عندما كنت على رأس المحطة الجهوية للتلفزيون بورقلة، طرحتُ مع مطلع التسعينيات على الصحفي المتألق سليمان بخليلي فكرة إعداد برنامج أسبوعي تلفزيوني حول الشعر الشعبي أو الشعر الملحون كما يسمى في بعض المناطق من الوطن ومن بينها الجنوب، حيث تتعدد أغراض هذا النوع من الشعر الذي يصل حد الإبداع، بل إن الشعر الملحون ظل يشكل لونا وركنا أساسيا من أشكال مقاومة المحتل، مثلما كان وما يزال يعبر بشكل صادق عن آهات المحب والقيم الإنسانية والتضامن وحتى الهجاء والتفاخر، مثلما كان له دور هام في التأريخ لكثير من الأحداث الوطنية، كما كان هذا النوع من الشعر راويا ومؤرخا لكثير من الملاحم البطولية لشعبنا على مر التاريخ. والحقيقة أن سليمان تحمس للفكرة وبدأ في إعداد الأفكار الرئيسية لذلك البرنامج، ولكن قرار تحويلي عام 1994 للمديرية العامة للتلفزيون حال دون تحقيق ذلك المشروع. وعندما أخبرني الصديق سليمان بخليلي بوقت مبكر من العام الماضي بفكرة برنامج أسبوعي تلفزيوني يهتم بالشعر والشعراء تحمست للفكرة، وقلت له حينها: لا تشع فكرتك حتى لا يسرقها الآخرون ويتبنونها، لأن أتعس السرقات هي سرقة الأفكار، وأضفت مبتهجا: كأنك يا سليمان تريد إحياء فكرة لطالما راودتني منذ فترة وقد كنت أنت أحد أبطالها وتريد تجسيدها في الشعر بصفة عامة فهنيئا لك. والحقيقة أنني بقيت أتابع من حين لآخر برنامج شاعر الجزائر منذ انطلاقته في قناة "الشروق"، ورغم أنني عاشق للشعر متيم به، وأحاول من حين لآخر أن أتطفل عليه ببعض القصائد سواء الوطنية منها أو العاطفية إلا أنني لا أدعي لنفسي أنني شاعر أو أنني ناقد في هذا اللون الراقي من ألوان الأدب، مثلما هو حال صديقنا الدكتور مرتاض أو أستاذي الراحل محمد مصايف وغيرهم ممن يقفون محللين وناقدين للشعر ومضامينه المختلفة. مذ عرفت سليمان بخليلي عام 1986 عندما بعث لي رسالة جميلة وأنا على رأس محطة التلفزيون بورقلة حيث اقترح علي أن يكون صحفيا بالمحطة، ومنذ إلتحاقها عام 1986 بالتلفزيون وأنا أتابع عن قرب تارة وعن بعد تارة أخرى نشاطاته وأعماله المتعددة. وقد كنت في كل مرة أجده يتفنن، بل ويبدع في مختلف البرامج التي أنتجها للتلفزيون، مثلما أجده مناقشا ومشاكسا أحيانا على صفحات الفيسبوك. بدأ معي بمشروع برنامج تبر ونخيل وهو برنامج فكري ثقافي لم نستطع إنجازه بالإمكانيات التقنية والبشرية الضئيلة التي كانت تتوفر عليها محطة ورقلة، وواصله ببرنامجين آخرين هما : (وهديناه النجدين) و(نورعلى نور). و عندما أسس شركته الخاصة (سات) عُرف ببرنامج خاتم سليمان، إذ رغم بساطة فكرة البرنامج، إلا أن هذا البرنامج الذي تنقل بين مختلف المدن والولايات وبين عدد من الأقطار جعل سليمان ينال شهرة لا تقل شهرة من المعتقد الذي يحمل البرنامج نفس عنوانه. وقد وجد سليمان نفسه مرة أخرى يعود إلى أحضان التلفزيون مديرا للإنتاج في 2004 لمدة عام قبل أن يترك المنصب برغبته الخاصة ليتفرغ للإنتاج، حيث أنتج للتلفزيون الجزائري عامي 2008 2009 برنامجا ناجحا تحت عنوان "فرسان القرآن"، وهو البرنامج الذي أدخله في خلافات مع إدارة التلفزيون حاولتُ بحكم علاقاتي مع الطرفين أن أتوسط فيها، ولكن أطرافا أخرى تدخلت لإفساد العلاقة التي تحولت إلى شبه طلاق بين سليمان والتلفزيون العمومي. ورغم عدم تحمسي لقراره بإنشاء مجلة فكرية شهرية، لأن الأمر يتطلب توزيعا واسعا وهو أمر غير متوفر وكذا توفير صفحات إشهارية تسد الجانب المالي لمجلة بذلك الحجم والنوع، إلا أن بخليلي أطلق مشروعه الذي ساهم في الكتابة فيه عدد من الأقلام المشهورة من بينهم الدكتور الصديق عميمور وكاتب هذا المقال، ولكن المشروع توقف كما تنبأت له بسبب تلك المشاكل للأسف. لكن سليمان من النوع العنيد والمكافح، فإن توقف اليوم عن مشروع تجده لا يفشل بل يواصل التحدي، وهي صفة لا تتوفر إلا في المناضلين من أجل قضية. وعندما انطلق مشروع تلفزيون الشروق كان سليمان بخليلي هو أول من مدير تنفيذي للقناة، ولكنه تخلى عن المسؤولية كعادته ليتفرغ للإنتاج مرة أخرى ويطلق برنامجا معرفيا تحت عنوان زدني بقناة الشروق. ويبدو أن السياسة أغوت سليمان ليصبح مناضلا مؤسسا لحزب العدالة والحرية الذي يرأسه محمد السعيد أوبلعيد، لكنه سرعان ما ترك السياسة، إذ أصبح مديرا في وزارة الاتصال ليغادرها لاحقا ويعود للإنتاج التلفزيوني من جديد. ولا شك أن برنامج شاعر الجزائر الذي تبنته قناة الشروق في شبكتها البرامجية للموسم الماضي سيبقى من أهم البرامج الثقافية والفكرية للقناة ولمسيرة سليمان في الإنتاج التلفزيوني. كل أملي ألا يتوقف هذا البرنامج الممتاز شكلا ومضمونا، وأن تكون الكلمة الراقية التي نستمتع بها كل خميس تساهم في خدمة وتحسين الذوق الجميل الذي يكاد التهافت السياسي يفسده علينا، وخصوصا أن الخريف والربيع القادمين باتا يحملان من الآن ملامح حملة انتخابية نتمنى أن تكون راقية، وأن يعمل الشعر على تهذيب بعض الخطابات الخشنة والعنيفة التي ستملأ الفضاء السمعي البصري الجزائري.. لقد كنت أتمنى أن يكون برنامج شاعر الجزائر مكملا لنشاط وزارة الثقافة حول الشعر الذي تنشطه الشاعرة الرائعة لميس ابنة صديقنا الكاتب والمفكر والسياسي الراحل محمد سعيدي، وأن لا يحوله البعض إلى ضرة له تظهر فقط مفاتنها الخارجية.. وحتى لو حولوا العداوة إلى ضرة، فالضرة كانت وما تزال تقدم أجمل ما عندها من حلو الكلام والزينة في المظهر، لتحظى بود الزوج وحظوته، أما المضاجعة فما هي إلا لحظة سريرية عابرة قد تستخدمها حتى بائعات الهوى دون مشاعر وأحاسيس راقية. ولذلك فكم كنت أتمنى أن لا تكون هناك عداوة وشحناء بين شعراء سليمان وشعراء الوزارة..