قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ يخبر الله عزّ وجلّ في مطلع هذه السّورة والقرآن كلّه عظيم خبرًا مؤكّدًا بحرف التّوكيد "إنّ"، أنّه قد أنزل القرآن الكريم في ظرف زماني محدّد، هو شهر رمضان كما قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ القُرْآنُ} البقرة:185، وبالتّحديد في ليلة القدر من هذا الشّهر المبارك. فليلة القدر ليلة عظيمة القدر عند الله عزّ وجلّ، وإنّها لخسارة كبرى أن ينقضي شهر رمضان فلا يُدخلنا ربّنا الفردوس الأعلى، وإنّه لخسارة فادحة علينا أن ينقضي شهر الصّيام ولا نُنقَّى من ذنوبنا كما يُنَقَّى الثّوب من الدّنَس، وإنّها لمُصيبة عظيمة أن يخرج شهر الصّيام من بيننا ويرحَل ولا تكون نفوسنا أنقَى من ثلج الصّباح. قد يتساءل سائل: هل نزل القرآن الكريم في ليلة واحدة أم في 23 سنة؟ وكم كان عمر سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عندما نزل عليه القرآن؟ كان عمره عليه الصّلاة والسّلام 40 سنة، وكم كان عمره صلّى الله عليه وسلّم عندما مات؟ كان عمره 63 سنة؛ أي أنّ فترة الرّسالة المحمّدية كانت 23 سنة. إنّ فترة استمرار نزول القرآن الكريم على نبيّنا عليه أفضل الصّلاة وأزكى التّسليم كانت 23 سنة، بدأت بقوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} العلق:1، وانتهت بقوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} المائدة:3، أو قوله: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} البقرة:281. إذًا، القرآن الكريم نزل في 23 سنة، فكيف يقول لنا القرآن: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ} في ليلة واحدة؟ كيف نزل في ليلة واحدة، وهو فعليًّا نزل في 23 سنة؟ كان القرآن موجودًا في بادئ الأمر في اللّوح المحفوظ،، قال تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآَنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} البروج:21-22. واللّوح المحفوظ هو أيضًا الكتاب المكنون، قال تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} الواقعة: 77-78. واللّوْحُ المحفوظ هو السجل العام الّذي كتب الله عزّ وجلّ فيه في الأزل ما كان وما هو كائن وما سيكون. ومعناه المحفوظ عن استراق الشّياطين، محفوظ عن التّغيير والتّبديل، وهو كتاب مكنون؛ أي: مصون محفوظ عن الباطل. وقد نزل القرآن الكريم إلى السّماء الدّنيا جملةً واحدةً في ليلة واحدة، قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ} الدخان:3، والّذي هو من اللّوح المحفوظ إلى بيت العِزّة، قبل أن يَنزِل على قلب نبيّنا الكريم صلَّى الله عليه وسلَّم مُتَفَرِّقًا {وَقُرْآَنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} الإسراء:106. وتسمّى هذه اللّيلة المباركة بليلة القدر؛ كما في آية سورة القدر: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}، وهي من ليالي شهر رمضان، كما في آية سورة البقرة: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} البقرة:185. وقوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} "لَيْلَةِ" لماذا ليلة القدر بالضّبط ولم يقل نهار القدر؟. قال عزّ وجلّ: {لَيْلَةِ الْقَدْرِ} لأنّ اللّيل هو زمن الصّالحين القائمين الرّاكعين السّاجدين، ولأنّ اللّيل زمن السّكينة والهدوء والصّفاء والنّقاء.