السائد الثقافي هو ما يصوغ ذائقة المتلقّي، ويحدد منسوب النميمة والتحليل، ففي مراحل الاتباع والنكوص وغياب هاجس الكشف تصبح النميمة بمختلف تجلياتها الثقافية والسياسية والاجتماعية هي الجاذب الأكبر، بحيث يبقى المرسل إليه في حالة الاستقبال فقط ولا يتحول إلى شريك في أي نص، لهذا ما أن تُرجمت سِيَر بعض الشعراء والكتاب إلى اللغة العربية حتى بدأ الانصراف عن الإبداع لصالح السيرة الذاتية، خصوصا إذا كانت تجازف باعترافات تلامس المكبوتات والتابوات، وهناك من أبناء جيلنا من يعرف أدق التفاصيل عن مغامرات أرثر رامبو وعن شذوذه وعلاقته بفيرلين، لكن نادرا ما ظفرت نصوصه خصوصا «الزورق السكران» و»فصل في الجحيم» باهتمام القراء، وهذا ما تكرر مع شارل بودلير، فمن يحفظون عن ظهر قلب علاقته مع جاك دوفال وزوج أمه وسلوكه الداندي، قد لا تستوقفهم قصائد «أزهار الشرّ، أو حتى مقالاته النقدية، رغم طرافة بعضها كالمقال الذي تحدث فيه عن الكحل بالنسبة للمرأة ودوره، إضافة إلى التجميل في توسيع مساحة العين، وانطلق من هذا المثال إلى الطبيعة ذاتها ودور الإنسان في إعادة صياغتها جماليا. وأذكر أن عقد الخمسينيات وما أعقبه حتى منتصف الستينيات شهد ترجمة أعمال من أطلق عليهم في بريطانيا الجيل الغاضب، ومنهم كولن ولسون وجون أوزبورن، فالكتب الأكثر رواجا كانت أقرب إلى السيرة، لهذا بلغ عدد من قرأوا «ضياع في سوهو» أو «أصول الدافع الجنسي» أو حتى مقدمته الطويلة لسقوط الحضارة، أضعاف من قرأوا «اللامنتمي» وما بعده، لأن كتب السّرد تلائم ذهنية أدمنت التلقي التي تنفعل ولا تتفاعل، ولديها من موروث البطالة والكسل ما يحول دون الإقبال على التحليل والتفكيك. حتى الروايات التي نالت شهرة غير أدبية، وساهمت الإعلانات التجارية في تسويقها كمؤلفات ذات صلة بالبورنو من طراز أعمال هنري ميللر وألبرتو مورافيا ود . ه . لورنس، قرئت بوصفها مذكرات شخصية، لأن التناسب طردي بين الإقبال على مثل هذه الكتب وبين فائض المكبوت، رغم أن كاتبا مثل هنري ميللر اختزله النقد الداجن إلى سيناريست لروايات قابلة لأن تتحول إلى أفلام بورنو، أصدر كتابا عن أهم مئة كتاب أثرت في حياته، وساهمت في تكوينه الثقافي، ولم يلق هذا الكتاب الاهتمام الذي لقيته أعمال ميللر الأخرى، لأنه يعزف على أوتار أخرى لا علاقة لها بالمكبوت الجسدي. وهناك عوامل عديدة غذّت النزعة نحو ما هو في مدار النميمة وثقافتها، بحيث لم يسلم حتى التاريخ من تحويله إلى حكايات، وهذه ملاحظة مبكرة سجلها المستشرق غرونباوم على معظم المؤرخين العرب، ومنهم ابن الأثير الذي تمنى لو أن أمه لم تلده كي يرى ما رأى، وهو يذكرنا بمقولة شهيرة لعبد الله بن محمد، قال فيها، «يا قوم آه كم اتمنى لو أنني شجرة كي لا أرى ما أرى ولا أسمع ما أسمع»! وليس هناك من تفسير منطقي لعدم انتشار وتداول الكتب التحليلية ومنها، ما هو فلسفي وتاريخي غير ما أدمنه المتلقي من الحكي المشحون بأدبيات النميمة، وانتهاك مصائر الآخرين من خلال التلصص عليهم من شقوق الجدران أو الورق لا فرق. أما جذر هذه الظاهرة فهو تربوي بامتياز، لأن المناهج الدراسية تميل إلى تكريس ما هو أفقي وغنائي، وما أعنيه بالغنائي ليس ما شاع من دلالات هذا المصطلح في نقد الشعر، فالغنائية رؤية للعالم وهي على النقيض من الرؤية الدرامية المركبة، لهذا يمكن وصف مؤرخ أو حتى روائي بأنه غنائي، خصوصا حين يتحول الشخوص كلهم إلى أصداء لصوته. وقد ساهمت دور نشر تجارية ونقاد موسميون في خلخلة معايير ومنظومة مفاهيم، لأنهم خاطبوا الرّغائب وما يفرزه فائض الكبت في مجتمعات مقيدة، يصبح الأفراد فيها نهبا لفوبيات الطفولة. وأذكر أن أفلام السينما في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، كانت تخضع لتقييم يفاضل بينها بمعزل عن كل عناصرها، فلا الأداء التمثيلي ولا الإضاءة أو حتى الموسيقى التصويرية تدخل في المقارنات، بل عدد المشاهد الجنسية أو ما يوحي بها، وأحيانا كان الفيلم يقيّم بعدد القبلات فيه، لهذا لم تظفر أفلام جدية وجديرة بالبقاء، رغم أنها بالأبيض والأسود بما ظفرت به أفلام عديمة القيمة الفنية والفكرية بكل المقاييس، رغم أن النقد بدأ مؤخرا يعيد اليها الاعتبار، وهي أفلام من طراز «الأرض» و»شيء من الخوف»، إضافة إلى الأفلام المأخوذة عن روايات لنجيب محفوظ ويوسف إدريس ك»الشحّاذ» و»الحرام» و»قاع المدينة» و»السمان والخريف». إن الأمية حين تتفشى على نحو وبائي تصبح الضارّة للناس، لكن النافعة لمن يحولونها إلى منجم أو مادة خام لاستثمار التخلف واعتصار الكبت حتى آخر قطرة، ولا يجازف أحدنا إذا راهن على أن النسبة العظمى من الأعمال الفنية والأدبية التي استثمرت التخلف والكبت والأمية سيطويها النسيان حين تجتاز هذه المجتمعات ما يحاصرها من مضادات الحداثة والحرية، عندئذ سنعود إلى قراءة رامبو شاعرا وليس شاذا أو افّاقا وكذلك بودلير وهنري ميلر ود. ه. لورنس وغيرهم.