أستدعيه فهو يستحق، وأستدعيه فهو كأمثاله من نجباء الرأي الديني يتطرف في السماح و يساجل العقل المغلق في آخر دائرة له وهو كأمثاله عاش منغصا ومنغصا لا تطاق رؤية محمولة على التجدد ولا يرى إلا بعين قاصرة ومذهب مستعجل وذهنية رافض، رافضي لا يبصر من عمى بصيرته··· لم يحن ذلك الوقت الموضوعي، المحايد، المنهجي حتى يستعاد الشيخ محمد الغزالي وتستعاد قراءته، فبعد سنوات عديدة مرت على وفاته أثناء مشاركته في مهرجان الجنادرية - العلماني- بالرياض تضاءلت الكتابة عنه وتضاءلت أطياف حضوره في الفكر الإسلامي كما أزاحته المدرسة الفقهية المحافظة إزاحة كاملة من منظومتها الإجتهادية، لقد توارى محمد الغزالي تحت ركام هائل من نتاجات بقايا فكر اسلامي هرم ذلك الذي مثله محمد عمارة وفهمي هويدي وسليم العوا وطارق البشري وتوارى تحت ترات شفوي معصرن من الكلام و البلاغة العمومية الضحلة التي يبتعثها اليوم جيل جديد من المتكلمين باسم الإسلام من أمثال عمرو عبد الكافي وراتب البابلسي ومحمد العوضي وسلمان العودة وعائض القرني وهؤلاء هم مجرد دعاة، متكلمين شفويين،مخاطبين، ليست لهم كتابات أو آداب أو آثار منسوخة··· كذلك توارى الغزالي تحت حمى القراءات العلمانية وتهافتها وكانت متهافتة جدا واستعملت قميص عثمان في حادثة مقتل المفكر المصري المعروف بالأخص -في مصر- هو فرج فودة، فلقد كانت زلته تلك بثمن لا يقدر واستغلها الفكر الديني التضليلي أيما استغلال لينكل بعقلانية محمد الغزالي وتفتح رؤاه وانتماءاته غير المتحزبة ودفاعاته عن الجماعة الوطنية والدولة القومية،لكن الغزالي كان هكذا أحيانا لا يتخير لقدمه تربة ناعمة أو ريش سجاد أو حذاء إمبراطور··· لم يكن يأت على الأصول بالإجهاز عليها فذاك أصل من أصول العلمانية، لكنه كان يفكك في المرويات والأسانيد ويجمع الغثاءات من كل أدب أو تاريخ أو جغرافيا اسلامية ويرمي بها في صندوق النفايات، لقد فعل ما فعله تماما محمد أركون، ونصر حامد أبو زيد، وعزيز العظمة والعروي والجابري، لكن البيئة العلمانية كانت تلفظه وتتحفظ عليه دونما التنكب لدراسة تمرحلات آدابه وانقلاباته على أنساق التفكير الإسلامي الدوغمائي··· لقد تعاطت معه العلمانية بحذر اجمالا لأن الجماعات السنية في طبيعتها مختلفة عن الجماعات الشيعية إذ لا تنتظم الأولى مع المنطق والعلم والمعرفة فهي من طبيعة عقائدية كاملة المعاني غير أن الثانية تثبت المفاهيم العلمية وتقبل بادراجها ضمن الكليات الدينية، إنه لا يمكن أن يكون محمد أركون شيخا من مشايخ العلم الديني لسبب بسيط هو أن محمد أركون يعتقد بأن التيولوجي هو الميثولوجي ذاته في الإسلام،إذ الجزء الذي يمثل الأسطورة ضمن تاريخيات الديانة الإسلامية كبير ولا يقدر أحدنا على الإحاطة به إلا بأن تتبري المعاهد ذات الطابع الإبتسمولوجي للتخصص في مثل هذه الموضوعات ومن ذلك يأت النبذ المتبادل ضمن القطاعين الإسلامي والعلماني··· إن القطاع العلماني أيضا سيرفض تولي المشيخة الدينية لمنصب من مناصب التأطير المعرفي والعلمي في الجامعة وملحقاتها، غير أن الأيديولوجيا الشيعية وأنساقها أكثر استيعابا لهذه الإزدواجية وملابساتها، وفي الحقيقة أن الغزالي هو من قلة جاء لا من كثرة رغم تأثراته بالمرحلة السلبية التي ران عليها وسيطر فكر سيد قطب وتأثراته هو بأفكاره عن الغرب المظلم، ونظريات الغزو الثقافي ومثالية الإصطفاءات التاريخية والمذهبية، لكنه من قلة جاء فعلا، احتضنه تيار الإخوان المسلمين لكنه لم يحتضن هو فكر الإخوان بطوباوياته الرائجة آنذاك عن اعادة بعث الخلافة الإسلامية، له تربية أزهرية لم يِؤكدها في مساره الإنعزالي الفردي إذ كان واضحا عنده أن في الأزهر خلل ما ومفارقة بين أزهر محمود شلتوت وأبو زهرة عبد الحليم محمود وأزهر عطية وجاد الحق علي جاد الحق وسيد طنطاوي، ناهض الجماعات الإسلامية الحركية وغير الحركية، الجهادية وغير الجهادية، كما ناهض رجالات الإفتاء الديني، المتسرعين، الغالقين لأبواب التأويل بالشمع الأحمر وناهض الكسالى، المتبطلين القدريين، العازفين عن القراءة والإبداع والإبتكار وصناعة الحياةص إن الغزالي جواب آفاق ومرتاد عوالم وزائر دائم لفنون المعارف، وعوارف العرفان،أزهري غير مدرسي، إخواني متمرد على التعاليم،غير متخرب ومؤمن بالوطن الكبير،مناصر تقليدي للمرأة وللعدالة ولحسن التعلم، جسور ومواظب على البحث والجدل والمداولة والتأول وإفراغ الوعاء المملوء بالأكاذيب والطنين الأجوف والشعبويات والقراءات المبتسرة المنقوصة للإسلام الرحب في فناءاته وساحاته كما في جماع أقواله وأفعاله كما في جامع ملله ونحله···· لماذا لم يقرأ الغزالي إلا بقراءة واحدة، تصنيفية، متطرفة بوليسية، لماذا لا تستطيع العلمانية العربية المنتمية إلى النطاق السني أن تقرأ الغزالي بطبعات جديدة، منقحة، لقد كان له السبق في تعرية السلفويات، والسبق في اعادة بناء البيت الإسلامي - وفق منظومة غزالية صرفة- ولم يحمل الناس على مذهب فيه شطط أو غلو أو غلواء، كان يأخذ من الدين رقته، رهافته،حسيته، وطربه، إن الإشكال في الغزالي أنه تهافت على الجميع ومع الجميع، فتهافت عليه الجميع مع الجميع، إنه ملة ونحلة قائمة بذاتها، خاصة به هو أبان عنها اسراءا ومعراجا، ذهابا نحو الداخل وإيغالا في التحفير، لقد كان يوسف القرضاوي - وهو شيخ أزهري وقرين له ويعاكسه في التحزب و الإنتماء إذ أن القرضاوي ارتبط اسمه بريادته لمكتب الإرشاد الدولي التابع للتنظيم الدولي للإخوان المسلمين، لقد كان أقل جرأة منه ويناصحه دوما في التخفيف على العقل الإسلامي العام وعلى العقل الديني العربي، السني، إذ لم يتعود هذا العقل على الرأي وتفاصيله بل مستسلم في خدر واهن لموته ومواته، للفتيا المحسومة والعالم المرجعي الذي يطلع على الناس بقول واحد، استطاعوا عليه أو ما استطاعوا فتركوه أو نافقوه أو انتحلوا غيره أو انتسبوا لفرقة أخرى ظنوها هي المنصورة، الخالصة، الرابحة ولا ندامة ولات حين مندم، لم يمل محمد الغزالي طرفة عين إلى خوف داخلي يكبحه أو سلطة برانية تناصبه العدا والتوجس أو إلى مجتمع متخلف رجعي يخاف النساء فيروح يسترضي هؤلاء وهؤلاء برأي أو تعليق أو مدخل أو لافتة تعجب الزوار والمقيمين، إن الغزالي أسس طريقته، نحلته،ملته، شرعته، ولو بعث الشهر ستاني لأضافها إلى مصنفه، إن فترة الخمسين سنة الأخيرة تطاحنت على الأمة المشتتة المطارق العدة والفؤوس والدبابات، ناهيك عن غول الداخل الذي ظل يفرقها ويفصلها عروة، عروة ويفصم عراها ولم تكن قبل الخمسين هذه بأحسن حال، فلقد كان الهبوط نحو الأسفل الأسفل يتخذ مساحة من التمدد يستحيل التقليص منها، كانت القابليات للإستعمار والتخلف تستشري وتزيد والإستعمار غير خجلان أسفا على ما يرتكبه من تهريب المغانم، وساد عقل صوفي نائم وسادت وهابيات كثيرة تلبس لبوس الإصطفاء والصفوية وفشلت قومويات كبرى ناصرية عفلقية، وعلوية سورية أو قذافية وحدوية، وعاش الناس الإسلاموية المحلية والعالمية التي حملت ألوان الترابي والغنوشي ومدني···· كلها كانت ملامح عصر محمد الغزالي الديني واللاديني وهو متخم بالفواصيل من النقاط والإستفهامات والتهافتات··· إنني أستدعيه فهو يستحق وأستدعيه فهو كأمثاله من نجباء المئة سنة الأخيرة وفطاحلتها وقيادييها وزعاماتها التاريخية منها والكارطونية، لم أجد من أزهري مثله، أو شيخ مثله أو إمام مثله في تعشق الرأي الآخر والإنهمام بالمناظرة ومبادئها الرفيعات، إذا أردنا فهم هذا السر في إخفاء عمامة الإمام الغزالي فيجب أن نقرأ الصراع الفكري في البلاد المستعمرة لمالك بن نبي·· لقد كان حراكه الفكري في الساحة الإسلامية آنذاك يتعثر بمواطئ أقدام الساسة الحركيين الإسلاميين الذين تخلوا عن الفعل الحضاري وهواجسه وركبوا موجة السلفية السياسية، مثلما لم تثق فيه الوطنية العلمانية خشية من كسب رمزي في المعنى والمعرفة والدال، واحتاجت له الأنظمة - ذات الطموح الديمقراطي أو الديمقراطوي- كي يحدث بعض التوازنات المطلوبة في تدبير الشأن الديني وإدارة فضاءاته ومؤسساته·· لقد كان يلقي بدرسه الديني أيام الإثنين في الجزائر وهو حديث تلفزيوني يمكنه وصفه بالهام، عارك الإنقاذيين ورجالاتهم في ندوة المستقبل الإسلامي ودعا عليهم دعوته المشهورة ''الحمد لله الذي سلب السلطة من الإسلاميين'' وهي ندوة مشهورة أقيمت قبل حلول صائفة1991 حضرها الطرف العلماني المستنير من أمثال برهان غليون، ومهدي المنجرة، ومنير شفيق وكان الغزالي يومها مخاصما، جليسا لنظرائه العلمانيين، التقدميين··· إن رئيس الجامعة الإسلامية بقسنطينة كان يتحسد حضوره الطاغي، الموحي بالإمامة المرجعية للمسلمين الجزائريين شابه به ذلك الحضور الذي كان يمنح للشيخ أحمد حماني في الإشارة إلى أن االدينيب وملحقاته يلزمها اقتدار في التحصيل الشرعي وقدرة على مجانية أشكال التطرف والفتنوية والأحكام المتسرعة على السلوك الدنيوي أو على الكتابة ومسالكها التعبيرية·· لطالما خاصم محمد الغزالي وهو رجل أدب وبلاغة حقيقي كتابة إحسان عبد القدوس ورواياته لكن محمد عبد القدوس ابن إحسان صاهره في ابنته وكان يناوش ويلاسن كتابا كثيرين، غير خافية عليه جماليات الأدب ومدارس الصنعة، بل هو منشئ أدب ديني رفيع في لغته وغريب عن وفيما يتعاطاه المشائخ من كتابات دينية كلاسيكية منتحلة، وعندما كتب مصنفه الغريب، المشحون بالإثارة، والذي استعدى به الجميع ''السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث'' كان الكتاب أبلغ اجتهاد جاءت به المنظومة الفقهية الإسلامية من مئة عام، متى تأت هذه التصحيحات الجريئة كي تعيد قراءة الغزالي بعيدا عن التهافتات ولماذا يقرأ العلماني اللبناني الشيخ محمد علي شمس الدين قراءة المحبة والاحترام، لماذا يقرأ مشايخ كمحمد جواد مغنية والنائيني وصبحي الصالح وحسين فضل الله قراءة المحبة والاحترام والى اللحظة يموقع مؤلف ''ليس من الاسلام'' و''هؤلاء الفرنسيين اختاروا الله'' موقع الاستعباد والترهيب منه، لقد زلت قدم العالم أولسانه أوقلمه في حادثة فرج فودة لكنه زار الحائز على نوبل الوحيد من بين العرب نجيب محفوظ وخفف عنه مصابه كما زار الفيلسوف زكي نجيب محمود قبل وفاته وأشاد بفلسفته الليبيرالية وجهوده····