ما عَرف المؤمنون داءً خُلقياً ذَميماً، وعَيباً سُلوكيّاً وضيعاً، مثل غيبة اللسان وأَكْلِ لحوم الأنام، والطَّعنِ في أَعراض الأَصحاب والخِلّان! وذلك رُغم شدّة تحريم الإسلام لرذيلة الغيبة في الكتاب والسنّة وأقوال العلماء والأَئمّة. إنه مرض عَمَّ وطَمّ، وغَدا من أكبر أدواء الأُمم، فأَعْيا أطباءَ القلوب عن أن يجدوا له الدّواء لعِلاج فساد القلوب، ووَضَر العُيوب؛ وأَنّى لهذا الشُّذوذ الخُلقيّ أن يزول، وقد صار المرءُ لصاحبه وأخيه، وفصيلته التي تُؤْويه عَقرباً لاسِعة، وأَفعى لاذعة!. ولا يَغربَنّ عن بالك أنّ ذِكر إخوانك بسوء ذو ثلاث شُعَب، لا يخرج لسانُك عن إحداهنّ، وهي: الغيبة والبُهْتان والإِفْك؛ وكل ذلك قد ذُكر في كتاب الله، فالغيبةُ أن تقولَ ما فيه مما يَكره، والبهتانُ أن تقولَ ما ليس فيه مما يُنكر، والإِفْكُ أن تقول ما بلغك من سوءٍ يَفْضَح. لقد اشتد غضبُ النبي صلى الله عليه وسلم يوماً من قبيحة الغيبة فنادى بصوت أسمع العواتق (أي الصّغيرات) في خدورهنّ: «يا معشرَ من آمن بلسانه ولم يُفْضِ الإيمان إلى قلبه لا تغتابوا المسلمين، ولا تتّبعوا عوراتِهم، فإن من تتبَّع عورةَ أخيه المسلم تتبّع الله عورتَه...» رواه الترمذي؛ وبيّن النبي صلى الله عليه وسلم «أن أَرْبى الربا عند الله استحلالُ عِرضِ امرئٍ مسلم» رواه ابن أبي حاتم؛ وقال الخليفة الراشديّ عمر بن عبدالعزيز: «أدركْنَا السَّلَف وهم لا يرون العبادة في الصوم، ولا في الصلاة ولكن في الكفّ عن أعراض الناس!». ومن أشدّ ما يرتجف له القلب، وتضطرب له النفس، ترهيبُ النبي صلى الله عليه وسلم الأُمّة من شرّ ما يُصيب المغتابين الذين يجعلون استباحة أعراض إخوانهم مَلْهى ألسنتِهم، ومَهْوى أفئدتِهم، فيقول فيهم وفي عذابهم ومصيرهم: «لما عُرِج بي مررتُ بقوم لهم أظفارٌ من نُحاس يَخمِشون بها وجوهَهم وصدورَهم، فقلت من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحومَ الناس ويقعون في أعراضهم» رواه أبو داود. لقد ربّى نبيُّنا الأكرم صلى الله عليه وسلم أصحابه وإخوانَه من بعده على تطهير النفس واللسان من الطّعن في أعراض الإخوان، فقال صلى الله عليه وسلم: «لا يُبلغني أحدٌ عن أحدٍ من أصحابي شيئاً، فإني أُحبّ أن أخرج إليهم وأنا سليمُ الصدر» رواه أبو داود. فأنّى لك أن تقتدي بهذا الهَدْي النبوي النقيّ إن كنتَ من الذين انحرفت ألسنتُهم، وفَسَدت قلوبُهم، وافتُضِحَت عوراتُهم، وكانوا من المشّائين بالنَّميمة، المُفَرِّقين بين الأَحبّة، الباغين للبُرَآء العَنَت؟ ولا يَغربَنّ عن بالك أن المستمعَ هو أَحدُ المغتابين، وأنّ الساكتَ برِضاهُ شريكٌ للمغتاب في إثمه وعُدوانِه، ولا يخرج من إثم الغيبة إلا بأن يُنكر بلسانه أو يَرْتحل من مكانه، أو يُنكر بقلبه إن عجز عن الإنكار والارتحال، وهذا أضعف الإيمان الذي قد يُعفي صاحبه من الإثم، والله تعالى ينهاه عن أن يسمع أو يشارك في قوله: {فَأَعْرِضْ عنهم حتى يخوضوا في حديث غيرِه وإما يُنْسِينَّكَ الشيطانُ فلا تَقْعُدْ بعد الذكرى مع القوم الظالمين} (الأنعام: 68). لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم ينهى أصحابه عن أن ينقلوا إليه ما يُغِّير قلبَه على أَحد من صَحْبه، فيقول: «لا يُبلِّغْني أحدٌ عن أحدٍ من أصحابي شيئاً فإني أُحبُ أن أخرجَ إليهم وأنا سليمُ الصدر» رواه أبو داود. ولا يَفوتنَّ اللبيبَ أن يُدركَ بأن للغيبة القبيحة المحرَّمة صوراً متعدِّدة وأساليبَ متنوِّعة في كل زمان؛ فقد تكون بالمشافهة وبالخطاب وبأساليب التّوْرية، وقد تكون بوسائل التواصل الاجتماعي المعاصِرة المُغْرِضة، وكلُّ ذلك على تنوُّعِه يدخل في دائرة المحرَّمات الأثيمة.. وحَسْبُكم بالغيبة حُرْمةً أن النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم وَدَّع الدنيا في حَجّة الوداع وهو يؤكدّ في خطابه الجامع على بيان كبائر الإثم وعظائم المحرَّمات ومنها حُرْمة الغيبة بقوله: «إِنّ دماءَكم وأموالَكم وأَعراضَكم حرامٌ عليكم كحرمةِ يومِكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، أَلا هل بلَّغت؟ اللهمّ فاشْهَد».