقيم عليه ثلاثًا، فتهابنا العرب أبدًا. ورغم محاولات عتبة بن ربيعة لإثنائهم عن الذهاب للحرب، وأن يعلقوها برقبته، استفزه أبو جهل باتهامه بالجبن، وأنهم ماضون لما خرجوا إليه، ولن يمنعهم عن ذلك مانع، حتى لا تمس هيبتهم وغرورهم، وبالفعل رضخ القوم لأبي جهل، وكانت نهاية معظمهم في هذه الغزوة، وبدل حادث عابر كان يمكن أن يمضي لحال سبيله، ذهب لساحة أكبر، ذهبت بهم وبكرامتهم دون رجعة. نفس منطق الغطرسة والكبر، نراه عند كل متجبر ومحتل ومستبد، الصفات والقرارات واحدة، ويمشي كل واحد منهم لنهايته المحتومة، والتي لا مفر منها، لا يرده عن ذلك شيء، لا نصائح العقلاء من حوله، ولا إرشاداتهم، وهو ما تجلى في نتنياهو ومن تبنى رأيه، كلما حاول البعض بإقناعه بإنهاء الحرب وتبادل الأسرى، أصر على تكملة الحرب والدمار، ويجد من يقف معه في التخريب، لأن غروره وكبرياء إسرائيل قد مرغا في التراب بما حدث، وما زادته الحرب إلا خسارة، رغم خسارة أهل غزة في الأرواح والأبنية، لكنها ليست خسارة من طرف واحد، وهو ما عبر عنه القرآن الكريم في سياق آخر، حيث قال: (إِن تَكُونُواْ تَأۡلَمُونَ فَإِنَّهُمۡ يَأۡلَمُونَ كَمَا تَأۡلَمُونَۖ وَتَرۡجُونَ مِنَ 0للَّهِ مَا لَا يَرۡجُونَ) النساء: 104، فالألم متبادل، مع فارق رجاء ما عند الله، وهو للمظلوم، وليس للظالم المتجبر. ..أثر الضربة الأولى للعدو كان من أوائل ما أسهم في حسم غزوة بدر، ما قام به المسلمون فيما عرف بأعراف الحروب، وهي: المبارزة، حيث يخرج من الطرفين من يخرج للمبارزة، وبالفعل خرج من الصحابة ثلاثة من كبار الصحابة، وأمهرهم في المبارزة، أمام ثلاثة من كبار جيش قريش، ومنوا جميعًا بالهزيمة وقتلوا في المبارزة، فكان ذلك عاملًا نفسيًا كبيرًا، في الفتّ بعضد كفار قريش. وهو ما نجده في "طوفان الأقصى"، فهذه الضربة رغم تبعاتها الجسيمة على أهل غزة تدميرًا وقتلًا وتشريدًا، وما لا يعلم نتيجته حتى الآن، إلا أن هذه الهزة التي ضربت كل جُدر الأمن والأمان الصهيوني، قد ضربتهم في مقتل، وحققت هدفًا إستراتيجيًا سيظل أثره لمدى بعيد وطويل، وهو ما يفسر جنونهم في الحرب، وما يقومون به، وهو منهج متبع دائمًا لديهم، لكنه ازداد بحكم الوجيعة التي أوجعتهم، وما نتج عنها من آثار على عدة مستويات: منها النفسي، وفقدان الأمان والثقة في هذا الجيش الصهيوني، وأجهزة الأمن. ..انتصار القلة المؤمنة كان عدد المسلمين في غزوة بدر يزيد على 300 رجل بقليل، بأقل عدةٍ وعتادٍ، وعدد المشركين ألف مقاتل، بعتادهم وعدتهم، وفرسان مهرة، ومع ذلك انتصرت القلة، وهزمت الكثرة، وذلك لأن القلة المؤمنة جمعت بين الإعداد للمعركة، والاستعانة بالله- تعالى- حتى سقط رداء النبي- صلى الله عليه وسلم- عن كتفه، وهو يدعو، مخافة أن تهلك هذه العصبة المؤمنة. وقلوب المسلمين والعرب والأحرار في العالم كله، معلقة بالدعاء لله -تعالى- أن ينصر أهل غزة، ويكفيهم شر المتجبرين في الأرض، من الكيان ومن يعاونه من العرب والغرب، فرغم صغر البقعة التي فيها الحرب، وقلة العدد، وقلة المؤن العسكرية والمدنية، فإن الناس يكاد يقتلها الخوف والقلق على غزة وأهلها، مما لا يعلمه الناس من غيب الله، هل يتمكن الظالم من القضاء عليهم، أم يعود منكسرًا يجر أذيال الخيبة؟ ..نزول الملائكة للنصرة لم يترك الله المؤمنين في غزوة بدر، فأنزل المطر تطهيرًا لهم، وتثبيتًا، وأنزل ملائكته – سبحانه وتعالى- حيث قال: (إِذۡ تَسۡتَغِيثُونَ رَبَّكُمۡ فَ0سۡتَجَابَ لَكُمۡ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلۡفٖ مِّنَ 0لۡمَلَٰٓئِكَةِ مُرۡدِفِينَ. وَمَا جَعَلَهُ 0للَّهُ إِلَّا بُشۡرَىٰ وَلِتَطۡمَئِنَّ بِهِۦ قُلُوبُكُمۡۚ وَمَا 0لنَّصۡرُ إِلَّا مِنۡ عِندِ 0للَّهِۚ إِنَّ 0للَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) الأنفال: 9-10، فهل نزلت الملائكة للقتال هنا أم لتثبيت المؤمنين؟ إن ما تبينه الآيات الكريمات، أن نزول الملائكة كان لتثبيت المؤمنين، فإن ألفًا من الملائكة تعادل من حيث العدد جيش المشركين، وإن مَلكًا واحدًا يكفي لهزيمتهم، لكن نزولهم كان للتثبيت، وللربط على قلوب المؤمنين، وهو ما يطرح مسألة أن النزول لم يكن خاصًا بالصحابة فقط، بل إنه أمر وارد في كل زمان ومكان، مع كل من يستحق هذا النزول. وهو ما نلحظه بجلاء في ثبات وصبر أهل غزة، فإن الله -عز وجل- يعلم استحقاق هؤلاء الناس للنصرة والتثبيت، وهو ما شاهدناه في مواقف الكثيرين، مما لفت الأنظار إليه، وكان موضع السؤال من الشرق والغرب: كيف يصمد هؤلاء على كل هذا البلاء؟ إنه تثبيت الله للنفوس، سواء بالإيمان، أو بملائكته، أو بعوامل أخرى بقدرة الله تعالى. في غزوة بدر وما يجري في أرض غزة موافقات لا تحصى، فلا غرو لأنه تاريخ الإيمان في كل زمان ومكان، يتكرر مع اختلاف الشخوص والأماكن، لأن صاحبه يستقي من نفس المشكاة التي صدرت منه المواقف الأولى للمؤمنين، في بدر وغيرها من غزوات الإسلام، والمهم أن يستلهم المسلمون دروس حاضرهم من ماضيهم النبوي، مستمسكين بسنن الله في الكون، وآخذين في اعتبارهم العمل بها، ساعين إلى نصر الله، بكل ما يملكون من إعداد مادي ومعنوي، واضعين نصب أعينهم قول الله- تعالى-: (إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم) محمد: 7.