يؤكد الدكتور محي الدين اللاذقاني المثقف المعارض للنظام السوري في حديث للشروق أنه مازال متشبثا أكثر من أي وقت مضى بموقفه المبدئي منذ اندلاع الثورة السورية التي أسقطت القناع على حد تعبيره عن ابن جلدته الأديب الكبير أدونيس الذي وقف مع الأسد، لأنه طائفي وصديق لنظامه غير العلماني بالمرة. اللاذقاني الذي اشتهر اكثر عند العام والخاص منذ تعرضه لاعتداء على المباشر عبر قناة الجزيرة في جانفي عام 2012 على يد أحد مؤيدي الأسد على مرآى فيصل القاسم، كان يعرف ان النظام السوري سوف يستعمل كل الوسائل لقمع وتقتيل الشعب الذي نهض يعارض سلميا في سياق مسار عربي وضع حدا لدكتاتوريات أقل وحشية من النظام السوري على حد قوله، وهو النظام الذي استقوى بفضل الدعم الإيراني والروسي منذ البداية، وراح يستغل داعش لبقائه في الحكم بدعم اضافي جديد وغير مسبوق أملته مصالح الدول الغربية، الأمر الذي يصب في مصلحة اسرائيل في اعتقاده . وخلافا لما يروج في الإعلام الدولي، أكد اللاذقاني بأن داعش ليست الا صنيعة مخابرات غربية ابتكرت لحماية نظام الأسد الذي ينسق معها ويشتري منها النفط كما قال. كيف يمكن تقديمكم في أول حديث تدلون به "للشروق" كمثقف معارض للنظام السوري؟ إنسان عاشق للحرية أولا ويعتبرها قضية عمره كما تدل على ذلك كتبه ومنشوراته وأحاديثه التلفزيونية. من حيث المهنة، كاتب ومفكر سوري، مع أن العرب لا يعتبرون الكتابة والتفكير عملا، وتراثيا كانوا يصفون كل مفلس بأنه أديب ويرجعون إفلاسه المادي طبعا لأنه أدركته حرفة الأدب. أكره السياسة بالمعنى الإحترافي وأرفض، وسبق أن رفضت مناصب هامة، لكني ألح على الدور السياسي للمثقف كطليعة لحركات التغيير النبيلة التي تحفظ التوازن الأخلاقي للبشرية. كيف يعيش المثقف والشاعر اللاذقاني مأساة بلده سوريا شخصيا ومهنيا وأدبيا، وكيف انعكست على إبداعه العام؟ الثورة السورية حلم العمر، ولو مت قبل أن أراها لضاع العمر سدى، وقد فخرت وسأظل أفتخر بأني جندي بسيط في هذه الثورة ومن الذين مهدوا الطريق لها منذ أيام بعيدة حين قدمت برنامج "موعد مع المستقبل" بغرض توحيد المعارضة السورية ضد حكم الأسد، وجمعت في ذلك البرنامج اليسار السياسي ممثلا في رياض الترك والإخوان المسلمين ممثلين في مراقبهم العام أنذاك صدرالدين البيانوني، بل وجيشت لها على المستوى الدولي في الأممالمتحدة ومجلس اللوردات البريطاني وغيرها من قوى التأثير العالمية. كمثقف من الطبيعي أن أكتب وأتحدث، وفي فترة مبكرة ايضا، أضفت إلى ذلك الإنخراط الميداني بالإغاثة للمخيمات وتجميع فصائل الجيش الحر لقناعتي ان الكتابة لا تكفي، وأن المثقف بالمعنى الغرامشي هو الأكثر فائدة للثورة من المثقف المنظر من منزله. عرفتم منذ انطلاق الثورة في سوريا كأحد أبرز المثقفين المعارضين لنظام لم يسقط كما كان يعتقد ويراهن المعسكر الذي مازلتم تنتمون إليه بشكل أو بآخر. كيف تقيمون هذه المعارضة التي فشلت في تقدير الكثير من المراقبين مقارنة بأطيف آخرى لم تؤمن منذ البداية بالحل العسكري، وهل يمكنكم اليوم القيام بنقد ذاتي وشخصي لكم كمعارض وللمعارضة بوجه عام؟ طبعا، لابد من النقد الذاتي والجماعي، لكن للأمانة، الأسد لم يسقط بسبب تشتت المعارضة، بل لوقوف دول كبرى معه لمنع سقوطه كإيران وروسيا وإسرائيل أيضا، وإن شئت الحق فقد سقط عمليا منذ الشهر السابع للثورة، والميلشيات اللبنانية والعراقية الشيعية هي التي تقاتل نيابة عنه. أما المعارضة وأنا أحتج دوما على هذا المصطلح، لأن المعارضة تستخدم في النظام الديمقراطي وليس في سوريا ديمقراطية. المهم ان المعارضة دخلت الميدان السياسي دون تجربة أو خبرة، فقد كانت سوريا بلد الصوت الواحد ومنع فيها العمل السياسي قرابة نصف قرن، فإذا أضفت إلى ذلك بعض ضعاف النفوس الذين وجدوا فيها فرصة للتسلق، تعرف سر ضعف هذه المعارضة، لكن ومع ذلك كان المجتمع الدولي منقسما حول سوريا أكثر من انقسام المعارضة والفيتوهات الروسية والصينية التي عطلت الكثير من القرارات الأممية تتحمل المسؤولية الأولى في ترك الأمور تنحدر إلى ما انحدرت إليه من دموية. ألا يحرجكم الأمر كمثقف يساري وجد نفسه مضطرا وربما غير مخير للتخندق مع معارضة اعتمدت على غرب مكيافيلي بذريعة أولوية محاربة داعش. وما حقيقة هذا التنظيم الذي يملأ الدنيا ضجيجا سياسيا في الوقت الذي لم تعد فيه المقتلة السورية تشكل اهتماما إعلاميا على حد تعبير سلام الكواكبي حفيد عبد الرحمان صاحب كتاب "طبائع الإستبداد" الآن أكثر من اي وقت مضى، وإلى متى يستمر؟ التخندق مع القيم الليبرالية والديمقراطية ليس عيبا، لكن المشكلة أننا وجدنا هذ الغرب يرفع الشعارات البراقة للتعمية والتمويه، وحين يقتضي الأمر لا يدافع عنها، لأن الغرب الإستعماري يرتاح أكثر للتعامل مع حاكم دكتاتوري فرد يعينه كوكيل تجاري ينفذ سياسته، أما داعش فأظنك حين تلاحظ أن معظم قادتها من الضباط والمخبرين العراقيين السابقين ومن الذين أطلقهم الأسد والمالكي من السجون، ستدرك انها كانت وستظل بعبعا صنعته المخابرات الدولية والإقليمية كما صنعت القاعدة في الماضي. هل هذا يعني حتما نجاح الأسد والمعارضة التي رفضت التدخل الخارجي ونادت إلى عدم إسقاط النظام وإصلاحه من الداخل؟ ليس هناك من رفض ما يسمى بالتدخل الخارجي إلا المعارضة التي تقع تحت قبضته كهيئة التنسيق ويسميها السوريون على سبيل السخرية المعارضة الموالية، وعليك أن لا تنسى أن الشعب السوري خرج يطالب بوقف إجرام الأسد، وكان هناك جمعة لطلب حظر الطيران، وأخرى لمنطقة عازلة، وثالثة لطلب تدخل دولي مباشر، ورغم ذلك كنا نعرف أن أحدا لن يتدخل، لأن العالم يبدو وكأنه اختار أن يصفي معظم حساباته الإقليمية والدولية في سوريا. وبالمناسبة، فإن تدخلا واقعا ولكن من الطرف الآخر، فسوريا الآن تحت الإحتلال الإيراني بكل معنى الكلمة، لذا صارت ثورتها ذات طبيعة مزدوجة، التحرر من الدكتاتورية، ومن استعمار خارجي له طبيعة استيطانية، وكل من تابع محاولات إحداث التغييرات الديمغرافية في سوريا يعرف ذلك. كتحصيل حاصل، إلى أي حد القول ان القضية الفلسطينية التي تؤمنون ان النظام السوري قد وظفها لصالحه تاريخيا بادعائه لعب دور المناهض لاسرائيل قد ماتت نهائيا؟ القصية الفلسطينية لن تموت، لا تموت رغم تراجعها كثيرا بعد سقوط أكاذيب حلف المقاومة والممانعة، فالنظام الذي لم يطلق رصاصة على إسرائيل يستقوى بكل أسلحة الدمار على شعبه، ثم ان فصائل فلسطينية تورطت في النزاع، وبعضها حاول ان يبقى محايدا ولم يستطع، كذلك انكشف "حالش" حزب الله كحزب فاشي إيراني، ولم يعد حزبا مقاوما كما كان الفلسطينيون يتمنون، وكل ذلك اثر كثيرا على مسارات القضية الفلسطينية. كيف ترون مستقبل المنطقة العربية بوجه عام في ظل الصراع الشيعي السني الموظف إقليميا ودوليا، ومستقبل سوريا بوجه خاص في الوقت الذي بات فيه انقسامها أمرا لا يقبل الشك؟ لقد صارت الطائفية بكل أسف جزءا من المشهد السياسي في المنطقة، والصراع السني الشيعي يذكرنا بصراعات اوروبا في القرن السابع عشر بين الكاثوليك والبروتسانت، وهذا الصراع أوجدته ورعته المطامح والمطامع الإيرانية. فالحديث عن هلال شيعي يمتد من طهران إلى لبنان عبر سوريا والعراق ليس وليد اليوم، بل ربما كان نتاجا للأحقاد التاريخية من أيام يزيد والحسين، وهذا أخطر ما في هذا النوع من الصراعات، وبعد أحداث اليمن، صار هذا الصراع المذهبي اكثر وضوحا، وعندها فقط تحركت السعودية بعاصفة الحزم التي سيكون لها تأثير كبير على المنطقة، ولا اظن أن تحديد المصالح الإقليمية سينتهي دون حرب كبرى. أخيرا، هل مازلت متشبثا برأيك عن أدونيس الذي قلت أنه كان ضد الثورة السورية التي خرجت من المساجد على حد قوله وفضل العلمانية الدكتاتورية على الدكتاتورية الدينية وفصل بينهما؟ أولا، أثبت النظام السوري أنه ليس نظاما علمانيا، بل طائفيا. وثانيا أدونيس وقف ضد الثورة من يومها الأول واضطر لكشف علاقته وصداقته مع أسرة الأسد، وكتب له رسالة مخزية، ثم إن داعش والنصرة والتنظيمات المتطرفة لم تكن قد وجدت بعد، وفي التحليل النهائي فإن أدونيس وقف مع طائفته وليس مع الشعب السوري، وكشفت الثورة قناعه وقناع غيره ممن تشدقوا بالحرية والتحرر والتغيير، فلما طرقت أبوابهم وقفوا ضدها.