بقلم: الدكتور جيلالي بوبكر 7- الأزمة والتربية: لا شك في أنّ المنظومة التربوية وبما تتأسس عليه من مبادئ وقيّم وبما تتحدد به من مكونات مختلفة ومن وسائل ومناهج وأهداف تشكل أساس بناء الإنسان الفرد والمجتمع، تحافظ على الكيان الإنساني الفردي والاجتماعي وتؤثر فيه بشكل ملموس سلبا أو إيجابا، تمنحه القدرة على التطور والازدهار أو تدفع به في اتجاه التخلّف والانحطاط، وذلك للدور الذي تلعبه الأطراف الفاعلة والمؤثرة في المنظومة التربوية، متمثلة في الأم والأب والأسرة والمدرسة وسائر مؤسسات المجتمع السياسية والثقافية والإعلامية والاقتصادية والعسكرية والاجتماعية عامة، ولكل منظومة تربوية في أي مجتمع سياستها وفلسفتها يحددها أهل الحل والعقد في المجتمع، وتتباين الفلسفات التربوية بتباين الشعوب والأمم في حضاراتها وثقافاتها ودياناتها، أما التربية في المجتمعات العربية والإسلامية كمنظومة اجتماعية وكفلسفة وكممارسات وكمناهج ونتائج معتلّة مثلها مثل بقية القطاعات الأخرى. يرد الكثير من المثقفين علل وأمراض العالم العربي والإسلامي إلى اعتلال التربية وفسادها، وهو أمر يؤكده الواقع المعيشي ولا يختلف حوله اثنان، لكن هذا الوضع لا يؤهل التحليل الموضوعي لوضع التربية ولظروف الأزمة العميقة للجزم بأنّ الأزمة الأم والأصل هي أزمة تربية، لأن فساد التربية واختلال المنظومة التربوية وفشل فلسفة التربية في بلادنا له عوامله وظروفه الذاتية والموضوعية، على الرغم من أننا نملك من التاريخ التربوي المضيء ومن القيم التراثية المشرقة في التربية ومن المعالم التربوية الحضارية الراقية ما يسمح لنا باحتلال الصدارة والقمّة في الميدان التربوي بين أمم العالم، بحيث لم تعد القيّم التربوية الموروثة في الأسس والمناهج والأهداف كفيلة بضمان نشء مكفول الإعداد البدني القوي والتكوين النفسي والعقلي السليم والتنشئة الاجتماعية اللازمة، ولم نستطع إيجاد إستراتيجية تربوية قادرة على الجمع والتوحيد بين الموروث والوافد من دون تلفيق في التربية، تدعم بعث التراث وإحياء قيّمه الغرّاء وتستفيد من التطور الذي عرفه العصر وتستجيب لسائر التحدّيات التي تفرضها المرحلة الراهنة، لأنّنا لا نقدر على الحياة من دون هويتنا وتراثنا وتاريخنا ولا من غير خوض غمار معركة الاندماج في الركب الحضاري. في ظل الوضع الصعب والخطير الذي تعيشه التربية في بلادنا لم يتحدد المشروع التربوي المنشود ولم تتضح معالمه، والمشروع التربوي في أي مجتمع هو أساس بناء إنسان هذا المجتمع، الإنسان الفرد والإنسان الجماعة، وعدم وضوح المشروع التربوي في المجتمع في حقيقته غياب مشروع بناء المجتمع، يعرّض المجتمع للعواصف من مختلف الأشكال والألوان، فلا يعرف الاستقرار ولا النماء والازدهار، لأنّ مشروعنا التربوي غير قار فهو منقسم على نفسه سياسيا ودينيا وطائفيا ومذهبيا، انقسام سلبي يحكمه صراع وجود وبقاء أي صراح تناحر واقتتال لا صراع عمل وإنتاج وتعاون، على عكس ما يجري لدى الأمم المتقدمة، الصراع فيها في اتجاه الأفضل والأقوام في التربية وإعداد الأجيال، ولأنّ المشروع يتأرجح بين كونه عربيا إسلاميا وكونه تغريبيا وبين كونه يجمع بين الاثنين، ولأن المشروع لا يعكس بصدق مطالب وحاجيات الأمة في الحياة عامة لتأثره بالتطورات المعاصرة ولا يتماشى مع العصر ولا يستجيب لتحدّياته لأنّه ينطلق من قيّم الماضي ويهدف إلى بعثها من جديد. مجتمعاتنا العربية والإسلامية بلغت قمّة الانحدار التربوي بسبب الفشل التام الذي انتهت إليه المؤسسات التربوية والاجتماعية، ولم تقف هذه المؤسسات عند الفشل بل راحت تُسهم في إفساد الأجيال أفراد وجماعات وباستمرار، فالأسرة لم تعد تضطلع بالدور التربوي المنوط بها لتفككها وانفتاحها على قيّم أخرى غريبة عنها واستعمالها للتكنولوجيا المعاصرة خاصة تكنولوجيا الإعلام والاتصال والإشهار التي جرّت على الأسرة وابلا من الويلات تسبب في إعاقتها تربويا وأخلاقيا، أما الظروف المأزومة التي تعيشها المدرسة في المعلم والمتعلم وفي عمليتي التعليم والتعلم وفي المناهج والمواد التعليمية وفي كافة مكونات الفريق التربوي وفي محيطها وفي الوصاية عليها وفي سياسة التعليم وفلسفته، كل هذا جعل بلداننا في ذيل قائمة بلدان العالم بالنسبة لنتائج التعليم المحصودة، ناهيك عن الأمية والجهل الذي يوصف به الطلبة والأساتذة في جامعاتنا، بحيث تُمنح الشهادات العلمية الجامعية وهي لا تعكس المستوى العلمي والبيداغوجي والتربوي لحامليها ففيهم من الضعف العلمي والتربوي واللغوي ما يضعهم في درجة الجهلة والأميين العجزين عن منافسة ذوي الشهادات في البلدان المتقدمة، أما عن المؤسسات الاجتماعية الأخرى ذات الطابع التربوي، مثل وسائل الإعلام والتواصل والمسرح والمكتبات ودور النشر والمؤسسات الاقتصادية والأمنية وغيرها مثلها مثل الأسرة والمدرسة، بل هي تُلقي اللّوم على الأسرة والمدرسة بحكم طبيعة مهامهما وتعتبرهما مسؤولتين عن فساد التربية والنشء، وفي هذه الحالة تغيب المسؤولية وتتوزع على أطراف عديدة من دون استراتيجية تربوية مضبوطة تحدد المشروع التربوي بدقة وبكفاية في الأسس والمناهج والأهداف فتزداد الأوضاع تعقيدا وتأزما، ويزداد معها المجتمع فسادا في أفراده وجماعاته وفي حياته عامة وينعدم الأمل في الخلاص.