الدكتور أيوب سالم حماد أستاذ العلوم السياسية: جامعة الجزائر 3 [email protected]
الدكتور عبد الرزاق مقري يعد الدكتور عبد الرزاق مقري من أبرز قيادات الحركة الأم: مجتمع السلم، وهو بحكم منصبه كرئيس لحركة مجتمع السلم في عهدتها الثانية لمرحلة ما بعد الانشقاق ذا أهمية كبيرة، إذ تقع على عاتقه مسؤولية العمل على تجاوز واقع الانشقاق ومخلفاته، والحقيقة أن الدكتور عبد الرزاق شأنه شأن قادة ما قبل الانشقاق، يعتبر من القادة الذين ارتبطوا بقوة بمشهد التمرد والانشقاق الذي عرفته الحركة الأم: مجتمع السلم، بل لا نغالي إذا قلنا أنه يعد من أبرزهم.
ويحتل الدكتور عبد الرزاق مكانة مهمة في يوميات الجدل السياسي الجزائري، بل ويعتبر أحد رموزه الذين استطاعوا ضمن مسارهم السياسي أن يحافظوا على سمت نضالي منسجم مع أفكارهم وتصوراتهم المبدئية، وضمن مساره الحركي يعد من أهم صقور النضال السياسي في حركة مجتمع السلم في مراحلها المختلفة، حيث استطاع أن يتزعم خطاب الممانعة داخلها باقتدار، إذ لم تمنعه توجهات الحركة ولا التحالفات التي أبرمتها، من التعبير عن هذا الخط بوضوح تام وأن يبرز بالتالي كأهم المعارضين في الصف القيادي الداخلي للخط السياسي الاستراتيجي للحركة، سواء في مرحلة الشيخ محفوظ نحناح رحمه الله أو ما بعدها.
انتمى الدكتور عبد الرزاق مقري مبكرا للحركة الإسلامية، وتطور مع تطورها، وشهد ارهاصاتها وتحولاتها، حيث تربى على منهج الإخوان المسلمين ومن خلاله قاد العمل الإسلامي على مستوى جامعة سطيف، وسعى إلى أن تتوحد ضمن مظلته كل فصائل الحركة الإسلامية، فتشكل من أنصار هذا السعي جماعة عرفت بجماعة الوحدة والحياد، استمر عملها من 1983 إلى غاية 1987 تحت قيادة الشيخ أحمد بوساق، ولولا أنانيات بعض قيادات الحركة الإسلامية كما يؤكد مقري في كتابه البيت الحمسي لحدثت الوحدة المرجوة، لأسباب يمسك عن التفصيل فيها في تجربته التي يستعرضها في الكتاب، ونتيجة لذلك التحقت جماعة الوحدة والحياد بجماعة الاخوان المسلمين بقيادة الشيخ محفوظ نحناح، الأمر الذي مكن مقري من دخول الحركة كزعيم سابق في هذه الجماعة بعد التحاق قائدها بوساق بالسعودية لإتمام دراساته الشرعية، ولعل ذلك كان السبب وراء محافظة مقري على عضوية المكتب الوطني للحركة منذ تأسيسها الرسمي.
ومنذ دخول مقري للحركة تميز بخطابه الداخلي المعارض، فقد عارض منذ البداية تأسيس حزب سياسي باسم الجماعة مؤثرا الدخول في جبهة التحرير الوطني والتحكم فيها ديمقراطيا، ويعتز الدكتور مقري في هذا الإطار بمواقفه المعارضة للشيخ محفوظ رغم اتفاقه معه حول استراتيجية المشاركة، حيث لم يكن موافقا له على عدم التوازن في العلاقة بين جبهة الإنقاذ والسلطة، كما رفض مشاركة الحركة في المجلس الانتقالي، ورفض التصريحات القوية للشيخ التي أراد بها التميز عن الفيس ومحاولة كسب ود المؤسسة العسكرية، لفتح المجال أمام الحركة كي تكون بديلا لكل من جبهتي التحرير والإنقاذ، وحاول مقري محاولات حثيثة لرأب الهوة مع جبهة الإنقاذ باءت كلها بالفشل، وبعد استئناف المسار الديمقراطي برز مقري كشخصية سياسية عمومية ذائعة الصيت نتيجة خطه المعارض الذي برز به في الساحة السياسية، إلا أنه رفض أن يتبوأ كما يصرح المناصب الوزارية باسم الحركة حينما عرض عليه الأمر الشيخ محفوظ مرتين لعدم قناعته بمسار المشاركة منذ البداية.
ومثل تزوير الانتخابات التشريعية والمحلية في سنة 1997 نقطة تحول كبيرة لدى مقري ومن موقفه من المشاركة السياسية كخط استراتيجي للحركة كما يؤكد، من خلال الدعوة الصريحة إلى مراجعة هذه السياسة وإعادة بناء قوة الحركة وتعديل ميزان القوة لصالح المجتمع، إلا أن مقري لم يفلح في اقناع قيادات الحركة بترك خيار المشاركة في الحكومة، فاختار لنفسه مقاربة تقوم على الفكر والاقناع السياسي والرهان على المحطات المستقبلية، ضمن تكتيك يقوم على الصبر والتربص إلى حين تحول المزاج السياسي الداخلي لصالح المعارضة، وهو ما حدث فعلا مع المؤتمر الخامس للحركة، أما قبل ذلك فقد رأى ان الحركة الانشقاقية التي مست الحركة قد عطلت جهده الاقناعي وتربصه التكتيكي في التحول بالحركة نحو خط المعارضة، ولذلك اختار أن يساند رئيس الحركة الشيخ أبو جرة سلطاني في صراعه السياسي على مستوى عهدتيه الرئاسيتين للحركة، وبرز كأهم حليف لهضد خصومه السياسيين، اختار في العهدة الأولى أن يعبر عن أفكاره ضمن خط فكري واضح، ولكن عندما فتح المجال له في العهدة الثانية من رئاسة أبوجرة نحو رئاسة الحركة، دافع عن أفكاره بشراسة وسط أجواء كما يقول توسع فيها التيار المرتبط بسياسة المشاركة ولم تعد المهمة سهلة، حيث قرر ترشيح نفسه لرئاسة الحركة مع توقعه بعدم إمكانية نجاحه، ليكون خروجه من قيادة الحركة بعملية انتخابية تمنع عنه تأنيب الضمير، كما يؤكد دائما، ولكن وكما يقال فإن الرياح لا تجري دائما بما لا تشتهيه السفن، فقد استفاد مقري من رياح التغيير المتفاعلة على مستوى العالم العربي، ليصبح مدلول الخروج من السلطة كما يدعو ذو معنى واضح، من خلال ورقة قدمها إلى مجلس الشورى الوطني في جانفي 2012، فحدث التحول التاريخي الذي نافح عنه مقري لسنوات طويلة، وهو الأمر الذي تجسد مع المؤتمر الخامس للحركة بانتخاب الدكتور عبد الرزاق رئيسا للحركة مع تبني المؤتمر لإستراتيجية جديدة تقوم على المعارضة السياسية الصريحة للنظام القائم.
إن شخصية الدكتور عبد الرزاق مقري من خلال هذا المسار تعتبر شخصية شديدة الثراء، وعالية التكوين، ولعل وظيفته الأساسية كطبيب عام مكنته من أن يكتسب حنكة في تشخيص العلل التي تعاني منها الحركة، فنمت لديه روح المبادرة باقتحام مجالات عديدة، حرص فيها على المستوى الشخصي كجزء من جوانب التشخيص الذي مارسه اتجاه نفسه واتجاه الحركة كما يؤكد على تكوين نفسه علميا وفكريا وشرعيا، إضافة إلى حسه المالي الذي نمى لديه منذ عشرينيات عمره كتاجر لبيع الألبسة الجاهزة، ضمن تجربة ما لبثت أن تحولت إلى مغامرات تجارية وفرت له الاستقرار المالي، الذي مكنه من التفرغ لمواجهة ملفات عديدة. أما على مستوى الحركة فيمكن أن نشير إلى جانبين هامين، فقد هداه تشخيصه لتأسيس مركز البصيرة كمعبر عن الوظيفة العلمية والفكرية للحركة، كما أسس أكاديمية جيل الترجيح للتأهيل القيادي ترجح الكفة لصالح المشروع الإسلامي كما يؤكد.
وبهذا المنطق يمكن القول أن شخصية الدكتور عبد الرزاق مقري قد اجتمعت فيها جملة من الأبعاد الأساسية، شخصية المفكر الذي يسعى لتشخيص الواقع ويقترح أدوية لعلاجه ويحرص في الوقت نفسه على متابعة الالتزام بتعاطي هذه الأدوية التي يصفها لمريضه ضمن بعد شخصية الطبيب فيه، وشخصية التاجر الذي ينخرط في مغامرات عديدة من أجل تحقيق الربح وتحقيق الاستقلالية التي تغنيه عن الاحتياج للحركة في مشاريعه الدعوية والسياسية، وشخصية السياسي الذي يحسن لغة الحسابات الدقيقة من أجل الموائمة بين الموقع والموقف، لذلك غالبا ما تبدو شخصيته الجامعة شخصية محورية مهيمنة ولكنها في نفس الوقت قلقة كانعكاس لصعوبة التوفيق بين مجمل هذه الأبعاد في شخصيته.
لا يمكن بعيدا عن هذا التوصيف أن نفهم كثيرا من نقاط التحول في المسار السياسي والحركي للدكتور عبد الرزاق، فهو الذي يؤكد ضمن مسار تجربته في كتابه البيت الحمسي أنه ارتقى تنظيميا بصفة متدرجة دون انقطاع، من عضوية بسيطة في أسرة تربوية ولجنة لنظافة المسجد إلى نيابة رئاسة حركة ثم بعد ذلك رئيسا للحركة، ومن جندي بسيط إلى قائد كبير ومن مناضل في الحي إلى مناضل البلدة إلى ولاية إلى القطر كله إلى العالم العربي فالعالم بأسره، وهكذا تمتد التجربة ضمن مجالاتها المتعددة، ومن خلال لغة يكشف ضمير الأنا المتضخمة فيها أنه مسار مستحق أو هكذا يجب أن يفهم.
والحقيقة في هذا الشأن أن الدكتور مقري قد تنوعت خبرته العملية بشكل كبير، سواء على المستوى الحركي أو على المستوى العام، ففي الجانب الحركي شغل مجمل الوظائف في الحركة وفي مستوياتها المختلفة، إلى الحد الذي يمكن وصفه بالشخصية المهيمنة أو التي تسعى إلى الهيمنة، حيث ارتقى من الأسرة إلى مكتب الناحية إلى مكتب المنطقة إلى مكتب جهة، إلى مجلس الشورى الوطني، ورئيسا لمكتب الجهة، إلى عضو مؤسس للحركة، إلى الأمين الوطني المكلف بالإعلام، وعضوا في لجنة التكييف، وأمينا وطنيا للجالية وعضو لجنة إعادة تأسيس قسم الطلبة، إلى الأمين الوطني المكلف بحقوق الإنسان والعلاقة مع المجتمع المدني، ورئيس الكتلة البرلمانية، إلى نائب رئيس الحركة لعهدتين، إلى عضو مجلس الإدارة لجهاز التخطيط إلى رئيس حركة مجتمع السلم، ولولا إشكالية المرجعية وتحولاتها لأمكن أن يكون اليوم باعتبار رئاسته للحركة في وضع المراقب العام!.
وتمتد هذه الهيمنة إلى المجال العام إلى الدرجة التي تترك الانطباع بأنه يسعى للاستحواذ على كل شيء، وكما يؤكد لا يوجد عمل لم يقم به من الأعمال المعروفة في الساحة الإسلامية، بدءا من العمل المسجدي، إلى العمل الخيري، والعمل النسوي والطفولي، والعمل الطلابي، ومن مدرس إلى واعظ ومحاضر ومدرب وعضو العديد من المؤسسات، إلى الاشتغال بالمال إلى اقتحام مجال الإعلام وتدرجه من فرق للمسرح إلى الولوع بالشعر والرسم والسينما إلى استلام أمانة الإعلام على مستوى الحركة، إلى المساهمة في تأسيس عدد من الجرائد اليومية، ثم العمل على تأسيس فضائية رفقة بعض الشركاء إلى تأسيس فريق للنضال الإلكتروني.
ودون أن نعرج على علاقاته الخارجية التي يؤكد أن له فيها باع كبير، تشدنا الملاحظة السابقة إلى حالة القلق التي تنتاب هذه الشخصية عبر مسارها المتدرج، فكاد أن يستقيل من قيادة الحركة قبل مؤتمرها الخامس لولا فطنة الضمير كي يترك للانتخابات التبرير، كما تتأكد حالة القلق من خلال السعي إلى الحضور أو الإشراف على كل مجال يقتحمه أو يساهم فيه، ويرتبط بهذا الجانب ما يعتبره الدكتور مقري نقطة ضعف لديه سببت حالة القلق التي أشرنا إليها، حينما تحدث عن تجربته الإعلامية وسعي الشركاء لعدم إدراج اسمه في الوثائق الرسمية، خوفا من رمزيته السياسية التي قد تسبب أضرارا جانبية بسبب الصراع السياسي مع السلطة، الأمر الذي يفقده الوسائل القانونية في الدفاع عن حقوقه حينما يحدث الخلاف.
من خلال هذه الأدوات التي تملكها الدكتور عبد الرزاق، استطاع أن يبرز في مشهد الصراع كشخصية متفردة، وعصية على المجابهة المباشرة، واستطاع أن يضع نفسه كمحور توازن لميزان تميل بميلانه الكفة لصالح الطرف الذي يتحالف معه، وهكذا اختار أن يناصر الشيخ أبوجرة لرئاسة الحركة في عهدتيه، ولما تأكد انقسام أطراف الصراع إلى محورين دافع عن محوره بشراسة إلى جانب الشيخ أبو جرة الذي غالبا ما كان ينتقده وينتقد سياساته، أما عندما أصبح الطريق مفتوحا أمامه لرئاسة الحركة فقد دخل مجال السباق بقوة عبر توظيفه لمختلف الأدوات التي تملكها، إلى الدرجة التي جعلت الدكتور عمر غول، الذي كانت بعض الدوائر ترشحه لرئاسة الحركة، ينأى بنفسه عن هذا السباق قبل موعد الوصول للمؤتمر، جارا معه كثير من الإطارات التي كانت ترى أن لا مجال أمامها، إذا ما وصل الدكتور عبد الرزاق مقري لرئاسة الحركة !. يتبع….