لم أستغرب هذه العبارة للصحفي والروائي الفرنسي كريستيان دي بارتا التي وردت في مقدمته للحوار الطويل الذي أجراه مع الكاتب الأمريكي هنري ميللر عام 1972 في ناحية الباسفيك باليساد، وترجمه الشاعر التونسي خالد النجار الذي أهداني النسخة الصادرة عن دار المتون عام .2008 تنطبق هذه العبارة تماما على هذا المبدع الذي عاش قلقا، مضطربا ومتناقضا مع نفسه ومع أفكاره ومع القيّم والمجتمعات والأفراد والآراء الفلسفية· كاتب لم يستقر على رأي ولا على مدرسة أدبية ولا على أمر ثابت نهائي· كتب خمسين مجلّدا واهتم بالديانات والثقافات والتشرد والموسيقى والصعلكة ورسم عدّة لوحات زيتية مثيرة في سياقات مختلفة وحول موضوعات متباينة· وكان عازفا ماهرا· كان يقوم بذلك بإتقان بالنظر إلى ثقافته الواسعة وملكته· قرأت له في الثمانينيات: الربيع الأسود، عملاق ماروسيا، شيطان في الجنة، مدار الجدي، مدار السرطان، رامبو وزمن القتلة· كان بالنسبة إلي من أهم الاكتشافات الأدبية، وقد أشرت في حوارات ومقالات إلى أهمية هذا الفيلسوف الغريب الأطوار الذي يكتب بشكل لا يمكن التفكير فيه إطلاقا· يعترف هنري ميللر في مختلف إبداعاته بهذا المزيج العجيب الذي شكل شخصيته الأدبية وأثّر في مسار حياته ومواقفه المتحوّلة، كلّ كتبه عبارة عن سيرة ذاتية منظور إليها من زوايا مختلفة· لقد ظل يبحث عن نفسه بداية من أول مؤلف إلى آخره، ولم تهدأ روحه أبدا· من بيغ سور إلى باريس إلى اليونان إلى الولاياتالمتحدة ثانية، من الديونيزوسية إلى التصعلك إلى الأبولونية إلى الحضارة الآسيوية وفلسفتها، مرورا بالفوضوية ومحاربة الأنظمة التربوية كان هنري ميللر يصوّر ذاته وينقل مواقفه المتغيرة باستمرار· في سنّ الأربعين بدأ الكتابة بمفهومها الراقي: مدار الجدي ومدار السرطان، وقبلهما الأجنحة المتكسّرة، وهما كتابان غنيان بالأساليب والمعارف الفلسفية وطرائق التصوير المستحدثة· سيسير هنري ميللر عكس التيار معتمدا على المباغتة، وسيكتشف لاحقا العاصمة باريس وسيتسكع فيها ويكتب نصوصا نادرة، لكنه سرعان ما يهجر باريس كما هاجر بلده الذي قال عنه ذات يوم: إنه عبارة عن حضارة من الحجارة والقصدير· في 1938 يزور اليونان، وهناك يكتب رائعته عملاق ماروسيا· وجد ميللر في اليونان بعض سعادته في بلد عبارة عن إحالات تضيئ ظلام الغرب الغارق في البضاعة والعلاقات الاجتماعية المشيئة، تلك البرودة هي التي جعلته يغادر فرنسا التي شعر فيها بالاختناق، رغم أنه أحبّ باريس البوهيميين والمجانين والمتشردين واللاعقلانيين والكتّاب والرسامين الاستفزازيين القلقين· كانت أوروبا موطن رامبو وفان خوخ وأنطونان أرتو ونيتشه ودادا والسرياليين ونماذج أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين التي لم تشهد مثلها لا أمريكا ولا الآداب الأنجلوسكوسنية· ذاك ما كان يعجب هنري ميللر الذي وقف ضد القوانين والأنماط التعليمية والقناعات وغياب الجنون والأسئلة· لقد كتب عن الشاعر رامبوا لأنه يشبهه، الطباع نفسها والقلق نفسه، الملل من المجتمعات الرتيبة وأخلاق البورجوازية وسلوكات الرجال: ''وصلنا إلى حالة حيادية، لسنا رجالا ولا نساء، ولسنا جنسا خشنا أو لطيفا· لقد تساوى الكلّ وأفرغ الكلّ من هويته، وهو أكبر خطر يواجهنا، وهكذا فنحن اليوم بصدد فقدان هويتنا·'' الغريب أن هذا القلق لازمه منذ الطفولة: جد ألماني اشتراكي، خالة مجنونة، أب يشرب الخمرة ''مثل ثقب''، أخت بلهاء وأخرى هشة، أم عنيدة وأصول صينية لجد جاء من الحدود الروسية، وقد يكون منحدرا من غزوات المغول:''لقد اجتمعت في عائلتنا كل أنواع الجنون، كل الأمراض، وكل الإنحلالات، العالم بأسره اجتمع فيها، وأنا ما أزال أحس في داخلي بهذا الخليط، وكل هذا ساهم بأن جعل مني ما أنا عليه''· الظاهر أن هذا الخليط سيؤثر كثيرا في كتاباته قاطبة، ونحن نلمس ذلك في جل إبداعاته، وقد يتجلى الأمر بشكل حاد في الربيع الأسود، وفي مدار الجدي ومدار السرطان إلى حد ما، باستثناء شيطان في الجنة الذي يعالج فيه ما يشبه الصداقة مع كائن كسول ومعتوه، ولو أننا نجد علامات من ذلك· أعدت قراءة مؤلفات هنري ميللر عدة مرات علني أصل إلى أجوبة فلسفية، كانت أفكاره مثيرة رغم أنها صادمة أحيانا ومزعجة، لكنها أفكار على أية حال، أحسن من الفراغ وقرع الطبول في المآتم الورقية التي تدعمها رؤوس الأموال والدعاية· كان هنري ميللر يسمي نفسه المفارقة الحية، وهو مفارقة حقيقية على عدة أصعدة، على مستوى التفكير والممارسة والنظرية والمخيال وصدق التجربة الحياتية والمواقف، وكان إنسانا مؤمنا بما يقوم به، واضحا مع نفسه ومع المحيط الخارجي الذي يتحرك فيه· لم يكن نبيا، كان بشرا يتسكع في الحقيقة الكونية، لم يحب المثالية، بل ظل ينتقدها من حيث أنها وهم يقضي على الفعل والتنوع، وعلى الحياة ذاتها· ''أنا أستطيع أن أكون رقيقا في أعماقي وكثير الدفء، وفي الآن نفسه قد يخطر لي أن أكون أكثر برودة وعنفا من وحش، لدي هذان المنزعان في داخلي''· من الأمور الغريبة التي يدافع عنها ميللر مسألة الكسل، وهي مفارقة من مفارقاته الكثيرة: ''لدى وصولي إلى فرنسا، وفي باريس رأيت لأول مرة أن الناس قد يحدث لهم أن يكونوا كسالى، وفي جنوبفرنسا كنت سعيدا، لأنهم هناك مفرطون في الكسل· يقال أيضا عن بيكاسو إنه كان كسولا· وقد قال هو نفسه هذا· لقد كان كادحا كسولا''· يريد أيضا العودة إلى الحياة الرحمية التي تتناغم وتفكيره، يتصور نفسه في الرحم يدخن السيجار، هناك لديه صور لبيكاسو على الحيطان، مشهد فردوسي يكون فيه محاطا بالعناية الكاملة، وليس لديه ما يفعله، لا شيء· ليس له أن يعود إلى بلده، لقد اضطر إلى ذلك، كان يريد الذهاب إلى الصين أو إلى أمريكا الجنوبية، أو إلى أي مكان، ما عدا الولاياتالمتحدة التي غادرها هاربا وعاد إليها كالأسير، وعندما حطت الطائرة بمطار بوسطن أجهش بالبكاء· لقد رجع إلى منفاه، هو الذي قال ذات مرة: إن أكبر خطأ ارتكبته في حياتي هو أني ولدت بالولاياتالمتحدة الأمريكية· لقد هرب من بيع سور بكاليفورنا ثم عاد إليها مكرها، بيد أنه رجع محملا بشمس اليونان وثقافة الشرق، أصبح شخصا آخر برؤية أخرى ومزاج مختلف ينطوي في الآن نفسه على عنصري الماء والأرض كما يقول· كان اهتمام هنري منصبا على مراجعة الأشكال الروائية وفق تصوره، لم يكن يؤمن كثيرا بقواعد الرواية الكلاسيكية وأساليبها: بالزاك، تولستوي، دوستويفسكي، وقد أشار إلى ذلك في مقدمة مدار السرطان عندما استشهد بمقولة لإمرسون: ''في المستقبل سوف تتخلى الرواية عن مكانها وستحل محلها الأعمال الأوتوبيوغرافية''· سيجسد هذه القناعة في معظم نصوصه السير ذاتية متجاوزا بذلك التقاليد التي رسخها النقد، حكايات متشظية وإضمارات وسرد ذاتي ووصف ميال إلى الغرابة، إلى إبعاد المرجع عن الصورة المتداولة في البلاغة القديمة التي أسست عليها كثير من الهالات الأدبية· أغلب كتابات ميللر هي عرض لمجموعة من الشخصيات والحالات والأماكن والمواقف الفلسفية، وهي عرض لمواقفه من الحياة والموت والحرب والحرية والخالق والحضارة والحس والعقل والوطن والحقيقة والتحليل النفسي والجنون· بدأ يتعلم ''التأتأة الإلهية''، أي الكتابة بمفهومها الناضج، عندما عاش في باريس: ''اكتشافي الكبير كان في باريس، في النهاية، ها أنا قادر على أن أكون شابا، بينما في نيويورك، وعندما كان عمري إحدى وعشرون سنة كنت عجوزا من جميع النواحي، وهذا الأمر غير قابل للتفسير، ولكن لم يكن في نيويورك فرح، ولا بوهيمية''· كان مدار السرطان الذي كتبه في عام 1932 هو بداية التحرر الحقيقي من الكتّاب الذي أخذ عنهم: أوزفالد اشبنغلر، إيلي فور، جيمس جويس، دافيد هربرت لورنس، سيلين، مارسيل بروست، دوستويفسكي، رابليه وآخرين· وقد تبرر قراءاته الانتقائية وميوله تهجمه على كتاب ذوي شهرة عالمية، ومن هؤلاء إرنست همنغواي ويوكيو ميشيما، وكان نقده حادا وجارحا أحيانا، هو الذي اشتهر بالتهور يقول عن نفسه: ''إن أغلب الناس يعتقدون أن هنري ميللر رجل عاقل جدا، حكيم وصبور، ولكن ليست هذه هي الحقيقة، الحقيقة أني أعيش بالاندفاع''· لكن هذا الاندفاع هو الذي جعله مختلفا عن كتاب جيله من الناحية الإبداعية، خاصة من حيث إعادة النظر في الأشكال والرؤى، ومساءلة الجنس الأدبي في حد ذاته· عاش ميللر غنوصيا مولعا بنوسترادموس ونبوءاته المشوشة، مؤمنا أن به خبلا في جهة ما، شيئا من الجنون، ما يشبه حالة نيتشه الذي انتهى به الأمر في مستشفى المجانين، بيد أن هذا الإحساس كان يخيفه، لقد عاش كابوس فقدان الهوية رغم إعجابه بالناس في التبت الذين لا يهتمون بالأمر من حيث أن الجنون مظهر من المظاهر الذهنية الكثيرة، ورغم دفاعه عن قلق أبولينير وأناييس نين ورامبو ودستويفسكي وجنونهم، مقارنة بتوازن الكتاب ''العاديين''، فقد ظل الأمر يرعبه· كان يريد البقاء في الغرابة والشك: ''كتبي تبدأ مثل الحياة، في أي وقت وفي أي مكان، إنها حقيقة متحركة''· لا توجد حقيقة معينة بالنسبة إليه، كل الحقائق نسبية، حتى الموت نسبي، اللغة أيضا قد تكون مجرد أداة مرحلية، وقد يأتي وقت يتواصل فيه الشعراء بنظام آخر من العلامات اسمه الصمت، سوف لن يكونوا شعراء فحسب، بل رائين وأنبياء يتخاطبون بأدوات إبلاغية أكثر تعبيرا وأكثر دلالة· كما أن عصر التقنية ليس إلا مرحلة عابرة، لأن هذه الأدوات الزائفة، التي ينصّب لها عداء كبيرا، كالآلات الميكانيكية والسيارات والآلات الكاتبة، ليست إلا لعب أطفال معقدة ولا إنسانية· الأيديولوجيات كذلك، ستكون مستقبلا مجرد ألفاظ لا يعرف معناها سوى علماء اللغة والاشتقاق· حتى الحضارة الحالية مجرد وهم، لأن حضارات الإغريق والهند والصين أرقى وأرحب، كل العالم خط مقوّس كما قال اينشتاين· في عملاق ماروسيا يقضي هنري ميللر على أوروبا كاملة، ويقضي على أمريكا في الجحيم المكيف، ونيويورك الكابوسية والبلاد التي لا أمل للفن فيها· لم تكن أمريكا رائعة إلاّ في طبيعتها، أما تاريخها فقد قام على إبادة الآخرين: ''كانوا عنصريين جدا، المرمون مثلا، كانت لهم عبادات مغايرة، دنيا أخرى، وكانوا أحسن رجال اقتصاد· لم يكونوا بحاجة لا إلى البوليس ولا إلى السجون· كانوا أقوياء وكانوا أحرارا· وقد أثاروا غيرة الأمريكان الذين يمقتون كل هذه الخصال''· أما اليونانيون فهم ناس متفردون، أكثر تفوقا من أوروبا من حيث الرؤية، بشر فقراء وكرماء يقاسمونك كل شيء· لذا أحبهم الكتاب، وهناك في اليونان تصالح مع ذاته· لقد اكتشف الإنسان والقوة الروحية والوضوح وبداية السلام، وانتهت معاناته مع القلق القديم· والحال أن هذا القلق سيتحول، في جزء منه، إلى صفاء في المواقف، كحال علاقته بالأنظمة على سبيل التمثيل: ''أنا مع الرأي القائل بأنه عوض أن تكون هناك حكومات ودول، علينا أن ننتظم في طوائف صغيرة· هذا رأيي، وها هي الفوضى ما تزال قائمة· إن على كل الناس المتشابهين أن يتجمعوا مع بعضهم البعض· ولكننا اليوم لسنا أحرارا لنفعل هذا''· كما ظل موقفه من المدرسة موقفا سلبيا· إنها تمثل، بالنسبة إليه، الموضع المثالي لتدمير الفن والفنان الذي في أعماقنا، والحال أن كل ما هو نظامي ومرتب ومعياري عدو للإبداع· ينطبق مبدأ التحرر من المرجعية الضيقة على رسوماته أيضا، كان يهرب من الآخر بحثا عن نفسه، وكان يتراوح بين عدة اتجاهات، مرورا بالنزعة التعبيرية الألمانية إلى الرسم الساذج· يقول في هذا المضمار: ''أنا رسام أدبي· ملكة التعبير لدي أدبية أكثر منها حسية''· كانت أناييس نين قد لعبت دورا مهما في حياته، وقد ذكرها مرارا مشيدا بخدماتها الجليلة إذ فتحت عينيه على الآداب، وخاصة الأدب الفرنسي: ''عندما أقول أنا مدين بكل شيء لفرنسا ليس صحيحا· أناييس هي فرنسا''· في الثمانين من عمره أعلن ميللر عن نهاية رغباته، لقد حقق كل شيء، انطلق من الجنون إلى السلام الداخلي· انتهت مخاوفه جميعها وأدرك بأن مغامرة الإنسان الوحيدة هي الذهاب نحو الذات، كلنا بوذا في جهة ما· لا يوجد عالم مانوي، كل شيء في الفرد الواحد وعليك أن تكون نفسك· لا داعي لاقتحام الأسرار قاطبة لأن ذلك سيقود إلى الجنون· أنهى ميللر حياته بهذه الفكرة عن الوضع البشري: ''الوضع البشري رديء، ولا إنساني· نحن نعيش كالفئران، لسنا حتى حيوانات جيدة''·