من هم أكثرنا جدلاً؟ هم أقلنا معرفة. أشباه المتعلمين هم أشباه الأميين، هؤلاء أشد خطرًا على الشعوب، والرأي العام، من فلاسفة السياسة، والدين، والاجتماع. أنجب الفلاسفة رؤى، وأفكارًا، ونظريات، وعقائد، آيديولوجيات أثارت أحيانًا ثورات، وحروبًا مهلكة، لكنها على مستوى الفكر كانت قيمًا ثقافية أحرى بالدراسة، والتأمل، على سلبياتها، وإيجابياتها. في هذا العالم الواسع الذي بات اليوم قرية صغيرة، نشكو من تلوث البيئة. هذه «الأشباه» هي المسؤولة عن تدمير فضيلة الاجتماع السلمي الإنساني، فقد سخنت طبقة الأوزون فوقنا التي كانت تحمي رؤوسنا من إشعاع أفكار، ومواقف، وآراء، تستطيع عندما تسمعها أن تمد قدميك أمامك براحة تامة، فليس فيها جديد ينفع مجتمعك، وأمتك. عولمة الاشتباك الإلكتروني أنجبت هذه الكمية الهائلة من السخف، وليس هناك أقسى من السخف على الفكر، وعلى السياسة، وعلى الحياة في هذه الدنيا، وكنا نظن أننا نستطيع أن نملأها بما هو أكثر فائدة، ومتعة لنا، ولغيرنا. نشكو من القمع، والكبت، والظلم، والتعذيب، في الوقت الذي نملك ما يكفي من الوقت، والمساحة، والحرية، لنشر كل هذه النفايات الفكرية التي تستحق أن نقول لأصحابها: «كفى، طلعت ريحتكم»! ليس السخف وحده الذي يثير القلق، إنما ظاهرة البعثرة، والتباعد في الرأي التي تكشف ببساطة المرض الفكري العميق في المجتمعات العربية. الانتفاضات بمآسيها الأهلية والمدنية أظهرت مدى انحسار التعاطف الذي كان يربط بين الجار وجاره، وبين الشاب وأسرته، وبين المواطن ووطنه، وأيضًا بيننا نحن الناس العاديين والقناصين الذين كنا نظن يومًا أن سلاحهم موجه إلى عدونا، فإذا به يسفك دماءنا في أرضنا، بمباركة رؤوس تنوء عمائمها بثقل النفاق الديني، والطائفي. من كان يظن أننا سنتعثر يومًا على الشاشة الإلكترونية بحسن «حزب الله»، وهو يبارك ويتباهى بالقتل الطائفي الذي يمارسه في سوريا؟! ومن كان يظن أن خامنئي وروحاني سيتضامنان يومًا مع القيصر بوتين في تكريس الإعلان عن بشار «خط أحمر»، يملك تفويضًا شرعيًا وانتخابيًا من الشعب الذي يقتله، ويدمر مدنه وقراه؟! هكذا هم دائمًا أهل الشقاق والنفاق. الحوار السلمي هو القادر دائمًا على الوصول بالمساومة إلى تسوية بين القوى الاجتماعية المختلفة، هذه التسوية تؤهل وتخوًل صناع القرار السياسي لتجنيب المجتمعات خطر الانزلاق إلى الفوضى، والاشتباك خارج مؤسسات التسوية المشروعة. صعوبة المساومة والوصول إلى تسوية تتجلى واضحة داخل المجتمعات المتقاربة بيئيًا، وبين بعضها بعضًا، الأمر واضح في الحوار اللبناني، ومثيله السوري، واليمني، والعراقي، حيث عطلت استحالة الحوار السياسي بين الأنظمة الشقيقة في الوصول إلى سوق اقتصادية مشتركة، وتهدد بنشوء دول انشقاقية، وانفصالية، كما في جنوب السودان وغربه، واليمن في جنوبه وشماله، وليبيا وسوريا حيث التقسيمات، والانشقاقات ترتسم شمالاً، وغربًا، وشرقًا، وجنوبًا! ثمة شعور يراود الكثيرين بأن ثمة خطأ جسيمًا في مناهج التربية والتعليم أدى إلى انفلات الوعي الاجتماعي. فوضى التوترات. والمشاحنات في البيئة الاجتماعية المحلية (القُطرية) تقدم لك حقيقة مروعة. فقد وضعت ورسمت بمعزل عن بعضها بعضًا. ولم تعرف كيف تبني على التعاطف والتقارب بين المجتمعات الشقيقة في بواكير المرحلة الاستقلالية، توجهًا تربويًا يدفع الأجيال الجديدة إلى تطوير هذا التضامن العفوي، لتحقيق اتحاد سياسي عربي. حلت الجامعة العربية بديلاً لهذا الاتحاد المنشود. كانت جامعة الدول ما زالت تتحدث رسميًا باسم شعوب شقيقة، وليس باسم أمة كانت تتوق في أربعينات القرن الماضي، إلى تحقيق نوع من الوحدة السياسية بين مجتمعاتها. كانت الجامعة آنذاك مشروعًا بريطانيًا (راجع التصريحات التاريخية لتشرشل ووزيره أنطوني إيدن)، نجح في دق أسفين تتمحور حوله صدامات عربية لا تنتهي. على المستوى المعرفي، فقد وضع المفكر القومي ساطع الحصري، أول منهاج تربوي طبق في سوريا والعراق، كأساس لوحدة سياسية بينهما، ثم اختفى هذا المخضرم التربوي ذو الثقافة التركية، في طيات عزلته بين كتبه، في سقيفة فندق مصري متواضع.
أخفق الحصري في إقناع جمال عبد الناصر بفتح الجامعات المصرية أمام دفقٍ من المثقفين الأكاديميين المستقلين، لتربية أجيال مصرية على الإيمان بالعروبة والوحدة. ففتحها وريثه السادات أمام دعاة حسن البنا. فحولوها إلى قاعة طلابية «إخوانية» مسلحة بالسلاح الأبيض والسلاسل الحديدية. ومضادة لأي مشروع تربوي لجعل الجامعات خط دفاع لحماية الثقافة الإنسانية المصرية التي تزاوج بين عصر الأصالة التراثي، وعصر الحداثة وما بعدها. كما أخفق الحصري في تثبيت منظومة تربوية – تعليمية قومية، أخفق الشيخ محمد عبده في ترشيد وإصلاح المنهج التعليمي الأزهري، بسبب وفاته المبكرة (1905). فنجح تلميذه وزميله اللبناني الشيخ رشيد رضا في التقاط ورعاية الداعية حسن البنا، الذي جعل من الإخوان سدًا تعليميًا وتربويًا منيعًا يقاوم أنسنة الثقافة التربوية العربية. وتطعيمها بالثقافات الإنسانية التعددية. حاول الإصلاحي الديني المغربي علال الفاسي وضع نهج لإشاعة ثقافة تربوية إسلامية معتدلة، فيما أنشأ العاهل الراحل المثقف الحسن الثاني جامعة بالمنتجع الأنيق (إفران)، بتمويل سعودي، لإنتاج أجيال جديدة في المغرب العربي الكبير، تضع بالمضي في التعريب، حدًا لهذا التيه المتراوح بين التربوية المتوسطية الفرانكوفونية. والتربية الدينية المتزمتة التي «دعوشت» باكرًا أجيالاً جزائرية وخليجية. يضيق المجال هنا عن فتح الملف اللغوي في مناهج التربية والتعليم. كان استيلاء «الإخوان» المتزمتين (الهاربين من السجون الناصرية ومجزرة حماه) على تعليم اللغة والدين كارثيًا، فقد أفقدوا الأجيال المغاربية والخليجية الذائقة الثقافية والأدبية والرغبة في إتقان اللغة. ذلك أن «الإخوان» أنتجوا أطباء، وعلماء، ومهندسين، فنظريات العلم لا تحتاج إلى جدل طويل، فيما عجزوا عن إنتاج مثقفين وشعراء، لعدم قدرتهم على الحوار والجدل في قضايا الثقافة، والحريات، والسياسة. أفاقت بعض الدول الخليجية على الكارثة القومية باكرًا، فسارعت إلى إبعاد المدرسين المتزمتين، وفتحت كليات متفرعة من الجامعات الغربية، لإشاعة الليبرالية الثقافية والتربوية، فلم يقبل الشباب الخليجيون على الانتساب إليها، لضعف مستواهم في اللغتين العربية والإنجليزية، ولرغبتهم في الانتساب إلى الجامعات الوطنية الحكومية، فهي تخرج بسهولة موظفين حكوميين، أكثر مما تنتج من علماء ومثقفين. يلاحظ القارئ أني لم أطرح مشروعًا تربويًا، واكتفيت بتقديم لوحات ومشاهد للمأساة التربوية التي فجرت في الانتفاضة وحشية الاقتتال الدامي بين أجيال بلا ثقافة، وبلا لغة، وربما بلا أخلاق رادعة للمضي في القتل. وضع منهج تربوي – تعليمي أشبه بوضع دستور سياسي، فهو لا يحتاج إلى مجرد كاتب صحافي، إنما إلى مجموعة خبراء أكاديميين متخصصين بالتربية والتعليم. وفي مجتمع مأزوم بوعيه القومي والثقافي، من الصعب إلى حد الاستحالة العثور على خبراء تربويين مترفعين عن الأهواء السياسية، والطائفية، والعنصرية، وقادرين على إنتاج أجيال جديدة تضع حدًا لاستحالة الوحدة السياسية التي تأخرت أكثر من 1500 عام.