الدكتور بومدين بوزيد مدير الثقافة الإسلامية بوزارة الشؤون الدينية ليس بحوزة الحركة الإسلامية في الجزائر مفكرون حقيقيون، فهي تشبه التيار الماركسي الذي عاش على أفكار الحزب الشيوعي الفرنسي. وعليه أعتقد أن ظاهرة غياب النخبة المثقفة لا تخص الحركة الإسلامية فقط، فقد سقطت مثل باقي التنظيمات في الممارسة وفي الانغلاق التنظيمي، فأصبحت لا تنتج فكرا ولا إبداعا، في وقت لم يعد فيه المجتمع يسير وفق حركية تقوم على التصورات الفكرية. ونجد اليوم أن الحركة الإسلامية أصبحت تعيش فقرا على مستوى التنظير، والآن هي بحاجة إلى مركز تنظيري وإبداع فكري. ”الحركة الإسلامية اكتفت بالوعظ والإرشاد” عدة فلاحي – نائب سابق في المجلس الشعبي الوطني أتفق مع الدكتور بومدين بوزيد، ولكني أنطلق من آخر ما كتبه الدكتور علي حرب، وهو يتساءل عن وهم النخب العربية أو نقد المثقف. يستخلص علي حرب كمفكر حداثي أن النخبة على العموم، وليس الحركة الإسلامية فقط، تعاني الوهم والقطيعة بين المفكر وما هو يومي، وبالتالي وجد أن المجتمع وفي حركيَّته قد تجاوز هذه النخبة. ومن الظلم تحميل الحركة الإسلامية لوحدها هذا الضعف الفكري، لكن لا نعفيها لأنها في الدرك الأسفل من حيث الرصيد النخبوي، وذلك راجع لعدة أسباب. منها أن الحركة الإسلامية اعتمدت طوال تاريخها على النص وعلى ما هو موروث أكثر من اعتمادها على العقل والإبداع، واعتمدت على التراث، ما قلص من ملكة الإبداع لديها، واكتفت بهامش الخطابة عبر المنابر والوعظ والإرشاد دون وضع منظومة فكرية. إن عدد الأقلام في الحركة الإسلامية تعد على الأصابع، وملكة الكتابة محدودة لدى أنصارها، وتعتمد على الخطاب. وهناك عامل آخر هو سيطرة التقليدي، حيث أصبح نتاج الحركة الإسلامية متكونا تكوينا تقليديا أكثر مما هو متكون من منظومة فكرية تمارس النقد. أعتقد أنه يوجد عامل مشترك عبر عنه برهان غليون في كتابه ”اغتيال العقل”، لكن عقل الحركة الإسلامية تعرض للاغتيال من جهة، وتعرض للانتحار بصورة رمزية عندما قدم التسليم والتقليد على الاجتهاد. ”سقطنا في الانغلاق التنظيمي” عبد الرحمان سعيدي رئيس المجلس الشوري لحمس سابقا أعتقد أن الآباء الروحيين للتيارات الإسلامية كانوا ينطلقون من الأسس القارية (المودودي، شكيب أرسلان..إلخ ) المنطلق كان فكريا، لكن بعدها مرت الحركة الإسلامية بثلاث مراحل: مرحلة استعمارية كانت الحركة الإسلامية مع غيرها من الحركات الوطنية في عملية البناء الفكري واستعادة الهوية، وهذه عبارة عن مرحلة البعث الفكري على أساس الحفاظ على هوية الأمة والتطلع لقيم التحرر. ثم جاءت مرحلة بناء الدولة الوطنية، حيث عرفت الحركة الإسلامية مشاركة وصداما اتسم بصراع الأيديولوجية، وكان صراعا في أقصى درجاته وأفرز منتجا فكريا وإبداعا في مخارج الصراع. أما ما تعيشه اليوم من هدوء فكري، فهو ظاهرة جديدة. لكن المتفق عليه هو أن الواقع يوجد به ضحالة فكرية وتراجع رهيب للمنسوب الفكري، لأن إرهاصات الواقع والممارسة والتنافس السياسي نتج عنه اليوم غياب منتج فكري لدى الجميع، بما في ذلك الحركة الإسلامية التي سقطت مثل باقي التنظيمات في الممارسة وفي الانغلاق التنظيمي، فلم تعد تنتج فكرا ولا إبداعا. والآن هي بحاجة إلى مركز تنظير فكري وإبداع، وبحاجة إلى نخبة وتفكير عميق وإحداث مراجعات. بومدين بوزيد: هناك ميراث قديم ورثناه من الحركة الوطنية ويتمثل في عدم الثقة في المثقف. فالفاعل السياسي لا يثق في المفكر. وهذا الفاعل السياسي بمجرد أن يتحول إلى زعيم يدعي أنه هو المنظر. وهذا ما نجده في الحركة الإسلامية عندنا. إن مفهوم المثقف العضوي لدى الحركة الإسلامية لا يوجد. هناك المثقف الحركي، الرسالي (مثال سيد قطب)، وهناك علاقة عداوة تجاه المثقف ورثتها الحركة الإسلامية. كما يعبر تاريخنا ظاهرة عدم الاستماع للنموذج المحلي والسعي وراء النموذج المشرقي على حساب المغرب. هناك من يستوعب كتاب ”معالم على الطريق” أكثر من استيعابه لمالك بن نبي. أعتقد أن الحركة الإسلامية في الجزائر تعيش حاليا على وقع النموذج المصري، وليس على وقع النموذج التركي الأكثر عقلانية وميلا للمراجعة. عدة فلاحي: تكملة لما قاله بوزيد بومدين، فيما يخص القطيعة بين السياسي والمثقف، أرى أنه لا يمكن الحكم عليها بالمطلق، إن مرحلة بن بلة مثلا مرورا بمرحلة بومدين تميزت بالاستعانة ببعض الرموز الثقافية كمصطفى الأشرف، أحمد توفيق المدني، وعبد الله شريط، ومولود قاسم. لم تكن هناك قطيعة على المطلق بل كانت هناك انتقائية. أما مرحلة الشاذلي بن جديد، وما بعده فلم يعد للمثقف وجود بتلك الدرجة. لم ينتج مثقف يمكن أن يقلص من فجوة الصدام بينه وبين السلطة. لقد تعامل مع السلطة لكن كان له هامش من الكرامة. إن السلطة تتعامل مع المثقف بانتقائية، وهو من يتحمل مسؤولية ذلك أكثر مما تتحمله السلطة نفسها. ”الحركة الإسلامية تحمل في طياتها نفيا واضحا للفكر”عبد القادر جمعة -إعلامي إن الوضع السياسي في فترة بناء الدولة الوطنية جعلت الإسلاميين في مواجهة مع السلطة وانصب اهتمامهم على الصراع، فلم يكن لقادة الحركة الوقت الكافي للاهتمام بالإنتاج الفكري، وهذا لا يعود فقط للوضعية السرية التي كانت تمر بها الحركات الإسلامية (علما أن الحركة اليسارية أبدعت وهي في السرية) السرية إذن لا تبرر تراجع الاهتمام بالفكر والإبداع. الحركة الإسلامية في طبيعتها وخلفياتها الفكرية تحمل في طياتها نفيا واضحا للفكر. وهناك عوامل عديدة ساهمت في نفي وإقصاء الإبداع الفكري والثقافي لديها، وهي حركة لا تنتج نموذج المثقف العضوي والنقدي، ولا تنتج نخبة ناقدة للواقع. بومدين بوزيد: تتمثل القضية الأساسية التي تشغل الحركة الإسلامية اليوم في كيف تصل إلى إنتاج المواطن. لكن هذا لا يعني أن الحركة الإسلامية لا يوجد لديها مثقفون، نحن نتحدث عن المثقف النقدي الموجه والناقد، وهذه ظاهرة عامة، فالدولة الجزائرية لا تملك نخبتها، كما أن المثقف غالبا ما يُقهر بالمنصب، أو يوجد في حالة انتظار المنصب. إن الحركة الإسلامية في الجزائر، والإخوانية منها بالخصوص، ورغم قيامها بعدة مراجعات، لم تتوصل بعدُ إلى إدراك مفهوم ”الجغرافيا السياسية للدولة”، والذي يؤدي إلى الالتزام بالسياسة الخارجية للدولة الجزائرية، وهذا راجع لعدم وجود نخب نقدية داخل الحركة الإسلامية. وتعاني الحركة الإسلامية من نقص في استيعاب المناهج الغربية الحديثة حتى تملك القدرة على التفكير والتنظير، فهي تنظر للفكر الحديث على أساس أنه مستورد وتغريبي، وبالتالي لها نظرة عدائية تجاه المناهج الحديثة التي تعطيها القدرة على التفكير المنهجي والعلمي الحديث. وتكمن أهمية سيد قطب مثلا في كونه استطاع استيعاب النقد الأدبي الأمريكي (التصوير الفني في القرآن الكريم) ما جعله يقدر على التفكير. إن الانتقاد الذي نوجهه للحركة الإسلامية اليوم هو كونها لا تستمع للنقد، ولا تملك القدرة على استيعاب وتبني التراث الجزائري، ولم تستوعب مسألة الهوية. عدة فلاحي: الحركة الإسلامية عندنا تقوم على مبدأ ”اعتقد ولا تنتقد”، وحان الوقت لكي تدخل النقد في خطابها. والمخرج من هذا المأزق لا يتحقق إلا بواسطة التصالح مع الحركات العلمانية. وحسب اعتقادي، فإن النموذج التركي هو النموذج الأمثل لتحقيق هذه المصالحة بغية الخروج من الدائرة المغلقة التي توجد فيها الحركة الإسلامية حاليا. لا بد من أن يحدث تصالح مع التنوع الثقافي، والانفتاح على قضايا الحداثة، والتخلي عن ظاهرة ”انتصار المشيخة”. ”مراجعات الحركة الإسلامية لم تصل إلى مداها” عبد القادر جمعة: الحركة الإسلامية عبارة عن حركة تتفاعل مع المجتمع، والمراجعات التي تكلم عنها الأستاذ فلاحي بدأت منذ فترة طويلة، فهل أحدثت تغيرا؟ أعتقد أن هذه المراجعات لم تصل إلى مداها، ولم تخلق تجاوزات للصورة النمطية. كما أن القبول بالآخر أصبح من بين سلوكيات الحركة الإسلامية بل أصبح من المسلمات. بومدين بوزيد: لم يبق في الجزائر سوى التيار اليساري الفرانكفوني الذي ينظر إلى الحركة الإسلامية كعدو. عبد الرحمن سعيدي: في السبعينات وخلال مرحلة الصراع مع السلطة، انتشرت ظاهرة ”إما أنا وإما أنت”. كنا نسير وفق منطق التزعم. وأعتقد أن المأساة التي مرت بها الجزائر خلال السنوات الأخيرة جعلت الكثير يغير من رأيه ويقبل بالآخر، وبمراجعة أفكاره ومواقفه. الدكتور إسماعيل مهنانة ”على المثقف الإسلامي أن يعترف بالحق في الاختلاف” يبدو الاختلاف في ”رؤية العالم” بين المثقّف والأيديولوجية الإسلاموية اختلافا جذريّا وحاسما. ولكي نفهم العلاقة بين المثقّف والإسلاموية يجب التساؤل مجددا عن موقف الإسلامويين من نموذج المثقف المتعارف عليه عالميا، وما هو نموذجهم الخاص للمثقف؟ في تشخيص أولي سنجد أن الإسلامويين في الجزائر وفي كل أنحاء العالم لا يعترفون أصلا بالمثقف المدافع عن القيم العالمية كالحرية والكرامة والحق المطلق في الاختلاف، ويعتبرونه صورة مشوهة لنمط المثقف الغربي أو ظلا له وتابعا إيديولوجيا له. في مقابل ذلك يعترف هؤلاء اعترافا مطلقا بنموذج ”العالم” (عالم الدين المتفقّه) ويرفضون نهائيا مساءلته أو تعريضه للنقد والشكّ، بل هو سلطة فكرية وأيديولوجية مطلقة. إن أحد أهم هواجس الأيديولوجية الإسلامية هي مسألة الخصوصية، أي خصوصية الإسلام في كل شيء وتفرّده برؤية للعالم تختلف اختلافا جذريا عن الرؤية العالمية المعاصرة التي يعتبرونها ”رؤية غربية”، بل استعمارية. وهو منطق يصعب تذويبه. ومن هنا فالإسلاميون حتى وإن بحثوا عن نموذج للمثقف، يجب أن تتوفر فيه شرط الخصوصية الإسلامية قبل أن يحظى باعترافهم. لا يملك المثقّف الكوني المعاصر أية رؤية مكتملة للعالم والتاريخ والإنسان والمجتمع، ولهذا فهو ينطلق دوما من سمة اللااكتمال والنقص الأصلي للتجربة الإنسانية، والذي يجعلها منفتحة على إمكانات إبداعية ثرية ومتجددة. لكنه يعتبر قيما مثل الحرية والكرامة والحق في الاختلاف قيما إنسانية وكونية لا يمكن التنازل عنها تحت أية ذريعة ولو كان المقدّس نفسه. في مقابل ذلك قد تقبل الأيديولوجية الإسلامية الدفاع عن هذه القيم، لكن بشرط ألا تتعارض مع النص الديني أو الشريعة، ولهذا فغالبا ما يسقط الإسلاموي إما في نزعة تبريرية ترفض هذا التعارض وتعتبر الإسلام حاملا لكل هذه القيم وأكثر، وإمّا في شجب هذه القيم نفسها بوصفها قيما غربية حاملة لأيديولوجية علمانية. وهو ما يعتبره المثقف نفاقا وازدواجية. الدكتور اليامين بن تومي ”الحركة الإسلامية لم تؤسس لنخبة مفكرة” قبل تشريح وضعية الخطاب السياسي الإسلامي، علينا أولا أن نطرح مسألة النخب السياسية الإسلامية في الجزائر؟ ما معنى النخب السياسية الإسلامية وما وظيفتها؟ وهل فعلا ما يزال سقف هذه الحركات قابلا لأن نفكر معه أو ضده؟ أم أن دوره احتبس نتيجة انتشار العطالة الفكرية ونزوع هذه الحركات نحو التقليد بدل الإبداع؟ حيث نأخذ عليها إغراقها المريع في تمطيط اللغة والأفكار، وتفكيرها في وضعيات بنيوية خارج التاريخ. فما يُمارس اليوم من طرف الإسلاميين على أنه خطاب سياسي لا يعكس رؤية تطورية للخطاب الإسلامي، بقدر ما يعكس رؤية قروسطية ما تزال تتشبث بمفاهيم واصطلاحيات تقليدية وباهتة من مثل مفهوم الخلافة والدولة الإسلامية، وهذا يعبر عن القلق المفاهيمي والتصوري للمشروع الحركي لممارسي الفعل السياسي الإسلامي الذين يغلب عليهم منظور العقل البياني، والذي يجتر مفاهيم وتصورات العالمية الإسلامية الأولى التي استطاعت أن تجد لها مكانا في العالم القديم، من خلال اختراق كامل للتصور التقليدي، لكن الحركات الإسلامية المعاصرة هشة وباهتة، من جهة التنظير يغلب عليها تغليب الخطاب الشعبوي والجماهيري، ولم تستطع أن تُؤسس لنخبة مفكرة تحاول أن تَعبُر بالخطاب الإسلامي ليتناسق ويتجاوز فرضيات الانهيار والعجز والعطالة... ففي الجزائر نجد احتباسا رهيبا لدور هذه النخب المجوفة التي تتكئُ على مخزون ميت ومُصادر في لغة ما عادت لها الكفاءة لتخاطب الجماهير. إن الأمر يفرض علينا مراجعة جذرية في جدوى هذه الحركات التي ساهمت في تأزيم الفعل السياسي وانخرطت في تعميق الفجوة، وجعلت من الدين جسرا لتمرير البلاهة والجهل المقدس، وهذا ليس كلاما بقدر ما تعكسه الانهيارات المتتالية لتأثير الحركات الإسلامية في الشارع، وتحولت إلى مجرد لاعب فاقد للوعي، بل فاقد للتفكير باعتباره قوة نقدية. إن النقد السياسي وحده من يمكنه أن يجعل هذه الحركات تراجع فعلها في التاريخ وتجدد في ممكنها، لكنها الآن وكما تتبدى لنا نجدها فاقدة للبوصلة النقدية وخارج المساءلة التفكرية، بقدر ما هي حركات تعج بالأصوات التي تنبُئ عن أفواه تتحرك لا عقول تفكر. وهذا كله ناتج عن غياب مشروع فكري حقيقي.