إذا كانت الثورات التي شهدتها مصر وتونس وعدد آخر من بلدان الربيع العربي قد أثبتت أن تشديد القبضة الأمنية وقمع الحريات وتشويه المنادين بالإصلاح لم يحقق الاستقرار الواهم الذي كان يتحدث عنه الحُكَّام السابقون لتلك البلدان، فإن الواقع الحالي يؤكد أن أهم ما حققته تلك الثورات حتى الآن هو كسر حاجز الركود الشعبي والخوف في عالمنا العربي. ولكن يبقى سؤال يفرض نفسه: ماذا بعد الثورات العربية؟ وهل وضعت الشعوب أقدامها بحق على طريق الإصلاح الذي تنشده وتستحقه الأوطان والمجتمعات في العالم العربي، أم أن طريق الإصلاح الحقيقي لا يزال بعيدًا ما دامت النيات المخلصة لبلوغ هذا الطريق قد غابت؟! وماذا عن دولة القانون والحريات المقرونة بالمسؤولية المجتمعية؟ كل هذه الأسئلة يطرحها الدكتور زغلول النجار في كتابه "ماذا بعد الثورات العربية؟"، الصادر عن دار نهضة مصر بالقاهرة، مرسلاً رسالة شديدة الأهمية، وهي أن الإصلاح ليس أمرًا مستحيلاً، وأنه من الممكن إدراكه إذا ما أدركت النُّخَب الجديدة قواعده الأساسية، واتخذت القرارات الإستراتيجية الملحة لتحقيق التغيير المنشود. ويناقش الكتاب في فصوله الثمانية مجموعة من القضايا المتعلقة بالربيع العربي، انطلاقًا من خلفية فكرية إسلامية، حيث إن الكاتب، وهو العلامة والمفكر الإسلامي المعروف، يدعو إلى ضرورة الالتفاف حول دعوة أهل السُّنَّة والجماعة، وسياسة الدنيا بالدين، كما يعرض لنبذة عن تاريخ أمتنا، ويفضح المتآمرين عليها من كل حدب وصوب. الثورات والخلفية الفكرية ويرد قضية الثورات العربية إلى خلفياتها الأساسية من أنها جزء من صراع الحق مع الباطل، وتدافع الإسلام والمسلمين ضد قوى الظلامية، كما يؤكد أن اختلاف المذاهب والأفكار بين المسلمين يجب أن يكون اختلاف تنوع، وليس اختلاف فُرقة وصراع. ويؤكد الكاتب في عموم سياقات كتابه الذي جاء في إطار فكري يرسم طريقًا مقترحًا للمرحلة القادمة أن ربيع الثورات العربية جاء ردًّا عمليًّا على الفساد الذي استشرى في جسد الأمة في غيبة الإسلام وتعاليمه، بعد أن جرت إزاحته بطريقة ممنهجة، عن الواجهة السياسية والمجتمعية للأمة على يد الاستعمار وأعوانه طيلة القرنَيْن الماضيَيْن. ويشير إلى أنه لمعالجة أمراض الأمة وأدوائها، من الأهمية بمكان العودة إلى الإسلام، وتطبيق تعاليمه، في مختلف المجالات، خصوصًا السياسة والحكم، والتي أدى عدم تطبيق تعاليم الإسلام فيها، وتحييد العلمانيين للدين عن الحكم إلى المفاسد القائمة، التي أدت إلى تراجع المسلمين وأوطانهم حضاريًّا، ودفعت جموع المواطنين إلى الخروج والثورة على الحكومات والأنظمة الفاسدة المستبدة. ويقول النجار إن إعادة إحياء تعاليم الإسلام، كأساس للسياسة والحكم، مع وصول العديد من القوى الإسلامية إلى الحكم بين ظهراني عالمنا العربي، عقب الثورات الشعبية، تعد من أهم إنجازات الثورات العربية. فيشير في الفصليْن الأول والثاني من كتابه اللذين جاءا بمثابة تمهيد للكتاب إلى أن استعادة الأمة لدينها، وتحكيمه في أمور السياسة والمجتمع والثقافة والفكر والأخلاق، وغير ذلك من شأنها العام والخاص، إنما هو يعني رد الأمة إلى هويتها الأصلية، وإسقاطا لكل البدائل التي غرسها الشيطان، وأعوانه كبدائل لدين الله (سبحانه وتعالى). وهذا التمهيد قصد به الكاتب أن يرد المعركة التي يخوضها الإنسان، والمسلمون بشكل خاص، في حياتهم الدنيا، إلى أصولها، في إطار كونها معركة مع عدو الله وعدو الإنسان الأول، وهو الشيطان، وأنها معركة الحق مع الباطل، والتي سوف تدوم حتى قيام الساعة. ظاهرة المذهبية وجذورها يتناول الكاتب في الفصول التالية قضية شديدة الأهمية في هذه المرحلة من الربيع العربي، وهي قضية الفرق والمذاهب الدينية في العالم الإسلامي، التي أصبحت هي عنوان المرحلة الحالية في الربيع العربي، في ظل التطورات التي طرأت على المشهد السوري في الوقت الراهن بدخول حزب الله رسميًّا على خط الأزمة. ويشير الدكتور النجار في البداية إلى أن ظاهرة التناحر المذهبي والطائفي في العالم الإسلامي لم تنشأ وتأخذ تأثيرها السياسي الحالي إلا بعد أن انهارت دولة الخلافة الإسلامية في العام 1924، حيث لعب غياب الإطار الجامع للمسلمين، الذي كانت تمثله دولة الخلافة وكان يحول دون خروج هذه التباينات الطائفية والمذهبية إلى السطح، في ظل وجود دولة إسلامية واحدة، تملك الشرعية اللازمة للتحدث باسم المسلمين، وأمامهم. كما يشير إلى أن الاستعمار لعب دورًا كبيرًا في هذه المسألة، وقال: إن الاستعمار بالإضافة إلى تفتيته للأمة، قام بغرس العديد من الأفكار والمذاهب الهدامة، وزرع عملائه وجواسيسه في مختلف الأماكن في العالم العربي والإسلامي. ويرصد الكاتب بدقة مختلف المذاهب والفرق الدينية الموجودة في العالم الإسلامي، وتوقيت نشأتها، منذ عصر الصحابة (رضوان الله تعالى عليهم جميعًا) حتى الآن، مرورًا بعصر التابعين، ويُلاحظ أنه أدرج المذهب الجعفري والمذهب الظاهري الذي أسسه الإمام داود الظاهري، ضمن المذاهب الفقهية الكبرى في العالم الإسلامي. ويقول إن قضية الاجتهاد كانت من بين أهم القضايا التي لعبت دورها في ظهور هذه التيارات، حيث إن اختلاف اجتهادات مؤسسي كل مذهب فيها كان وراء التمايز الذي حصل بين المجموعات المختلفة من الناس التي اتبعت كل مذهب منها. من جانب آخر، نجد أن الكاتب يحمل التيارات الفكرية والسياسية القومية، وتلك التي تأثرت بالمدارس الفكرية والسياسية الغربية، والأحزاب التي أقامتها هذه التيارات، مسؤولية الانقسام والتفتت الحاصل في الوقت الراهن بين ظهراني الأمة. ويشير إلى أنه تم استغلال حركة القومية العربية في تفكيك أواصر الوحدة بين الكثير من الكيانات والدول العربية والإسلامية، ويتناول بشكل خاص سلوك الناصريين وحزب البعث العربي الاشتراكي في هذا الجانب، من خلال رصد تاريخي للنشأة وتطور الحركتَيْن، الناصرية والبعثية، وكيف تصرفت فيما بينها، وتجاه قضايا الأمة الكبرى. الرايات الغربية والدور الاستعماري في الفصل الخامس للكتاب، يرد المفكر الإسلامي زغلول النجار حالة التخلف والتفكك التي وصلت إليها الأمة العربية والإسلامية إلى جذورها الرئيسية، وهو الاستعمار. ويُلاحَظ أن الكاتب يعتبر الاستعمار أساس كل المشكلات التي تمر بها الأمة، فهو بجانب ما قام به من أجل غمس الأمة في مستنقع التردي الأخلاقي والقيمي والحضاري؛ لعب الدور الأساسي في انهيار دولة الخلافة، وفي غرس الحركات الهدامة بين جنبات الأمة، أو ما أطلق عليه الكاتب مصطلح "الرايات الغربية". ويناقش الكاتب تاريخ الاستعمار في العالم العربي والإسلامي، منذ أول موجة غزو غربية كبرى تهب على المشرق العربي والإسلامي، وهي الحملات الصليبية، وصولاً إلى الاستعمار الأوروبي بمعناه الحديث، والذي طال أكثر من 90 % من أراضي العرب والمسلمين. ويقول إن التأثيرات الثقافية والقيمية هي الأهم مما تركه الاستعمار الغربي في العالم العربي والإسلامي، فيتناول المدارس السياسية والفكرية التي وفدت إلى عالمنا العربي والإسلامي من الغرب، مثل الليبرالية والعلمانية والشيوعية، ويضيف أنها مارست دورًا كبيرًا في تفتيت أواصر الأمة، ولعبت دورها في إقصاء الأمة عن هويتها. ويشير النجار في الإطار نفسه إلى دور الحركة الصهيونية، الذي لعبته في تحقيق هذين الهدفين: تفتيت الأمة، وإبعادها عن هويتها، كمخلب قط كبير للاستعمار، وقوى الاستكبار العالمي بين ظهراني الأمة. استعادة الروح وانبعاث الأمل ثم يسير الكاتب بعد ذلك ضمن استعراضه التاريخي الشيق لمراحل تطور فقدان الأمة لهويتها، وابتعاد الإسلام عن مركز صناعة القرار وتشكيل هوية المجتمعات، مع التطور التاريخي الذي مرت به بعض دول الربيع العربي، مثل مصر وتونس وسوريا، وكيف لعبت قوى داخلية وخارجية، دورها في إبعاد هذه البلدان عن هويتها الحقيقية، ويشير إلى دور الأنظمة العلمانية التي أطاحت بها الثورات الشعبية، في هذا الأمر. ويصل بنا، في الفصل الثامن الأخير، إلى مرحلة ما بعد الربيع العربي، فينقض أولا الفكرة المتداولة، والتي يحاول البعض بها نزع هذا الانتصار عن أبناء الشعوب العربية، من القول بأن هذه الثورات إنما هي صنيعة غربية، ويؤكد أن إرادة الشعوب العربية وراء ما تحقق من انتصار. ويؤكد أيضًا أن واجب الساعة في الوقت الراهن هو استعادة هوية الأمة، وتحكيم شرع الله (عز وجل) فيها من أجل استعادة وحدة الأمة وخيريتها المفقودة!