انقضت ثماني سنوات على الإفراج عن مشروع إعادة تهيئة وترميم قصبة دلس أقصى شرق ولاية بومرداس، وهي أقدم قصبة بشمال إفريقيا، صرفت على مدارها ملايير الدينارات، غير أن الواقع المر الذي هي عليه قصبة دلس، يعكس حقيقة سياسة "البريكولاج" المنتهجة في ترميم القصبة التي استعمل فيها "الصفيح" و"الإسمنت". روبورتاج: كريم. ب الزائر لقصبة دلس أقصى شرق ولاية بومرداس، يلاحظ الأشغال الترقيعية التي خضعت لها أقدم قصبة بشمال إفريقيا، صرفت من خلالها مبالغ خيالية، دون الحديث عن تشويه النمط العمراني للمدينة القديمة، التي لم يترك لها زلزال21 ماي 2003، أي نمط عمراني بعد انهيار عشرات "الدويرات" التي يعود بناؤها إلى مئات السنين. تحولت الأحياء السكنية القديمة المُشكلة لقصبة دلس بالجهة السفلى، إلى ورشة مفتوحة لأشغال الترميم، فيما بقيت القصبة المتواجدة بأعلى المدينة مجرد خراب حيث تحولت لمكب لللنفايات المنزلية، حيث انطلقت أشغال ترميم القصبة بداية من سنة 2007 بالقصبة السفلى، لكنها للأسف انحصرت في مجرد أشغال عادية لسكنات قديمة لا تستند لأي دراسة تقنية تاريخية ولا أثرية، فمعظم المواد المستعملة في الترميم، الإسمنت العادي، وكميات كبيرة من الصفيح أو ما يصطلح عليه ب"الزانق" في الوسط المحلي، إلى جانب بعض الدعامات الخشبية، مع ثلة من البنائيين العاديين، في الوقت الذي صرفت فيه ميزانيات ضخمة في أشغال ترقيعية لم تكن أبدا في المستوى المطلوب الذي يليق بموروث ثقافي وتاريخي فريد من نوعه. مدارس قرآنية مغلقة اشتهرت مدينة دلس منذ القدم بعدد كبير من الأولياء الصالحين والعلماء المصلحين الذين توافدوا وعاشوا على أرض هذه المدينة الساحلية، حيث أسسوا خمسة منشآت مدرسية قرآنية دينية وتعليمية متخصصة، اشتهرت في تعليم القرآن الكريم وعلوم الدّين واللغة ضمن القصبة العتيقة، لكن لم يتبق من مجمل المنشآت الخمس المذكورة إلى حد اليوم إلا المدرسة القرآنية "سيد عمار" والمدرسة القرآنية "سيدي الحرفي"، حيث أدرجتا ضمن المخطط الدائم للحفاظ وترميم قصبة دلس، غير أن المدراس القرآنية التي كانت تنشط قبيل زلزال 2003، لاتزال مغلقة في وجه طالبي العلم، ورغم أن مخطط الترميم قد شملها غير أن الأشغال بقيت تتأخر كل سنة، وما تم الانتهاء منها لم يكن في المستوى المطلوب. الإسمنت ل"تمليط" التشققات العديد من قاطني المدينة استهجنوا الطريقة التي تمت بها عملية الترميم، حيث استعمل الإسمنت ل"تمليط" التشققات التي لحقت بالمدارس القرآنية المتواجدة بالقصبة السفلى التي تطل مباشرة على ميناء "المرسى"، حيث يظهر للعيان خطوط الإسمنت على الأسوار، أما الأسطح فقد اكتفت الجهات المسؤولة على الترميم بتثبيت أجزاء من الخشب العادي، وبعض الصفائح المعدنية، وهو ما شوّه كثيرا الطابع العمراني للمدرسة القرآنية، لاسيما أن المصالح المحلية كانت تعتزم أن يدرج ضمن هذا المبنى التاريخي مركز ثقافي يتضمن متحفا أو بعض الورشات للصناعات التقليدية، ولعل الكثير من المعالم الأثرية القديمة، لم يعد لها أي وجود بعد الزلزال الذي ضرب الولاية، حيث كان يعلق السكان آمالا كبيرة على عمليات الترميم، لكنها شوهت من المنظر الأصلي للدويرات، والسكنات القدمية، فالمار عبر أزقة القصبة القديمة يشعر أنه وسط نسيج عمراني حديث طرأت عليه بعض الترميمات. ضريح "سيدي الحرفي " …رمم ولايزال مغلقا يعد ضريح" سيدي الحرفي" الواقع ضمن الجزء السفلي من قصبة دلس العتيقة المعني أيضا بعملية الترميم من أبرز المعالم والمدارس التربوية التي لعبت دورا أساسيا في الحفاظ على معالم الهوية الوطنية من خلال تعليم القرآن واللغة العربية، حيث شيّدت من طرف رواد إصلاح مستقلين مشهورين على رأسهم "محمد الحرفي" قبل الإحتلال الفرنسي للمدينة. وخضع هذا المعلم التاريخي منذ سنة 2010 لعمليات ترميم و إعادة تهيئة انتهت مؤخرا، في إطار الشطر الثاني من المخطط الإستعجالي للحفاظ على ما تبقى من البنايات التراثية المهمة المتضررة والآيلة للانهيار على مستوى قصبة دلس العتيقة. وأشرف على متابعة أشغال ترميم هذا المعلم التاريخي المهم مكتب دراسات متخصص نظرا لتميز هذه البناية بدقة وحساسية خاصة ودرجة تدهور حالتها الكبيرة بسبب عوامل الزمن والإنسان، وكذا الزلزال الذي ضرب المنطقة في 21 ماي 2003، وكلفت أشغال ترميم وإعادة بناء هذا المبنى الأثري التاريخي غلافا ماليا يقدر بسبعة ملايين دينار، في حين أن مصالح البلدية فضلت عدم إعادة فتحه إلى غاية استكمال عمليات التجهيز بالكامل، وهذا المعلم التاريخي هو الوحيد الذي حرست المصالح المحلية على ترميمه من قبل مكتب متخصص، غير أن ذات المعلم لايزال مغلقا، ولا يستثمر بتاتا في السياحة التاريخية والدينية لمدينة دلس، بحكم أن الأزقة التي يتواجد بها الضريح لاتزال لحد الساعة مهجورة، على الرغم من إطلالتها على رأس الميناء مباشرة، وكانت قبيل زلزال 2003، يتوفر الزقاق على حرفيين في صنع الأواني النحاسية، وكذا بعض الحرف التقليدية، وكانت تزين الأزقة التقليدية ذات المنعرجات القصيرة سلالم من الصخور توصل إلى ميناء دلس القديم، غير أن كل المعالم تلاشت ولاتزال تتهاوى أمام مرأى السلطات التي أخذت من الترميمات العشوائية والسريعة لإنفاق قرابة نصف الميزانية في أشغال لم تتعد "البريكولاج". معالم أثرية قديمة حطمها الإهمال قبل الزلزال الزخم الكبير من الآثار التي تحتوي عليها قصبة دلس، بدأ يتلاشى السنة بعد الأخرى، فرغم اعتبارها من أقدم القصبات بشمال إفريقيا، غير أن السلطات المحلية والجهات الوصية بولاية بومرداس، لم تول اهتماها بالقدر الكافي لهذا الصرح الأثري القديم، فيكفي أنها بقيت تلتزم الصمت طيلة عشرات السنين، لتظهر بمشروع يتيم ظل حبيس الأدراج منذ سنة 2007، وبعدها بقيت القصبة مكانا شاهدا على الدمار بعد الزلزال الذي ضرب الولاية يوم 21 ماي 2003، حيث تحولت أزقة القصبة القديمة إلى أكوام من الحجارة الكبيرة، وبعض بقايا الخشب والقرميد القديم، بعد أن لحقها الكثير من التشويه بالنظر إلى شغل السكنات القديمة من قبل السكان المحليين، الذين وجدوا من الأسعار المعقولة خير حافز بالدويرات الصغيرة هروبا من أزمة السكن التي تتخبط بها الولاية، لذا فقد شوهت بعض الدويرات التي كانت تهوي الواحدة تلوى الأخرى، بعد أن لحقها ما لحقها من الترميمات العشوائية باستعمال مواد البناء العادية من قبل العائلات التي كانت تقطنها قبل الزلزال، ويندثر كل شئ بعدها بعد سنوات من الانتظار، وبعدها الترميمات العشوائية التي أشرفت عليها جهات غير مختصة استعملت فيها وسائل عادية، عوض استعمال معدات ومواد بناء من نفس تلك المواد المستخدمة في العهد العثماني. ميزانيات كبيرة صرفت والسلطات لاتزال في مرحلة الجرد وكشفت مصادر محلية مطلعة، أن المصالح الوصية بالولاية، لاتزال تسعى في الوقت الحالي لجرد كل المنشآت التاريخية التي تتميز بقيمة تاريخية وحضارية مهمة بداخل قصبة دلس العتيقة من خلال إعداد ملفات تقنية و تاريخية وانتروبولوجية عنها، وهي المرحلة التي كان على الجهات الوصية القيام بها قبل بدأ عملية الترميم، وإخضاع كل الأجزاء القديمة ذات القيمة التاريخية بالقصبة لدراسات من قبل متخصص في علم الأنتروبولوجيا. وتتمثل أبرز هذه المعالم التاريخية المعنية في كل من الثانوية التقنية القديمة المشهورة الواقعة بوسط المدينة التي شرعت الولاية في ترميمها مؤخرا، حيث تعتبر هذه الثانوية المسماة "العربي بن مهيدي" أقدم ثانوية بشمال إفريقيا، غير أن هذه الأخيرة لم تشهد لحد الساعة أي أشغال ترميم من قبل الجهات الوصية، على غرار الثكنة القديمة التي يعود تاريخها لفترة الاحتلال الفرنسي، حيث يرتقب بعد ترميمها تحويلها إلى مركز ثقافي يضم عددا من المرافق على غرار ورشات للصناعات التقليدية إلى جانب التحضير لبعث دراسات تقنية وتسجيل مشروع ترميم "منارة بن غوت"، التي فضلت السلطات المحلية إبقاء القديمة منها التي تشققت كليا بعد الزلزال، وإعادة بناء منارة جديدة بحي "برج فنار"، غير أن المنارة القديمة لم تشملها بعد أشغال الترميم. 138 مليون دينار ضاعت في أشغال "ترقيعية" تم إنفاق إلى حد اليوم أزيد من 138 مليون دينار من أصل غلاف مالي إجمالي يناهز 264 مليون دينار رصد لترميم وإعادة بناء وتهيئة المعالم التاريخية ضمن قصبة دلس العتيقة، غير أن المبلغ الذي تم إنفاقه يعد كبيرا بالنظر إلى عدد عمليات الترميم ونوعيتها التي تبقى في الحضيض، حيث اكتفت الجهات المسؤولة على ذلك بإعادة إلصاق الحجارة الكبيرة التي انهارات بفعل الزمن والزلزال الذي ضرب المنطقة باستعمال الاسمنت العادي عوض الطين والطوب القديم الذي استعمله القدامى، فيما تركت الأبواب القديمة التي تحمل أشكال مقوسة من الأعلى على حالها دون طلائها بمواد خاصة تمنع اهترائها وتآكلها مع مرور الزمن، فيما لجأت الجهات المشرفة على ترميم أسقف البنايات القديمة والتي يصطلح عليها "الدويرات" بتثبيت مصطحات من المعادن "الزانق" وإعادة تركيب القرميد فوق الصفائح المعدنية، حيث تظهر ذات الصفائح للعيان بمجرد مرورهم وسط الأزقة القديمة المطلعة على ميناء "المرسى" القديم. هل ستصلح المرحلة الثالثة من المخطط الدائم لترميم القصبة ! قال رئيس بلدية دلس، رابح زروالي، أن المرحلة الموالية ستحدد آلية تنظيم البناء والتعمير والتجهيز داخل القطاع المحفوظ لقصبة دلس بغرض المحافظة على تراثها المعماري، كما ستسمح هذه الدراسة التقنية بفتح آفاق جديدة للقصبة من الناحية المعمارية وتثمين التراث الثقافي المتوارث وفتح آفاق سياحية وتنموية جديدة لهذه البلدية الساحلية، التي لاتزال بحاجة إلى اهتمام أكثر من قبل المصالح الولائية، لاسيما أن عمليات الترميم التي تمت على مستواها لم ترق إلى المستوى المطلوب، على الرغم أن البلدية كانت قد نظمت معرضا للتحف والمنتجات التقليدية بأزقة القصبة، من أجل تفعيل الحركة فيها وجعلها قطبا سياحيا بالمنطقة.