د. عبد القادر سعيد عبيكشي أستاذ العلوم السياسية [email protected]
اختُتِم اللقاء الذي جمع الحكومة بالولاة خلال أيام 12-13 نوفمبر من هذه السنة، بالعديد من التوصيات الهامة والكبيرة حجما وتحديا، وجاءت هذه الأشغال كما وصفتها الحكومة في ظرف "دقيق وحساس"، وهذا لما تعرفه الدولة من دخول في أزمة مالية، أثرت على مواردها وعلى قدرتها على الحفاظ على مستوى الإنجاز والتحقيق للمشاريع العمومية، وصعوبة الالتزام بحماية مكتسبات فترة "البحبوحة المالية"، التي أنتجت حالة من الرفاه الاجتماعي "النسبي"، والذي اعتبرته الحكومة في محطات عديدة أنه مسار لا رجعة فيه ولا تنازل عنه، غير أن الوضعية المالية أوجدت خطابا مختلفا وتعاملا مغايرا لما كان يقال رسميا.
لقد حاولت الحكومة في هذا اللقاء أن تظهر بصورة المتحكم بالوضع والمدرك لطبيعة التحديات والقادرة على تجاوزها، غير أن المُسجل في هذا الموقف وبمتابعة كلمات وأشغال اللقاء، يلمح أنها كانت تعطي صورة مخالفة للصورة السابقة. فقد برزت الكثير من المؤشرات التي دلت على أن الحكومة تسعى إلى أن تتقاسم مع كثير من الشركاء (الرسمين والاجتماعيين)، حالة القلق والغموض الذي يسود التسيير العمومي مع هذه الأزمة.
إن من بين أهم هذه المؤشرات، هو أن يتحول الفعل التسييري العمومي والتحكم في تداعيات الأزمة المالية، وخلق الثروة التي يمكنها أن تصنع بعض الإمكان للإنفاق العمومي، والعمل على استرداد أموال الجباية المستحقة للخزينة العمومية مهما كبرت أو صغرت قيمتها، وتبني مراجعة دقيقة ومستمرة لبرامج الإنفاق العمومي على كل المستويات، هو أن تتحول كل هذه المهام وهذه التحديات الإدارية والاقتصادية والاجتماعية، وتنقل من المستوى المركزي ويتم "تحميل" المستوى المحلي كل مسارات حلها وتجاوزها، وهذا ملمح مهم وأساسي في فهم فلسفة اللقاء المنعقد. * توصيات في تقاسم الاختلال والأعباء
لقد انتبهت الحكومة أنه لا يمكن لها أن تكون منفردة في إداراتها المركزية وتسييرها العلوي، بكل هذا العبء لوحدها ومن دون شريك تلقي عليه جانبا من المسؤولية والقرار. وهذا ما دفعها إلى أن تعود إلى "الجماعات المحلية" وتفرض عليها بحكم الوصاية والهرمية التنظيمية، الجزء الأصعب والأثقل في فاتورة الأزمة المالية، وهو خلق الثروة والتكفل التام بالجباية المستحقة للدولة، بالإضافة إلى القيام بفعل "الطمأنة" كوظيفة مستمرة ودائمة للمواطن، والتقليل أو التخفيف من حالة الخوف والترقب التي يعيشها وهذا بكل الإمكانات والوسائل.
برزت هذه التفسيرات من خلال رصد أهم النقاط التي تضمنتها توصيات اللقاء، والتي جاء على رأسها إعادة النظر في الإطار القانوني والتنظيمي الذي يسير مهام أمناء الخزائن للبلديات وقابضي الضرائب، من أجل تحسين التحصيل الجبائي لهذه الجماعات مع إعداد قانون خاص بالجباية المحلية، إضافة إلى استحداث عدد من الرسوم الهادفة لتعزيز القدرات المالية للجماعات المحلية. ترقية دور الجماعات المحلية في مرافقة الاستثمار خاصة فيما يتعلق بتحسين العرض العقاري وتطوير الفلاحة والسياحة وتبسيط الإجراءات الإدارية. كما ورد في الخطاب الختامي للدورة العمل على ضرورة "خلق الثروة" على المستوى المحلي بالبلديات بهدف "دعم الخزينة العمومية"، وإذكاء روح المقاولاتية لدى المسؤولين المحليين والانتقال من الإتكالية المفرطة إلى الإبداع الفعال، يتعين الانتقال وفي ظرف قياسي من اقتصاد أحادي الإنتاج إلى آخر متنوع قوامه الابتكار والمبادرة. كل هذه التصورات المبدئية والنظرية التي تحملها الحكومة، في رؤيتها لموقع الجماعات المحلية في المرحلة القادمة، تُظهر أن الرؤية لا تزال قاصرة على فهم إشكالات هذه الوحدات الإقليمية، وطبيعة التعثرات الهيكلية والوظيفية التي تعاني منها. وإن كانت حالة القصور هذه لا تعني عدم إطلاع من قبل الوصاية والحكومة، بقدر ما تعني حالة التأجيل والمماطلة في التوجه إلى الحلول الجذرية والحقيقية.
* الضريبة ليست مطلق التنمية
أن تحفل توصيات اللقاء الدوري للحكومة مع الولاة، وتوسيعه إلى رؤوساء المجالس الشعبية الولائية والبلدية وبعض الفعالين الاجتماعيين والاقتصاديين، بكثير من التمركز حول "الضريبة المحلية" وضرورة تحصيلها، وتحويل الجماعات المحلية بكل ما تحمله من موقع دستوري ووظيفي في الإدارة العمومية الجزائرية، إلى مجرد "قباضة ضرائب" سوف لن يكون إضافة فعلية وعملية للدور الذي تتوخاه الحكومة من هذه الوحدات.
إن الفعل التنموي النوعي والابتكاري الذي تبحث عنه الحكومة وتتكفل به الولاية والبلدية، لا يمكن أن يقتصر على تحصيل الجباية وتوسيع وعائها، وزيادة نسبها على كاهل المواطن. وهذا ما قد يجعل من التصور المركزي للفعل التنموي على المستوى المحلي مرتبط بحدود ضيقة، لا تتعدى فهم أن الوحدات الإقليمية سبب عجزها وضعفها وتراجع مشاريع وبرامج التنمية المحلية فيها مرتبط بالعائد المالي والإنفاق العمومي وحسب.
إن المشكلة الحقيقة في تسيير هذه الوحدات الدستورية ليس متعلق بصورة دائمة ومستمر بالضريبة، ولا هي طوق النجاة النهائي والدائم لها للخروج من حالة التخلف التي تتساوى فيها أغلب ولايات وبلديات الوطن. التحصيل الجبائي واسترجاع أموال الدولة المستحقة، وتطوير الضريبة المحلية، لن تكون ممكنة ولا مسهمة في الدور الجديد للجماعات المحلية، إذا غاب عن السلطات المركزية والمحلية على السواء أهمية مراجعة آليات تسيير هذه الأخيرة، فالحالة المزرية التي تعرفها الهياكل والموارد البشرية في بلديات وولايات في كل إقليم الجمهورية، لا تعطي أية إمكانية أدائية لتحقيق وظيفة "خلق الثروة" محليا.
من خلال كل هذا، كان على المجتمعين في قصر الأمم، عدم اللجوء إلى خطاب ومقترحات وتوصيات بالمضاعفة في أنواع وأنماط هذه الجباية، وتسخير أجهزة الدولة المحلية لجمعها والاستفادة منها بصورة مطلقة ووحيدة. بقدر ما كان عليهم التوجه إلى صلب المشكل الذي أفرز كل هذا التدهور على المستوى المحلي وهو مراجعة آليات التسيير العمومي للمرافق العمومية محليا، ومراجعة آليات التوظيف لأنماط جديدة من الأداء الإداري الذي يحقق هذه الآمال، وليس التوجه إلى مرحلة "ما بعد البترول" بنفس أدوات وميكانيزمات العمل المحلي السائدة والمتهالكة.
* التسيير العمومي الجديد "محليا" وواقعية التمكين
تحرص جميع الأدبيات التي أصلت وأسست وناقشت مفهوم التسيير العمومي الجديد New Public Management (NPM)، على أن هذا الأسلوب من الإدارة الجديدة ينبني على فكرة أساسية وهي أنه خيار جديد ومختلف قابل لتعويض النظام الإداري القائم وليس إصلاحه فقط. وهذه الفكرة تعطي ملمحا مهما في أحد أهم آليات التمكين الإداري والوظيفي، التي يمكنها أن تسهم في تطوير وتفعيل عمل الجماعات المحلية. فحقيقة التعثر الذي تعيشه هذه الأخيرة مرجعه كما سبق التنويه، يعود إلى تقليدية الأنظمة والوظائف، في مرحلة يراد لها أن تكون نهضوية وانبعاث جديد لدورها الاستراتيجي في مسار التنمية الوطنية.
ومما يستند إليه هذا النظام الإداري الجديد أن يعطي مجموعة من المؤشرات والمقاييس، تسمح بمعرفة مسار التحول وحدوده والإمكانيات التي يتطلبها، والتي بفحصها تستطيع الجهود التنظيمية على المستوى المركزي أن تفعلها على المستوى في تجارب جزئية حتى تثبت سلامتها، بمعنى أن تعطي الوصاية بتوافق مع مؤسسات النظام هامشا من التجربة والتراكم الذي يمكنه أن يسهم في الانتقال السليم والهادئ في وظائف الجماعات المحلية وليس التوجه إلى انتقال عنيف غير مدروس.
إن من بين أهم الأسس التي يعتمد عليها (NPM) والتي ترتبط بهذا التحليل، هو التشديد على نمط القطاع الخاص في الممارسات الإدارية، بمعنى أن تتحول الوظائف في نطاق الجماعات المحلية بصفتها العمومية، إلى نمط تصبح فيه هذه الأجهزة تستعمل أسلوب إدارة القطاع الخاص، حتى تستطيع أن تكون متحررة وقادرة على التفاوض والتعاون والشراكة بصورة أكثر أريحية لها، ومن دون "الهيمنة الاحتكارية" التي تتبناها الأنظمة الإدارية التقليدية، والوصول إلى مرحلة يصبح الخط الفاصل بين إدارة القطاعين العام والخاص متلاشيا، وهو ما يمكن من تحقيق المبادرة والابتكار والإبداع الذي تبحث عنه الحكومة.
كما يتطلب هذا النظام أن يتحقق التسيير المحترف في القطاع العام، ومعنى ذلك أن يتم التوجه نحو النتائج والتغيير، بدلا عن احترام القواعد والإجراءات والعمليات بصورة جامدة. وهي الآلية التي يمكنها أن تؤدي إلى تفكيك الإدارة التقليدية إلى هياكل شبه مستقلة، فالتسيير العمومي الجديد يعمل على التقليص من البيروقراطية وتحجيم دورها، مقابل زيادة في الاعتماد على فلسفة إدارة الأعمال.
وبالتالي تسهم هذه الآليات في دفع هذا الدور الاستثنائي للوحدات الإقليمية، الذي تطالبها به الحكومة من قيام بتحولات سريعة ومنتجة في فترة وجيزة ودقيقة. وهو ما قد يسهم أيضا بأن يسيطر ويهيمن على عمل هذه الوحدات وأن تشتغل وفق مبدأ التنافسية وهو ما يعني التحوّل إلى منافسة أكبر في القطاع العام، والذي يعد من المرتكزات القوية في (NPM). كل هذا مرتبط بمدى قناعة الحكومة بوجوب التحول المحلي بداية والمركزي انتهاء بهذا النظام الإداري الجديد. زيادة على كل هذه الآليات يضاف إليها وجوب تجاوز جذر التعطيل ومرتكزه، وهو زيادة استقلالية المسيّرين العموميين ولاسيما من ضوابط رقابة الوكالات المركزية، وهذه القاعدة تدخل في سياق منسجم مع كل هذا التهويل بإلزام الجماعات المحلية بالتكفل بكل احتياجاتها ومواردها المالية، من خلال تفعيل كل شروط ومقومات الاستثمار داخل الإقليم المحلي، فلا يمكن أن تكون هذه الوظيفة (القديمة/الجديدة) دون أن تحقق جوهرها من تفويض الصلاحيات بواقعية وعملية، زيادة إلى بناء شبكية للحوكمة المحلية تسهم في تقويم الأداء وتطويره.
* المورد البشري ومعضلة الكفاءة والانسجام
يُعد تجاوز الدور الريادي والمحوري لكفاءة الموارد البشرية، التي بإمكانها قيادة المرحلة "الحساسة" في الأدوار الجديدة للجماعات المحلية، من قبيل القفز على حقائق التمكين الواقعي ومضاعفة لعوامل التعثر والانحصار مجددا. ذلك أن الاهتمام والاستثمار في المورد البشري الكفء يندرج بكل ثقله في أساسيات وقواعد (NPM)، وهو ما تغفله الوصاية والحكومة على السواء، من خلال تعمدهما إلى عدم توضيح الأدوات الممكنة والقادرة على أن تعطي الدفع اللازم في قضايا التعليم والتكوين والتوظيف والاستثمار البشري. فمجمل ما ألمحت إليه توصيات ومقترحات اللقاء، أنها تركت القضية فضفاضة وسطحية ومن دون روح للتفعيل والتجديد في هذه المسألة المحورية والهامة. إن إتاحة الموارد البشرية والتكنولوجية التي يحتاجها المسيّرون لأداء نشاطاهم بشكل جيّد، يعد من القواعد الأساسية التي يبنى عليها (NPM). وعليه فإن قدرة الجماعات المحلية على التكفل بهذه الوظيفة في إطار إعادة بعث الدور التسييري الجديد لها، يكون من خلال فهم أن المورد البشري هو عامل تفوق إذا تجاوزت الأطر التنظيمية والتوظيفية التي أثرت على نتائج هذا المورد ومردوديته. وهذا ما تسعى قواعد هذا النظام الجديد إلى أن تبيّنه من خلال التركيز على تحسين هذه الموارد البشرية، وفق مبدأ تحفيز الموظفين على أساس الطابع الفردي للأجر وهو ما يعني أن تتوافق الجهود مع المقابل المادي للموظف، ثم المكافآت على أساس الأداء وهو ما يرفع من مردودية العمل ويضعه في خدمة برامج التنمية المحلية وليس في تراجعها، والتوجه نحو مراجعة مكثفة أنظمة التعاقد والتوظيف.
هذه الآليات التي وجب على الحكومة أن تتنبه لها، من خلال إعادة فهم وبناء للمورد البشري الذي يعرف الكثير من المشاكل وسوء التوجيه والاعتناء، ذلك أن سلامة الخطط التنموية على المستوى المركزي، ورشادة التسيير والإنفاق في البرامج والمشاريع، وكل ما قد يكون منسجما وملائما للوحدات الإقليمية، سيصطدم بجبل الجليد المتنامي في الجماعات المحلية وهو تراجع كفاءة الموارد البشرية التي ستقوم بتنفيذ وتنزيل هذه البرامج في وحداتها.
وبالتالي فالإشارة بصورة وجيزة وربما متسرعة وحتى روتينية (ربما) في التوصيات لقضايا الموارد البشرية محليا، سيُبقى واقع الجماعات المحلية على حاله بل سيفاقم مشاكلها، ويُضعّفُ من أدائها حتى في تحصيل الضريبة المحلية التي هي محل الاهتمام الأكبر من قبل الحكومة، وسيكون هذا هذا الإهمال أو عدم الانتباه، هو العثرة التي ستقضي على آمال الانتقال والتطوير في الفعل المحلي في المرحلة القادمة للجماعات المحلية التي تراهن عليها الحكومة في عزيز الإصلاح الكلي لها، وإعطائها دعما جديدا من الوظائف والمهام التي تمكن لوحدات مسؤولة وفاعلة.
* ختام القول ومنطلق الفعل
في الأخير، إن ما تُوج به لقاء الحكومة-الولاة، من توصيات ومقترحات، والعمل على إنشاء لجنة متابعة لتنفيذ هذه الأخيرة، ليست كافية ولا هي قادرة على أن تنتقل بهذه الجماعات المحلية بواقعها الحالي، إلى أن تكون منتجة وخالقة للثروة. فإذا لم تصارح الحكومة نفسها بإلزامية التوجه إلى نمط التسيير الإداري الذي يطور من أداء البلديات والولايات، وإذا لم تراجع مبدأ اللامركزية في كثير من التفاصيل ، وإذا لم تهتم بحقيقة الاختلال القائم في الهياكل التنظيمية لها، والتداخل الحاصل بين الجانب المعيّن والجانب المنتخب، وما افرزه من مشاكل دائمة ومستمرة وانسدادات في كثير من الوحدات، وإذا لم تضع الموارد البشرية في صميم الاهتمام والعناية. وإذا بقيت تراوح مكانها في قضايا التحديث والتطوير لعمل وأداء الجماعات المحلية، من خلال مراجعة للنصوص القانونية (كما أعلن) وإبقاء أجزاء المشكلة (في نظرها) في تحصيل الضريبة وإنفاقها محليا.
فإن الرغبة والآمال العريضة التي تحملها مثل هذه اللقاءات التي أصبحت دورية، لن تكون قادرة على تطوير الأدوار والأفعال والنتائج، بقدر ما تكون (هذه الأماني والتصورات) منتهية إلى سرعة نفاذ صلاحيتها مع انتهاء كل لقاء وفي أروقة مكان الانعقاد، ذلك أنها لن تستطيع أن تنزل إلى الواقع ولا أن تحمل مقومات التجدد والانبعاث الحقيقي لأدوار جديدة للجماعات المحلية.