وينتج المنظور الجديد للحركة الاسلامية أيضا من التحديات النابعة من داخلها، و يمكن إجمالها في سبعة متغيرات أساسية هي : 1.غياب "الرؤية" والمشروع السياسي الإصلاحي والتغيير 2.الأزمة القيادية داخل الحركة الإسلامية 3.التحدي التنظيمي والإداري داخل الحركة الإسلامية 4.تناقض الرؤى داخل الحركة الإسلامية بصدد أهدافها وأساليبها في الاصلاح والتغيير 5.انخفاض نوعية ومستوى الجودة في الأجيال الجديدة داخل الحركة. 6.غياب أو عدم إحترام التخصص داخل الحركة: ويختصر ذلك غياب القيادات الفكرية المرجعية داخل الحركة، حيث تعاني الحركة الاسلامية اليوم نقصا كبيرا من ذلك الجيل القائد على المستوي الفكري والمرجعي داخل الحركة، الأمر الذي عبر عنه البعض بأن الحركة أضحت جسدا كبيرا ليس له رأس، وبالأصح ليس له عقل فكري قائد ناضج ومجمع على مستوى الجسد الكبير، وإن كنا نرى أنه قد فات زمن المرجعيات الفردية الفذة المجتهدة، وأصبحت الحركات الإصلاحية والتغييرية توجده عبر مؤسسات ومراكز متخصصة للبحث والتفكير المستقبلي وهو ما لم تعرفه التجارب التي حاولتها ولم تستطع أن تثبت جدارتها أو قدرتها علي الصمود والبقاء، ناهيك عن الإنتاج والإبداع الحركة، ومن ثم أخذت عوامل التآكل تفعل فعلها في الحركة دون أن تقوم بتعويض حقيقي لصالح الكيان. والمنظور الجديد للحركة الاسلامية هو منظور حضاري وليس حزبي أو سياسي منقطع عن السياقات الحضارية التي تحدد الهوية المعرفية للحركة الاسلامية، حيث يعتبرها المنظور الحضاري اجتهادا في إطار دائرة الإسلام وهي طليعة الأمة في معركة التغيير، وهي أيضا صاحبة مشروع مجتمعي. كما ينبع المنظور الجديد لفهم الحركة الاسلامية من طبيعة النموذج الإسلامي للحكم ومركزية دور المجتمع وهامشية دور الدولة فيه، وهو الغائب الأكبر في فكر الحركة الاسلامية التي راحت تتدافع بمنطق الدولة والخلافة على قاعدة أن الوصول إلى الدولة هو المدخل الرئيسي للإصلاح والتغيير، وضيّعت أوقاتا كبيرة في الصراع الصفري مع الدولة القومية المستقلة التي راحت هي الأخرى تبرمج للفصام النكد بينها وبين الحركة الاسلامية، فلا الحركة الاسلامية وصلت إلى الحكم والدولة ونفذت برنامجها، ولا تلك الأنظمة استطاعت أن تحقق التنمية وترقى بمجتمعاتنا إلى مستوى النهوض، واستمر الأمر قرنا من الصراع.
المنظور الجديد لمفهوم ومرجعية الحكم والدولة والمجتمع وقد يكون من الضروري، كما قال الدكتور نصر محمد العارف، في دراسته المهمة حول الأسس المعرفية للنظم السياسية الإسلامية، التأكيد على أن المقصود بمفهوم "النموذج" في هذا السياق لا يعني بأي حال من الأحوال أية دلالات تتعلق بالنمط المثالي ideal type أو المدينة الفاضلة، أو الحالة النموذجية التي ينبغي أن يتم السعي للوصول إليها أو تحقيقها؛ وإنما يعنى بصورة أساسية مجموعة من الدلالات، تتعلق في جوهرها بمفاهيم النموذج المعرفي paradigm أو النسق القياسي أو الأسس المعرفية والفرضيات الكامنة، ومن ثم فإن المقصود بالنموذج في هذا السياق هو رسم خريطة طبوغرافية للملامح العامة والأسس الكلية للحكم الصالح في الإسلام. وهذه الملامح العامة أو هذه الأسس والمسلمات التي نطلق عليها في هذا السياق مفهوم النموذج ليست موضوعا يتم ابتكاره أو إيجاده من خلال عملية تأمل أو تنظير لتجارب تاريخية وخبرات واقعية، وإنما هو نموذج يتم الكشف عنه أو اكتشافه، وليس إيجاده أو اختراعه، وفي عملية الكشف هذه يتم الاعتماد بصورة أساسية على روح مصادر التنظير الإسلامية المتعلقة بإدارة شؤون المجتمعات وحكمها، وهذه المصادر تعتمد بصورة أساسية على الوحي وما دار حوله من بحث واجتهاد بشري، سواء كان ذلك الاجتهاد سطورا في صحائف أو منقوشا كتجربة واقعية على جدران تاريخ المجتمعات الاسلامية، خصوصا تجاربها السياسية الناجحة التي استطاعت أن تتعاطى مع الأصول النظرية تعاطيا يقوم على الافتقار إلى هذه الأصول ومحاولة استمداد روحها وتفعيلها وليس الاستظهار بها أو استظهارها كمطية لتحقيق شرعية نظم سياسية فاقدة للشرعية، سواء في تأسيسها أو ممارساتها، ومن هنا فإنه ينبغي التأكيد بداية على أنه فيما عدا القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة في ذاتهما وليس في شروحهما لا يوجد أي مصدر آخر له طبيعة الإلزام في صياغة هذا النموذج، إذ أن ما عدا ذلك ماهو إلا مناهج لتنزيل مبادئ الحكم في الإسلام وغاياته على أرض الواقع أو تجارب حاولت أن تستلهم من الوحي نورا يقودها في عملية تنظيم المجتمعات الإنسانية وتسييرها نحو غايات أخلاقية هادفة لتحقيق السعادة الإنسانية في الدنيا والآخرة، ولعل ذلك يعود إلى طبيعة وموقع العملية السياسية في النسق المعرفي الإسلامي، وكيف أنها في جملتها تقع في إطار الكليات والمقاصد والأطر العامة، ولا ينبغي أن يتم التنظير لها على المستوى الجزئي والتفصيلي إلا إذا كان هدف ذلك التنظير التفاعل مع واقع محدد في زمان ومكان محددين. ولعله ليس من قبيل التكرار إعادة التأكيد على أن النموذج الاسلامي للحكم نموذج يقوم في جوهره على أسبقية المجتمع على الدولة، وعلى اعتبار أن المجتمع هو الأساس ومن ثم فإن بناءه وترسيخ قواعده يعد أولوية أولى، ثم تأتي بعد ذلك الدولة أو النظام السياسي كنتاج طبيعي لهذه الحالة المجتمعية. وجوهر هذه الإشكالية هو العلاقة بين الدولة والمجتمع، وهي عينها التي اختلفت حولها مدارس الفكر السياسي الأوروبي في عصوره المختلفة، وتجلت صورتها النهائية في الاشتراكية والليبرالية كنظريتين متعارضتين في هذا الخصوص. وإن كان خلافهما أكثر حدية وجذرية وتطرفا من الخلاف الذي شهدته المدارس الفكرية الإسلامية على مر العصور، إذ أنه لم يوجد منها من يقول بعدم الحاجة إلى الدولة أو عدم جدوى وجود النظام السياسي سوى بعض الأفكار الهامشية لجماعات صغيرة عديمة الوزن والتأثير في تطور التفكير السياسي في الإسلام. ومن جهة أخرى، فإن مفهوم السياسة في الإسلام كمنظومة فكرية في اللغة العربية يجعل من الفعل السياسي في معظمه فعل مجتمعي غير قاصر على الدولة أو على أجهزتها السلطوية، فجوهر هذا المفهوم هو الإصلاح أو المصلحة، لذلك يرد في سياقات عديدة ومتنوعة، وعلى مستويات مجتمعية مختلفة، ويعطي عند كل منها نفس الدلالات اللغوية ونفس المعاني، فالسياسة على المستوى المجتمعي أو على مستوى الأمة هي "جلب المصلحة ودرء المفسدة"، وهي "أي فعل يكون الناس معه أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد"، وهي " أخذ الناس إلى الصلاح وأبعد عن الفساد"، وهنا نجد أن العمل السياسي حتى يكون كذلك لم يكن محتاجا لبناء مؤسسي معين أو أطر تنظيمية معينة أو أدوات قوة ونفوذ معينة أو سلطة معينة، كما هو الحال في الفكر الغربي على امتداد عصوره، حيث السياسة تحتاج دائما إلى القوة والسلطة، لذلك كان علم السياسة يعرف بأنه "علم السلطة" أو "علم القوة" أو "علم الدولة" … إلخ، ومن ثم فإن تعريف مفهوم السياسة ذاته يمكن اعتباره مؤشرا على تحديد مجالها وإطارها وما صدقاتها، فمفهوم السياسة في الإسلام من خلال تعريفة يبين بما لا يدع مجالا للشك، أن الظاهرة التي يعبر عنها هذا المفهوم ظاهرة مشتركة متداخلة ما بين المجتمع والدولة، بل أن إطار حركتها هو المجتمع وليس فقط الدولة. إن الناظر في الواقع المعاصر للعالم الإسلامي ،خصوصا الحركات الإصلاحية التي تحمل صفة "الإسلامية " يجد أنها في مجملها تتبنى مفاهيم مختلفة للدولة ونظام الحكم الإسلامي، بل ولمجمل مفاهيم السياسة والدين، وقد لا نجافي الحقيقة إذا قلنا إن رؤية معظمها، إن لم يكن جميعها، تستبطن المفاهيم الغربية، والمعاني والدلالات النابعة منها، وإن حافظت على اللفظ العربي والمصطلح الإسلامي، فالسياسة عندها هي القوة والسلطة والنفوذ وإدارة الدولة والتحكم فيها، والدولة في عرفها هي الدولة بمعناها المعاش في الواقع العربي والإسلامي المعاصر، وهي المدخل الأساسي بل الوحيد للإصلاح والتغيير، ولذلك تسعى جميع هذه الحركات للوصول إلى السلطة ولو من خلال وسائل برغماتية تدفعها أحيانا للتحالف مع أحزاب وجماعات ونخب هي أبعد ما تكون عنها من حيث التكوين الفكري والبرنامج الإصلاحي. ولعل هذا الفهم للسياسة ونظام الحكم قد أدى إلى عملية تشويه شديدة للمنظومة المعرفية التي تتبناها هذه الحركات، فأصبحت رؤيتها للعمل السياسي أو لنظام الحكم تقوم على معادلة هي في جوهرها خليط من مفاهيم الإسلام والمفاهيم الأوروبية المعاصرة، هذه المعادلة أنتجت واحدة من أسوأ صور الممارسة السياسية في التاريخ الإسلامي، فإيمان هذه الحركات بأن السياسة هي القوة أو السلطة أو النفوذ أو علم إدارة الدولة، واعتمادها على مصادر المشروعية الاسلامية أدى إلى الوصول إلى درجة معقدة من الاستبداد، خصوصا الاستبداد الفكري الذي يقوم على افتراض امتلاك الحقيقة ومن ثم نزع المشروعية بل شرعية الوجود عن المخالفين ونفيهم خارج المجتمع أو خارج الوجود في بعض الحالات، وذلك أن: (مفهوم القوة + المشروعية الإسلامية = دكتاتورية مبررة )، وهذه هي الصورة السائدة الآن في معظم الحركات إن لم يكن جميعها، وهذا أيضا هو سر إخفاقاتها المتعددة ومحاولات انتحارها المتجددة، بحيث أصبحت هناك عمليات متواصلة من قطف أعناق أجيال متتالية من أفضل شباب الأمة لا لشيء إلا للتعلق بأهداب الدولة والسعار الشديد للوصول إليها على أنها هي المدخل الأساسي والوحيد للاصلاح، ولا يمكن أن يتم الاصلاح إلا من خلال الدولة وأجهزتها، مع غفلة شبه تامة عن معاني ودلالات السياسة في الإسلام وعن طبيعة النموذج الإسلامي للحكم الذي يقوم في جوهره على أولوية المجتمع من خلال تقوية فعالياته وإطلاق طاقاته، وفي نفس الوقت إحداث عملية تدريجية في تهميش الدولة ودورها، أولا في الأذهان والوعي والإدراك، ثم بعد ذلك في أرض الواقع، وكأن عملية الإصلاح أو عملية بناء نموذج إسلامي للحكم تستلزم أولا: إطلاق طاقات المجتمع وتفعيل قدراته ودفعها لتسد مساحات واسعة من الحاجات الإنسانية، وثانيا: تهميش الدولة ووزنها ودورها في الإدراك الجمعي والوعي المجتمعي، وثالثا: تقليص تدخلها في المجتمع تدريجيا بحيث يتم تدريجيا إعادة مصادر القوة إلى المجتمع، وهذا الأمر لن يحدث إلا إذا توفر خطاب سياسي إسلامي يعيد تعريف المفاهيم الأساسية للسياسة في الإسلام، ويعيد طرحها بصورة عقلانية متوازنة تستلهم التراث الاسلامي وتحيط بالفكر السياسي المعاصر والظواهر السياسية المعاصرة، وفي نفس الوقت نقوم بعملية تجديد منهجي لإصلاح مناهج التفكير المتعلقة بمجمل الظاهرة السياسية وتشعباتها، بحيث يكون من أهداف هذه العملية المنهجية تحويل اهتمامات البحث السياسي الاسلامي من التركيز على الحاكم إلى التركيز على عملية الحكم ذاتها، ومن الذوبان عشقا في الدولة والسلطة إلى الانشغال بهموم المجتمع وكيفية إنهاض فعالياته وبناء مؤسساته وإعادته إلى حالة القوة التي كان عليها.