بقلم الدكتور يوسف بلمهدي نحاول في هذه اللفتة أن نستشف بعض أسرار الكتاب المبارك، وبعض تفننه بعربية فصيحة نطق بها الكتاب فأعجزت الناطقين والمستمعين على حد سواء. وقد اخترت في هذه اللفتة الحديث عن الحسنة والإحسان والمحسنين وأبدأ بذلك تيمنًا بهذه الآية التي في ضمنها دعاء قول الله سبحانه وتعالى: "وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ" (سورة البقرة: الآية 201). اكتفى الحق سبحانه عزّ وجلّ بذكر الحسنة مفردة في قوله: "وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً" ولم يقل حسنات، "وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً" ولم يقل حسنات، ذكر جنس الحسنة وحدها مفردة، لماذا؟، لأن نعيم الله سبحانه عزّ وجلّ متتالي، ولأن نعمة الله تبارك وتعالى واصلة كاملة فهو إذا أعطاك حسنة واحدة أغرقك في النعيم وإذا نظر إليك نظرة واحدة نجاك من الجحيم، وصدق الشاعر الذي قال: وإذا السعادة لاحظتك عيونها *** نم فالمخاوف كلهن أمان وهذا المعنى الذي ظهر في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «يؤتى بأنعم أهل الأرض في الدنيا فيغمس والعياذ بالله غمسة واحدة في النار فيسأل هل رأيت نعيما قط، فيقول لا والله ما رأيت نعيما قط»، إذن سيئة في الآخرة تنسيك نعيم الدنيا على كثرته، وبالمقابل يؤتى بأتعس أهل الأرض فيغمس في نعيم الجنة غمسة واحدة ثم يسأل: «هل رأيت شقاءً قط»، فيقول: «لا والله»، فحسنة من الله تعالى تنسيك ألم الدنيا وشقاءها وتعبها ونصبها ووصبها، ولذلك قال الحق سبحانه وتعالى: "وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً "، حسنة واحدة من الله سبحانه عزّ وجلّ تغنيني عن كل شيء لأنه إذا قبل الله تعالى منك عملاً واحدًا ولو كان سجدة أدخلتك تلك السجدة إلى الجنة التي أعد الله للمتقين، وإذا رفض الله تعالى منك عملاً واحدًا ولو كان سجدة كما فعل بإبليس فإن الله تعالى يطردك من رحمته والعياذ بالله، وقد قال بعض علماء التفسير بأن الحسنة في الدنيا يقصد بها الزوجة الصالحة، وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم أن الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة، فإذا قلت "وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً "، أي أعطنا نعيم الدنيا فأفضل ما فيها زوجة صالحة تعينك على نوائب الدهر، "وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً"، أي الجنة وقيل النظر إلى وجه الله سبحانه وتعالى لأن الجنة من أسمائها الدار الحسنى، والزيادة النظر إلى الله سبحانه وتعالى والتنعم بالنظر إلى وجهه الكريم سبحانه عزّ وجلّ، في هذه الآية ذكرت مقابلتان ولم تذكر الأخرى، فقال عزّ من قائل: "آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ" لم يقل في الدنيا آتنا حسنة وقنا منغصاتها، لماذا؟ لأن الدنيا مهما كان نعيمها فهي مشوبة بكدر، ومهما أعطاك الله تعالى زوجة صالحة إلا أنه قد يصدر منها ما ينكد عيشك، ويجعلك تستاء في بعض الأحيان والمواقف. أما الآخرة قال عنها الحق سبحانه وتعالى: "وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ" (سورة البقرة: الآية 201)، لأن الجنة ليس فيها منغصات، فهي الخير المحض، والنعيم الدائم المقيم، ليس فيه شيء يشين حياتك الأخرى، ولذلك تحدث الله تعالى عن نعيم من شرابها وهو خمرها، قال: "لَّا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ" (سورة الطور: الآية 23) أي إنها ليست كخمر الدنيا التي إذا شربها الإنسان يريد نشوة ما فإنه مع ذلك يحدث له من الضرر أكثر، ومن خبثها أفجر، ولكن الخمر في يوم القيامة، وفي الجنة، قال عنها الحق سبحانه وتعالى " لَّا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ" فإنها لا تذهب له عقله ولا تدخل عليه السآمة، ولا تجعله يعيش كئيبا كما يفعل من يشربها في هذه الدنيا، فهل علمت إذًا لماذا قال: "وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ "، ولم يكتف بقوله "وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً" رغم أن الذي يدخل الجنة بالضرورة قد وقاه الله تعالى النار، ولكن أراد الحق سبحانه وتعالى بهذه اللفتة القرآنية الكريمة أن يقول لهذا المحسن طالب الحسنة في الآخرة لا تلتفت إلى الخلف خوفًا على مقامك في الجنة فأنت في مكان هو الخير المحض بكامله. قال تعالى في آية أخرى: "إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا"(سورة آل عمران: الآية 120) أنظر إلى هذا التعبير القرآني اللطيف، عندما ذكر الحسنة ذكر المس، وعندما ذكر السيئة ذكر الإصابة، فقال: "إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا" تحدث الحق سبحانه عزّ وجلّ عن حسد هؤلاء الناس للمؤمنين الذين إذا رأوا نعيمًا مس المؤمنين لم يخالطهم مخالطة الأشياء بل مجرد نعمة تمس أهل الإيمان، تمس أهل الصلاح، فإن ذلك يسوء هؤلاء الحسدة، هؤلاء الحاقدين، بينما إن تصبك سيئة لأن السيئة مصيبة، بعض الناس إذا وصلت إليك سيئة فمستك من بعيد يتمنون لك أن تهلك وأن تنزل عليك هذه المصيبة فتدمرك وتشتت شملك وأسرتك، ولذلك قال الحق سبحانه وتعالى في شأن هؤلاء: "وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا". وقد ذكر الله في صفات المحسنين، وهي صفات عالية في قوله سبحانه وتعالى: "الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ" (سورة آل عمران: الآية 134)، إن أهل الإحسان يتصفون بصفات عالية كبيرة جميلة يحبها الله سبحانه وتعالى لأمر ما كانوا ينفقون في السراء والضراء، ولذلك عندما تحدث الله تعالى عن عطائهم ونفقاتهم قال: "آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَٰلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19)" (سورة الذرايات: الآية 16-19) ولم يقل حق معلوم كما في آية أخرى وهي قوله سبحانه: "وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ (24) لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25)" (سورة المعارج: الآية 24-25)، فما الفرق بينهما يا ترى؟، لأن المحسنين يعطون عطاء من لا يخشى الفقر "إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَٰلِكَ مُحْسِنِينَ (16) …وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19)" ليس مقدرًا بل يعطون الكثير ويفعلون الخير الكثير ويبذلون في سبيل الله تعالى الغالي والنفيس لأنهم من الذين أحسنوا، والقرآن الكريم يقول: "إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ" (سورة النحل: الآية 128). يتبع…