صحافية الشروق تتقمص دور جمركية بمطار هواري بومدين لم يكن يدور في مخيلتنا أن نرتدي بدلة ميدان للجمارك وحتى أن نشاركهم تجربة ميدانية حية، نتابع من خلالها عن قرب طريقة اكتشاف المخدرات والأسلحة والذهب، مهما تم إخفاؤها باحترافية داخل الحقائب والأمتعة.. فعندما قررنا الخوض في هذه المغامرة وتقمص دور جمركية كانت غايتنا اكتشاف حقيقةهذه المهنة ونقل تفاصيلها الدقيقة.. مهمة ليست مستحيلة ولكنها متعبة، وشاقة تتطلب منكالكثير من الجهد والصبر والفطنة. ضبطنا أمورنا واتخذنا كل الإجراءات الإدارية اللازمة مع مصالح المديرية العامة للجماركبعد أن تحصلنا على موافقة من مديرها العام محمد عبد بودربالة، واتجهنا إلى المطارالدولي هواري بومدين، في حدود الساعة العاشرة والنصف من صباح أول أمس، إذ تماستقبالنا من طرف رئيس مفتشية أقسام الجمارك لمطار هواري بومدين المراقب العام ضيفالله محمد النذير ومساعده المفتش الرئيسي للفحص نذير عبد الحميد، وقبل أن نبدأ مهمتناخاصة أننا قررنا تقمص الدور الكامل للجمركي، خضعنا لتربص دام أكثر من ساعة، حيثتلقينا فيه تكوينا قصير المدى حول عملية تفتيش وتمرير الأمتعة عبر جهاز السكانير وكذاالطرق التي يتصرف بها الجمركي في حالة الاشتباه في أحد المسافرين، وعن الإجراءاتالتي يجب اتخاذها في حالة حجز الممنوعات، واستنتجنا في عين المكان بأن ضبط النفسوالعمل دون كلل والتركيز أثناء مراقبة المسافرين، غير كاف إذا لم تكن عناصر الجمارك فيحالة تأهب دائم، أضف إلى ذلك التكوين والتجربة في الميدان.
احذروا.. رحلات مشبوهة..؟ في حدود منتصف النهار والنصفارتدينا البدلة الرمادية الخاصة برجالالجمارك وبدأت رحلتنا رفقة عدد منالأعوان الجمركيين، وكما يقال ربصدفة خير من ألف ميعاد.. فكل الرحلاتالحساسة والمشبوهة أو كما تسمى عندأهل الاختصاص في المطار les voles suspects "كانت حاضرةفي ذلك اليوم.. نعم إنها حالة طوارئ..فلا تسمع عبر أجهزة الراديو اللاسلكي "طولكي ولكينغ"، إلا عبارات "هل الكل علىاستعداد، خذوا مواقعكم، القطرية حطت رحالها بأرضية المطار.."، ونحن كنا نعلم مسبقا أنالرحلات القادمة من قطر مصنفة في الخانة الحمراء الواجب إخضاعها للرقابة المشددة، إلىجانب الرحلات القادمة من تركيا "إسطنبول" الإمارات العربية "دبي"، المغرب، فرنسا"،بعدما تبين أن شبكات تهريب العملة الصعبة والمؤثرات العقلية أصبحت تلجأ إليها بغرضالتهريب، وذلك بعد تضييق الخناق عليها على مستوى المنافذ البرية مع الجيران.
أمراء وسفراء ووزارء.. كلهم سواسية أمام السكانير في أرضية المطار وعلى بعد 500 مترافقط من الطائرة "AN 340 " القادمةمن قطر بدأت مهمتنا الأولى حسبالأوامر والتعليمات التي تلقينها حيثدخلنا القاعة رقم 3 حيث يوجد جهازإعلام آلي موصول بجهاز سكانير الذيمن خلاله يتم تمرير أمتعة المسافرينوتفتيشها تفتيشا دقيقا ، أخذنا موقعناوكانت الأمتعة الأولى لأصحاب الدرجة VIP وهي أمتعة خاصة بعدد من أمراء قطر وممثليها الدبلوماسيين التي لم يتم استثنائهامن التفتيش الدقيق كغيرها من الأمتعة، حيث علمنا في عين المكان أن جميع المسافرينوحتى الوزراء والرؤساء تمرّر أمتعتهم عبر جهاز السكانير، وفي حالة الاشتباه تسجل عليهاعلامة خاصة، لا يفهمها إلا رجال الجمارك وهي بمثابة إشارة بضرورة التفتيش اليدويللحقيبة مثلا. اعتقدنا للحظات أننا فعلا من الجمارك ولسنا في مهمة صحفية من شدة التركيز علىمحتويات حقائب وأمتعة المسافرين التي كنا في صدد تمريرها على جهاز سكانير. فهيمهمة ليست مستحيلة ولكنها متعبة وشاقة جدا فرحلة واحدة على شاكلة الرحلة القادمة منقطر تحتاج إلى أكثر من ساعتين من الوقت حتى تنهي عملية تفتيش الأمتعة،أضف إلى ذلكفإن العمل في المطار يتطلب الكثير من الصبر، حتى تواجه توتر المسافرين والكثير منالجهد لتتعامل مع الآلاف منهم يوميا، ومنهم أجانب إنها مهنة تفرض على رجال الجماركالكثير من الدبلوماسية لاستقبالهم أحسن استقبال لأن صورة الجزائر في المحك. الوقت الذي قضيناها رفقة أعوان ومسؤولي بمفتشية أقسام الجمارك بمطار هواري بومدينوالحديث معهم كشف الكثير من التفاصيل المثيرة، حول دورهم في مراقبة وتأمين بلادنا منبارونات ومافيا التهريب، خاصة أن الرحلات الجوية أصبحت في السنوات الأخيرة مسلكاينتهجه المهربون للتحويل غير الشرعي للأموال من وإلى الخارج، إضافة إلى تهريبالمخدرات، خصوصا الكوكايين القادمة من دول إفريقية، بعد أن تحولت الجزائر إلى معبردولي لهذا النوع من النشاط المحظور، حيث حضرنا عمليات حجز أزيد من 43 ألف قرص"فيا أنناس" وهو مكمل غذائي خاص بالتنحيف الجسم رغم خطورته، وعدد من الهواتفالنقالة ومبالغ مالية بالعلمة الصعبة تقدر قيمتها بأ 100 ألف أورو، إلى جانب بندقية مننوع كلاشينكوف.
البزناسية وتجار "الشنطة" يغيّرون وجهتهم نحو الدوحةوالإماراتوتركيا صراع رهيب وتحدٍ قوي يزداد يوميا بينالمهربين ورجال الجمارك باعتبارهمالواجهة الأولى للمخاطر، فخلال تواجدنافي قاعة تفتيش الأمتعة علمنا من أعوانالجمارك أنه بعد تشديد الخناق علىالمهربين على مستوى الرحلات القادمةمن فرنسا ولندن واسطنبول واسبانياحوّل عدد كبير من تجار الشنطةو"بزناسية" الهاتف النقال والذهبمعابرهم إلى الدوحةوالإماراتوتركيا هربا من المراقبة وكذا للامتيازات التي توفرهاشركات الطيران عبر هذه الرحلات، خاصة في أوقات نهاية السنة الميلادية التي تشهدتخفيضات من الدرجة الثالثة التي يتهافت عليها الجزائريون بشدة، ما يرفع من أرباحالمهربين. وبحكم معرفتهم الجيدة لخصوصية جميع الرحلات الجوية القادمة من خارج الوطن، فإنأعوان الجمارك على دراية تامة بما سيحاول المهربون خلال كل رحلة إدخاله إلى أرضالوطن، فمثلا رحلات إسطنبول معروفة بتهريب الألبسة والذهب، رحلات قطرودبي فيالهواتف النقالة ولواحقها، رحلات المغرب في الألبسة التقليدية الفاخرة "القفطان"، كماباتت وجهة مرسيليا معروفة لدى عناصر الجمارك بالمطار، حيث كان أصحاب هذا النوع منالتجارة في كل مرة يحاولون إغراق الجزائر بمختلف أنواع قطع الغيار المستعملة عبررحلات جوية قادمة منها على متن شركة الخطوط الجوية الجزائرية، علما أن مفتشية أقسامالجمارك وضعت على مستوى مطار هواري بومدين آلية مشتركة لتشديد الرقابة على بعضالرحلات القادمة من دول عربية وأوروبية.
طوابع البريد والفلفل والأمعاء آخر حيل المهربين مع الجولة التي رافقنا فيها رجالالجمارك بمختلف رتبهم لساعات طويلةدامت تقريبا حتى منتصف الليل وماحملته من فصول تخطت بنا سقفالدهشة والإبهار في الطرق التييستعملها المهربون، حيث يظهر هؤلاءبأثواب جديدة ووجوه غير مألوفةومعتادة، مع تطور أداء الأجهزة الأمنيةباستخدام أعلى أنواع التكنولوجيا فيرصد وضبط تجار السموم فضلا عن الوسائل الحديثة والجديدة التي يبتكرونها للإفلات منجهاز السكانير على غرار لصق المخدرات على طوابع بريد، ووضع الكوكايين والهيروينفى جبس الكلب ومخابئ للأقراص المهلوسة بالأمعاء وبقاع الأحذية.. فقد تعددت السبلوالهدف واحد، وهو محاولة تضليل الجمركيين وتفادي كشف السكانير ذلك هو خطط مهربيالمخدرات خاصة الأقراص المهلوسة والذهب عبر المطارات، حيث لجؤوا في الاونة الاخيرةالى استعمال حيل لا يتصورها العقل، فخلال وجودنا في المطار علمنا من الجمركيين أن عددامن المهربين يستعملون الفلفل الحار الأحمر لتهريب علب سجائر "المالبورو"، إذ أنه خلالتمريرها على جهاز سكانير لا يمكن التفريق بين الفلفل وعلب السجائر نظرا لتشابه اللونالأحمر إلى أن رجال الجمارك تفطنوا للخدعة، فيما لجأ مهربون آخرون إلى استعمال بطونهمواماكن حساسة في اجسامهم من اجل تهريب الممنوعات من مخدرات ومجوهرات وغيرهاعبر المطار، فلم تعد الملابس الداخلية طريقة مثلى لإخفاء هذه المواد بعدما افتضح أمرهاأكثر من مرة، مما جعل مهربين من جنسيات مختلفة يبدعون ويبتكرون حيلا ربما لا تخطرعلى بال أحد كأن يبتلع احدهم كمية من الكوكايين او تدس إحداهن كبسولات من الهيروينفي رحمها من اجل الإفلات من قبضة الجمارك، حيث عالجت مصالح الجمارك حسبماعلمناه في عين المكان قضية فريدة من نوعها بطلها رعية إفريقية من جنسية نيجيريةحاول تهريب أزيد 50 كبسولة هيروين ببطنه حيث تفطنوا له بعد لفظ هذا الأخير 4كبسولات في المرحاض كانت ملفوفة بشكل جيد بأكياس بلاستيكية حتى لا يتخللها الماءوتتأثر بإفرازات المعدة، وتم توقيف المتهم بناءا على ذلك واخضع للمتابعة الطبية مدة 4أيام متتالية، أين تمكن المتهم من إخراج 50 كبسولة هيروين أخرى كل كبسولة بوزن100غ أي أن المتهم كان يحمل ببطنه أزيد من 1 كلغ من الهرويين، وان المتهم صرح خلالالتحقيق معه انه حاول تهريب المخدرات إلى قطر لصالح رعايا أفارقة هناك مقابل 3 ألافدولار.
لعبة القط والفأر بين المهربين والجمارك بالرغم من نقص تعداد رجال الجماركفي المطار الدولي هواري بومدينمقارنة بالمصالح الأمنية الأخرى، إلا أنالشيء الذي لاحظناه في عين المكان هوالانتشار المحكم للعناصر الجمركية الذينيعملون ليلا ونهار إذ ونحن في مهمةتفتيش الأمتعة مع "زملائي" أكد لنا أحدالمفتشين الرئيسيين،" أنه بالرغم منالضغط الذي نلاقيه، فالعمل مستمر 24ساعة على 24 ساعة، ويطال الإرهاق عناصرنا، لكن النتائج المرضية في الميدان تثمنالمجهود الذي نقوم به، على شاكلة العملية النوعية التي قمنا بها مؤخرا، حيث حجزنا أزيدمن 3 آلاف قرص "سوبيتاك" وهو بديل الكوكايين كانت مخبأة في علب "بسكويت" غاليةالثمن من صنع فرنسي، حيث أن الشبكة التي قامت بتهريبها تنشط على محور مرسيلياوالجزائر، نجحنا في إنقاذ أزيد من 30 ألف شاب من موت محتوم". وخلال تواجدنا في بهو المطار اكتشفنا حقيقة أخرى وهي أن حالة الطوارئ التي يعلنهارجال الجمارك ضد المهربين في العديد من المرات هي نفسها تسود بين أفراد شبكاتوبارونات التهريب، إذ بمجرد إلقاء القبض على أحد تجار الشنطة أو البزناسية ينتشر الخبربسرعة البرق، مما يجعل المهربين الآخرين يتركون بضاعتهم في البساط الخاص بالأمتعةوحتى في المراحيض المتواجدة في المطار ويلذون بالفرار إلى الخارج، حتى لا يتم توقيفهم،إذ أكد لنا أعوان الجمارك أنهم في العديد من المرات حجزوا أسلعة وبضع تفوق قيمتهاالمالية مليار و500 مليون سنتيم، خاصة عندما يتعلق الأمر بالهواتف النقالة الذكية المهربةمن دبيوقطر. وقبل أن ننزع بدلة الميدان ونغادر المكان بعد يوم كامل قضيناها رفقة رجال الجمارك وقفناعلى حقيقة مفادها أن أصحاب البدلة الرمادية يشكلون خط الدفاع الأول على الاقتصادالوطني، وحماية المجتمع الجزائري من الغرق في السموم والممنوعات، فلا يغمض لهمجفن طيلة فترة المداومة والتي قد تطول خلال أوقات الذروة لأكثر من 12 ساعة متواصلة،ورغم علامات التعب البادية على وجوههم، إلا أنهم يستقبلون زوار الجزائر بابتسامةعريضة ويتقربون منهم لحل انشغالاتهم، فهذا لم يتمكن من الحضور في الوقت المناسب قبلإقلاع طائرته ، وآخر يجد صعوبة بين الإجراءات الإدارية والتوجيه، كلها قضايا تتممعالجتها في وقت قياسي للسماح بديمومة العمل العادي بفضل هؤلاء الرجال الواقفين.