فضل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب, عنوان كتاب وليس مُزْحَة طاح بها لسان, فقد كتبه ابن المرزبان أبوبكر المحولي-إخباري ومؤرخ خراساني- تحدث فيه عن فساد أهل زمانه, وخسَّة أخلاقهم ولُؤم طباعهم, وجمعَ فيه ما جاء في فضلِ الكلبِ على شِرار الناس, وذكر في المقدمة عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه أنه قال:كان الناس ورقا لا شوك فيه فصاروا شوكاً لا ورق فيه. وليس العنوان قدحا في الإنسان, فقد ورد في القرآن التشبيه بالكلب والحمار والعنكبوت, فالإنسان حينما لا يأخذ بهداية السماء يصبح سلوكه منسلخا ولباسه متسخا, وتصرفه عدوانيا تدميريا, ويكون تابعا لشهواته، عابدا لملذاته, "كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ" ضال سواء وعظته أم لم تعظه, يحرص على الدنيا وشهواتها. وحظ من لم ينتفع من كتاب الله كحظ الحمار من الكتب التي على ظهره ..(الأسفار) "كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا" لا يدرى ما فيها، ولا يناله من حملها إلا التعب، فالمسألة ليست كتبا تحمل وتدرس, وإنما مسألة فقه وعمل بما في الكتب. وكل بيت بني على الظلم واحتقار الإنسان فهو كبيت العنكبوت "اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ". فهي تحتمي ببيت من خيوط واهية, والإعجاز في الآية: أن الضعف في بيت العنكبوت ضعف ترابط أسري، فالذكر بعد أن يقوم بتلقيح الأنثى تقوم الأنثى بافتراسه وتتغذى على لحمه طيلة فترة الحضانة للبيض وبعد أن يفقس البيض تتغذى اليرقات على أضعفها ثم بعد أن يقوى ويشتد عود ما تبقى من الصغار تقوم بأكل أمها لأنها أصبحت أضعف الموجود….هكذا قوي يأكل ضعيفا… ونحن قد بنينا دولا, وشيدنا مؤسسات, وأنشأنا مدارس وجامعات, وكانت غايتنا أن نبني الإنسان, ونرتاح في الأوطان ونقهر كل عدوان, ولكننا اكتشفنا بعد زمن الأماني وسماع الأغاني أننا في دول ضعيفة مهزوزة السيادة, لا قدرة لها على رعاية الإنسان, ولا تصمد أمام أدنى عدوان, خدعنا فآمننا بأننا أرقام كبيرة لايمكن أن تمحى, واستفقنا على خبر فرار خيرة الشباب من البلاد, بل وكفر كثير منهم بالوطن وفضل رمي نفسه في البحر على البقاء في هذا الواقع التعيس الذي أفرزته نخب العهر. لقد استشرت الغباوة والسفاهة والجهل, وساد الضلال والبهتان والضحك على الذقون, ونخشى أن نكون كما قال بديع الزمان الهمذاني: سَوْفَ تَرَى إِذَا انْجَلَى الْغُبَارُ ***أَفَرَسٌ تَحْتَكَ أَمْ حِمَارُ. عَوْدٌ على بَدْءٍ: إن طريق التقدم واضح لا لبس فيه وبين لا اعوجاج فيه, وهو أن نمزج بين الأصالة والمعاصرة, وأن نبني الإنسان فهي الخطوة الأولى في طريق التطور ومحاربة التخلف. ومن قيم شهر رمضان الواجب تعلمها: الطاعة والانصياع والإذعان, والنظام والانضباط وضبط النفس والسلوك والالتزام بالأنظمة والمعايير الدينية والأخلاقية والاجتماعية المتفق عليها. وقد كتب فقيه الأدباء وأديب الفقهاء على الطنطاوي رحمه الله مقالا بعنوان: خجلت من رجال لم يتعلموا الانتظام الذي تعلمته الكلاب. جاء فيه: حدثني رجل كبير القدر صادق اللهجة قال: كنت في لندن، فرأيت صفا طويلا من الناس يمشي الواحد منهم على عقب الآخر ممتدا من وسط الشارع إلى آخره, فسألت فقالوا أن هنا مركز توزيع وأن الناس يمشون اليه صفا كلما جاء واحد أخذ آخر الصف فلا يكون تزاحم ولا تدافع, ولا يتقدم أحد دوره ولو كان الوزير ولو كان أمامه الكناس وتلك عادتهم في كل مكان على مدخل الكنيسة وعلى السينما وأمام بائع الجرائد وعند ركوب الترام أو صعود القطار. قال: ونظرت فرأيت في الصف كلبا في فمه سلة وهو يمشي مع الناس كلما خطا خطوة لا يحاول أن يتعدى دوره أو يسبق من أمامه ولا يسعى من وراءه ليسبقه ولا يجد غضاضة أن يمشي وراء كلب مادام قد سبقه الكلب. فقلت ما هذا ؟ قالوا كلب يرسله صاحبه بهذه السلة وفيها الثمن والبطاقة فيأتيه بنصيبه من الإعاشة. لما سمعت هذه القصة خجلت من نفسي أن يكون الكلب قد دخل النظام وتعلم آداب المجتمع, ونحن لانزال نبصر أناسا في أكمل هيئه وأفخم زي تراهم فتحسبهم من الأكابر يزاحمونك ليصعدوا الترام قبلك بعدما وضعت رجلك على درجته... أو يمدون أيديهم من فوق رأسك إلى شباك البريد وأنت جئت قبلهم وأنت صاحب الدور دونهم...أو يقفزون ليدخلوا قبلك على الطبيب وأنت تنظر متألما لساعتين...وهم إنما وثبوا من الباب إلى المحراب.