عندما يحدث أن تصطدم بزخم كبير من الأحداث الهامة والخطيرة، تحتار أي المواضيع تكتب، وأي الحالات “تندب”، وليس أجمل من أن نرحل معا إلى سوريا، إلى بعض ما كتبه العالم القدير علي طنطاوي في مقالاته الرائعة التي تذكرنا بجمال لغتنا الجميلة، مثلما ذكرني به زميل قدير مؤخرا سمعته لأول مرة يتكلم فاستقطبت كلماته أذني، بل سرقت لغته الجميلة سمعي. كتب العالم القدير علي طنطاوي يقول… حدثني رجل كبير القدر صادق اللهجة، قال: كنت في لندن، فرأيت صفاً طويلاً من الناس، يمشي الواحد منهم على عقب الآخر، ممتداً من وسط الشارع إلى آخره فسألت، فقالوا إن هنا (مركز توزيع)، وإنَّ الناس يمشون إليه صفا، كلما جاء واحد أخذ آخر الصف، فلا يكون تزاحم ولا تدافع، ولا يتقدم أحد دوره، ولو كان الوزير، ولو كان أمامه الكناس. وتلك عادتهم في كل مكان، على مدخل الكنيسة وعلى باب السينما، وأمام بائع الجريدة، وعند ركوب “الترام”، أو صعود القطار. قال: ونظرت فرأيت في الصف كلباً في فمه سلة، وهو يمشي مع الناس، كلما خطوا خطوة، خطا خطوة، لا يحاول أن يتعدى دوره، أو يسبق من أمامه، ولا يسعى مَنْ وراءه أن يسبقه، ولا يجد غضاضة أن يمشي وراء كلب، مادام قد سبقه الكلب. فقلت ما هذا؟ قالوا: كلب يرسله صاحبه بهذه السلة، وفيها الثمن والبطاقة فيأتيه بنصيبه من (الإعاشة.).. لما سمعت هذه القصة، خجلت من نفسي أن يكون الكلب قد دخل النظام، وتعلم آداب المجتمع، ونحن لا نزال نبصر أناسا في أكمل هيئة، وأفخم زي، تراهم فتحسبهم من الأكابر… يزاحمونك ليصعدوا الترام قبلك، بعد ما وضعت رجلك على درجته، أو يمدون أيديهم من فوق رأسك إلى شباك البريد، وأنت جئت قبلهم، وأنت صاحب الدور دونهم، أو يقفزون ليدخلوا قبلك على الطبيب، وأنت تنتظر متألماً لساعتين، وهم إنما وثبوا من الباب إلى المحراب؟ خجلت من رجال لم يتعلموا الانتظام، الذي تعلمته الكلاب؟ انتهت رواية الفاضل علي طنطاوي ولم ينتهي “ندبنا” و هذا الموقف يلخص أزمتنا في البلاد العربية، الأخلاقية والاجتماعية والسياسية والثقافية وغيرها.. في بلادنا العربية لازلنا نبحث عن الذات، ولازلنا نتحدث عن أنانيتنا، نصدّر الروايات والتعليمات والخطابات، في حين كلب بريطاني يعرف حدوده ومسؤوليته وواجباته وحقوقه.. الكلب البريطاني يعرف هذا بينما المواطن العربي لا يزال عبدا مستبعدا لا بقوى على رد صفعة، على الرغم مما يقال عن بريق هذا الربيع الذي التهمته أحمرة الفلول وبقايا الأنظمة. الكلب البريطاني الذي يحمل قفة بفمه ويتسوق لصاحبه سيكون مدربا رائعا لملايين العرب الذين يتقاتلون في الشوارع باسم الحرية والديموقراطية. لازلنا نتحدث عن أخلقة الحياة السياسية في حين الكلاب البريطانية تمارس السياسة والحرية أحسن من المجتمعات العربية التي تحكمها العُصب المتناحرة على المال القذر. قد يكون العيش في بلاد الغربة صعبا، لكن ليتهم يأتون لنا بكلاب مثل هذا الكلب المحترم لأخلقة السياسة والثقافة والمجتمع والاقتصاد والمال والأعمال.. ليت تلك الكلاب تخرج إلى شوارعنا غير المهذبة.. شوارعنا التي تسمع فيها كل العبارات الساقطة، وكأنها قذارة تتدفق، تسمع العبارات السوقية التي تعكس رداءة أخلاق هذا الشارع، قد تقوم الكلاب بدور لا نقوى اليوم على القيام به لأنها تملك ثقافة احترام الآخرين عكسنا وعكس ما نراه صحيحا اليوم.