تجدد أعمال العنف بولاية غرداية بداية من أول أمس، يعني أن التدابير التي أقرتها الحكومة، من اجل التهدئة لم تستوعب، كليا، انشغالات ملحة للسكان، وينم التطور الجديد، الذي استنفر مصالح الأمن بشدة، على انه من الواجب التفكير مليا في حل جذري للمشاكل التي تعاني منها المنطقة، عبر إرساء آلية متابعة فعلية تقترب وتحتك بيوميات سكان الولاية. الأخطر في أحداث غرداية الجديدة، أنها تقترب زمنيا من موعد إجراء الانتخابات الرئاسية يوم 17 افريل، وعدم إرساء آلية تهدئة فعلية على مقربة من هذا الموعد من شأنه تهديد إجراء الاستحقاق في هذه الولاية، وخاصة إذا علمنا أن جوا من الغليان موجود كذلك في ولايات أخرى على غرار بجاية التي رفض غاضبون تنشيط مدير حملة الرئيس المترشح لتجمعه الانتخابي وانحرفت الأمور إلى الوجهة التي يعرفها الجزائريون جميعا، ناهيك عن منطق الرفض الذي ساد ولايات أخرى منع فيها أتباع الرئيس بوتفليقة من تنشيط تجمعاتهم الانتخابية. وما يحصل بغرداية، أحيانا لا تجد له تفسيرا سببيا، بينما يعتقد خبير علم الاجتماع الأستاذ ناصر جابي أن مدينة غرداية تحولت إلى مكان للصراع المتعدد الأشكال بين هذا التاجر المزابي الذي عرف كيف يروض هذه الصحراء القاحلة ويبني فيها عمران يعكس حضارته وتنظيمه الاجتماعي الذي حافظ عليه منذ قرون وبين هذا "البدوي" الذي يرى أنه من حقه أن يدخل المدينة يسكن ويشتغل ويعيش فيها لدرجة تحول إلى أغلبية عددية، بل ويترأس بلديتها ويسير مرافقها الرسمية في غياب العنصر الاباضي الذي فضل كإستراتيجية العمل الاقتصادي الحر والابتعاد عن مؤسسات الدولة التي بدأ يشك أنها "تشتغل" ضده خاصة في أوقات الأزمة كما حدث في المدة الأخيرة. لكن ثمة فرق بين الحاصل بغرداية من تشنج متواصل وبين ما يحصل في ولايات أخرى من احتجاجات موسومة بالظرفية، (الانتخابات الرئاسية) فقضية غرداية تتسم بمسار صدامي حله يتطلب إرساء ميكانزيم متابعة على الدوام ، يوجب ان يشرك في هذا الميكانيزم أعيان المنطقة كلها دون الاكتفاء بالإجراءات الإدارية من قبل الدولة، وهي إجراءات يمكن أن تمتص غضب الشباب المحتج ظرفيا إزاء الانتخابات في ولايات أخرى، شريطة أن تكون إجراءات فعلية لا تتسم بالارتجالية أو الشعبوية. والأخطر في غرداية يكمن في دخول عصابات الإجرام خط المواجهات، مما صعب عملية فرز المتظاهر من غير المتظاهر، ووجدت مصالح الأمن صعوبة في مواكبة الاحتجاجات بسبب عمل هذه العصابات. ويرى جابي أن ما يحصل في غرداية ليس له علاقة بالآني والظرفي من مشاكل وتحديات فقط كالبطالة والعقار والنظرة إلى مؤسسات الدولة الوطنية الحديثة، بل بالتاريخ كذلك وكيف يتدخل هذا التاريخ كتجربة جماعية بعيدة أو قريبة في تلوين ومنح تفاسير مختلفة لهذا الواقع المعاش،في ظرف يتميز بالتشنج المتولد عما سماه احد الباحثين الغربيين ب"استفزاز العمق الانثربولوجي للمجتمع" الذي يحصل عادة في أوقات التغيير السريع الذي تتعرض له المجتمعات كما هوحاصل في الجزائر هذه السنوات الأخيرة . "استفزاز " يتم لقواعد العيش المشترك والقناعات الجماعية التي سادت حتى الآن وهوما يؤكد مرة أخرى عمق الأزمة التي تعيشها الولاية. وقابليتها للتكرار كما توحي ذلك الكثير من المؤشرات.