العالم العربي، لم يكن دائما روضة للتعايش السلمي بين المذاهب والطوائف، بل شهد تاريخه ومازال يشهد- تجاوزات، وسلب للحقوق، منها الحق في الحياة باسم الدين، ولا تملك في غالب الأحيان الدراسات السياسية من الجرأة، لتتطرق إلى مسائل تتعلق ببناء تصورات دينية يمنع معها التأويل الخاطئ، والمتطرف، ليس من العيب القول مثلا أن تنظيم الدولة الإسلامية يستقي العديد من خطوطه العريضة من الفكر والممارسة الإسلامية، والمشكل هنا، هو أن مناقشة هذا النوع من القضايا كثيرا ما تتوقف عند خط الممنوع، والطابوهات، مما يعيق تقدمها، فتعود الظواهر السلبية من جديد إلى نقطة الصفر لتتعاظم أكثر، لماذا يتقاتل السني والشيعي في العراق، والعلوي والدرزي والسني في سوريا، لماذا يتقاتل المسيحي والمسلم في لبنان وحتى في مصر، هل الخلل في الدين نفسه، أو من لقنهم الدين، أم الخلل في أنظمة سياسية لم تأسس لحياة مجتمعية خالية من النعرات الدينية والطائفية والمذهبية. معطيات الواقع لا تبين أن العالم العربي قد تعلم من أزماته التي صبغت بالدين والطائفة والمذهب، وحتى الأنظمة العربية ما زالت تستثمر في المشاعر الدينية، وتلعب على أوتار الأحاسيس الإيمانية لدى البعض لينتج هذا زبانية طائفية ومذهبية قاتلة ومدمرة في أغلب الأحيان، فالعلوي يقتل في سوريا لأن بشار علوي والسني يمزق لأن داعش تعمل وفقا منهج السنة، وتختصب الايزيدية لأنها سبية حرب، والشيعي يشك في ولائه الوطني في البحرين لأن إيران شيعية، وغير ذلك من الممارسات التي صمت عليها المجتمع مرغما، وسكت عنها أصحاب العمائم، سكوت خوف، يظهر كأنه سكوت رضا، أن بناء وهندسة سياسات لخدمة الأمن الديني، وأمن المعتقد في العالم العربي أضحت ضرورة استراتيجية ليس للاستقرار السياسي بل للمحافظة على بقاء الجنس البشري العربي، الذي يبدو مصيره في ظل المؤشرات الحالية أنه سيسحق في حروب شبيهة بتلك التي عصفت بأوروبا في القرون الوسطى.
المستقبل: الدينية أم العلمانية
لا أريد الإجابة بتطرف لأي جهة، كالقول المستقبل للدين، أم للأفكار العلمانية، لأني أود ترك النقاش مفتوحا لينقده، أو يقومه غيري، لكن ينبغي القول أن التجارب العربية في ما يتعلق بالدينية السياسية، كتجربة الجزائر، وكذا مصر، وسوريا، ولبنان، وتونس والمغرب وحتى بلدان الخليج خلقت نوعا من التخوف من الأفكار السياسية التي تبنى على أساس ديني وكذا تسعى العديد من الأطراف إلى تجريم العلمانية وتصويرها على أنها ‘كفر' لا جدال فيه، فقد خلق وعيا سياسيا لدى المواطن العربي يجعله يحس أنه يختار بين التطرف وبين الإلحاد والانحلال، هذا الوعي لم يولد من فراغ بل ساهمت الكثير من الوقائع في العالم العربي على نحته. يجب التسليم بفكرة مفادها أنه لا توجد اليوم سلطة سياسية دينية بالمعنى الحقيقي للكلمة، ولا توجد سلطة علمانية بالمعنى الكامل، حتى في الدول التي تدعي ذلك، لأنه من المستحيل فصل الديني عن الدنيوي، فأن يقول أحد المسؤولين الأوروبيين بعد قرون من الممارسة العلمانية إن الاتحاد الأوروبي ناد مسيحي، في إشارة إلى رفض تركيا ذات الأغلبية المسلمة، هو دليل على أن الوعي الديني حاضر في الحياة الإنسانية، ولا يمكن تحييده، وهذا ما يبرر ربما فشل الأحزاب العلمانية في العالم العربي إلا بعض النماذج القليلة، وإن وصلت فإنها تعانق مؤسسات دينية تتقوى بها وتستند عليها، كما لا يمكن تخيل نظام ديني بالمعنى الكامل للكلمة، لأنه حتى التعاليم الدينية باتت في كثير من الأحيان مسيسة، وخاضعة لنزوات سياسية لجهات معينة. إذن، لا تبدو الأنظمة العربية اليوم علمانية بمعنى الكلمة، كما ليست دينية كذلك، فالممارسة السياسية اليوم تنهل من الاثنين، وتستثمر في الاثنين، العلمانيون لكبح جموح الإسلاميين، والإسلاميون كأداة ردع ولو لين- للعلمانيين، فمثلا الدول التي تدستر للإسلام لا تطبق الحدود، وتفتح تجارتها أمام البضاعة التي يحرمها الإسلام، وغير ذلك، من هنا نقول، إنه ليس هناك استعداد لتقبل الدين كممارسة سياسية، كما أنه ليس هناك تقبل لاعتناق الأفكار العلمانية، وجعل السلطة الحق المشترك، والدين هو الحق الشخصي، وإن ادعى الكثيرون عكس ذلك. يتبع….