مثلما وعدني كان وفيا ودقيقا في مواعيده، فليس سهلا في الوقت الراهن أن تجد شخصا ينتظر ضيفه على قارعة آخر الشارع بعكازه، إلا إذا كان من طينة المجاهد العقيد محمد الصالح يحياوي.. رجل جاوز عمره الثمانين، بينما لم تفارق الابتسامة محياه، يحدق في عينيك حينما يتحدث إليك، بل يجبرك على التحديق في عينيه كما هي عادة الجيل الأول المرافق للراحل هواري بومدين.. رجل أنيق في مظهره وفي حديثه وفي دعابته، وفي الحزن المرسوم على ملامحه أيضا، حينما يتذكر خيانة المقربين، وأذية الأصدقاء، وغدر الزمان .. بادرت مستقبلي بالسؤال عن صحته، فحدثني طويلا عن معاناته مع جسده النحيف، منذ أيام الاستقلال الأولى التي استقبلها بإصابة بالغة في ساقه، إلى مرض السكر الذي يتعايش معه منذ حادثة الزربية المشؤومة (..) وما رافقها من أذية الأصدقاء، وخيانة الرفاق، إلى كميات هائلة من المياه المستخرجة من جسمه، في عمليات متتالية داخل الوطن وخارجه، وفي أحد مستشفيات الأردن تحديدا، غير أن ما بدا لي بعد ثلاث ساعات من الجلوس إليه، أن وضعه الصحي مستقر –بفضل من الله- ولديه قدرة كبيرة على الحركة والتنقل داخل البيت وخارجه، بل لا يظهر أنه في حاجة إلى أحد في حياته اليومية، بدليل وجوده وحيدا في بيت واسع، أكثر ما فيه كتب .. وهو مرتب ومنظم بشكل ملفت! استعجلت ما بداخلي من هواجس وأسئلة، بل لعلها خرجت دون أن تستأذن، في حضرة شخصية لا تعرف حتى من أين يمكن أن تبدأها.. لماذا الاستقالة من الحياة العامة؟ لماذا الانسحاب من المشهد؟ لماذا الغياب عن الأحداث.. في وطن هو في أمس الحاجة الى من صنعوا له الاستقلال؟ .. نعم السؤال صعب .. ولكن ما أقسى الجواب عندما تختصره تنهيدة من قلب موجوع، موجوع من غدر الأقربين، والرفاق الذين كانوا يصطفون دائما مع الأقوى، حتى لو كان الطرف الأضعف هو من صنعهم، فحملوا عليه حملة رجل واحد، وأعادوه إلى بيته في سن العطاء، بل في سن الإبداع.. أعتقد أنني في هذه تكلمت أكثر من مضيفي الموجوع، الذي بدا لي يريد الخروج عن الموضوع، عندما بدأ يروي لي قصة سعد زغلول.. نعم سعد زغلول، أول رئيس لحزب الوفد المصري! قلت في نفسي .. "أحدثه عن الرفاق والشقاق والخيانة .. وهو يحدثني عن سعد زغلول !!".. تراجعت قليلا إلى مقعدي ورحت أستمع .. كان سعد زغلول أكثر المصريين الذين حاربوا الانجليز بالمال والمظاهرات، وحتى الدعم المسلح للمناضلين، بل "ضيع" شبابه يربي المصريين على الحرية والاستقلال والكرامة، وقياداتِه على القوة والصمود.. فناله ما ناله من عملاء الانجليز، لكنه ظل يقدم لشعبه ما لم يقدمه سابقوه ولاحقوه في محاربة الاستعمار. لكن في أوج عطائه ونضاله، استطاع الاستعمار الانجليزي أن يؤلب عليه حتى أقرب مناضليه، ناهيك عن عموم الشعب ونخبته، إلى درجة اندلعت فيها مظاهرات صاخبة في شوارع مصر، تطالب برحيل سعد زغلول من الحكومة، لأسباب "تافهة" حقيقة لا مجازا، رغم أنها تتعلق برغيف الخبز وأسعار الفول! إذ كان زغلول يحارب طواحين الاستعمار بأسنانه.. أحبطت معنويات سعد زغلول وخارت قواه، وعاد في يوم إلى بيته على حافة الانهيار، مناديا على زوجته واسمها صفية وهو يقول.. "غطيني يا صفية.. محدش يستاهل !" .. الحقيقة أنني فهمت مقصود الأستاذ محمد الصالح يحياوي من هذه القصة، لكنني كنت أريد أن أسمعها من فمه، وحسنا فعل.. لم يترك الحيرة تجتاحني ليقول: فهمتَ يا بني؟ قلت له: لا! .. قال: لقد حدث لي ما حدث لسعد زغلول! .. "ماكاش لي يستاهل .. لا الأصحاب لا الرفاق لا الأتباع .. كلهم خانوا وبدلوا .. !".
* الكلمة التي قصمت ظهر يحياوي! شعرت حينها أن الرجل يتوجع، ولا يريد أن يضيف شيئا في الموضوع، فبادرت بتغييره، بالحديث عن رفيقه بومدين والعلاقة التي وصلت أوجها قبيل وفاة الرئيس، وكيف استطاع الراحل إقناع يحياوي بالتخلي عن كلية شرشال، ليمسك بزمام الحزب الذي كان جهازا ميتا حينها .. استوعبت شخصية يحياوي في تلك الجلسة، وتيقنت أن الرجل بنى نضاله على مبدأ الحرية، لأنه رفض تولي مسؤولية الحزب إلا بشروط استثنائية، قبلها منه بومدين على مضض، وهي أن ينتهي نهائيا عهد الجهاز، ويبدأ عهد الحزب بكل ما يعنيه من معنى .. حزب لا تملى عليه التعيينات ولا القرارات، ولا تتحكم فيه أجهزة الأمن، ولا يخشى مناضلوه البوليس السياسي، ولا تتحرك الدولة إلا برؤيته وتصوراته ورجالاته، كان يحياوي واضحا مع بومدين: "إذا كنت تنوي الإبقاء على الحزب جهازا، فالأفضل لي البقاء في أكاديمية شرشال لأنها الجهاز الأقوى، وإذا كنت تريده حزبا، فلنترك المناضلين يسترجعون سيادتهم وقرارهم" .. ولا يقتصر الامر على الحزب -حسب يحياوي- بل لعل الاحادية والمركزية في التسيير واحدة من أمراض الدولة الجديدة التي بناها بومدين، مطالبا الرئيس بإفساح المجال لاطارات الدولة، ومنح الولاة صلاحيات أوسع، وتحرير المبادرة في كل القطاعات.. ولعلها الرؤية التي –فعلا- تحرج الرئيس، وفي نفس الوقت تعطيه الحل لكثير من المشاكل التي أتعبت نفسيته.. وقد وصل الامر بيحياوي أن واجه الرئيس في اجتماع عام، ليقول له كلمة لم يسمعها بومدين من أحد: "لسنا ندري سيدي الرئيس لماذا ننفذ أوامرك بدون نقاش، هل لأننا نحبك أم لأننا نخشاك !! ؟".. الكلمة التي دوخت الرئيس بومدين وأغضبته من العقيد، رغم أن بومدين يحسن اللامبالاة والانتقام البارد! .. عندما ينزعج من شخص أو فكرة، لكنه كان عندما يخلو بيحياوي يمازحه بالقول: "هل هؤلاء المحيطون بي يحبونني أم يخافون مني!؟". شكلت هذه الرؤية مشكلة بالنسبة لرئيس قوي الشخصية، لا أحد يجرؤ على مجادلته، لكنه كان فعلا يريد إحداث ثورة في أجهزة الدولة التي ترهلت بفعل الأحادية والمركزية، ووجد في كلام يحياوي الحل، لكنه تعامل معه بحذر، ومع ذلك سلمه الجمل بما حمل، فأصبح يحياوي منسق الحزب، والرجل الثاني في الدولة. أنهى يحياوي زيارة إلى روسيا، عقد خلالها أكبر صفقة سلاح سنة 77، ثم عاد من المطار إلى مقر زيغود يوسف، حيث باشر تسيير "جثة" الحزب الهامدة، التي تحتاج إلى صعق كهربائي يعيد إليها الحياة، ولعل اكبر مشكلة واجهت يحياوي في بداياته منسقا للحزب وغيرت حياته، وربما سببت له بعد ذلك الكثير من المشاكل، هي عندما اقترب المؤتمر الرابع للحزب سنة 78، وجاءه إلى مكتبه رئيس جهاز الاستخبارات المرحوم قاصدي مرباح، يحمل كما هائلا من الملفات، وعندما ارتشف قهوته قال مرباح ليحياوي: "هذه ملفات المناضلين الذين لديكم في الحزب، يجب أن نجلس لننظفها ونرتبها، ونحصر قائمة القيادات والمسؤوليات في الحزب! " .. وما كاد مرباح يكمل كلامه حتى انتفض العقيد من مقعده، وقام واقفا في وجه مسؤول أقوى جهاز يعتمد عليه بومدين في تسيير دواليب الدولة .. قال يحياوي لمرباح غاضبا: "أرواح أقعد هنا في بلاصتي خير .. يا سي مرباح لو جات الدنيا دنيا الحزب هو لي يعينك ويحاسبك ويعاقبك مش العكس" .. كانت هذه الجملة بمثابة الرصاصة المستبيحة لكرامة زعيم الاستخبارات، من رجل بدت له طموحات جارفة في إصلاح الوضع، وإعادة الاعتبار للحزب على حساب جهاز المخابرات .. لملم مرباح كرامته المبعثرة في مكتب يحياوي، ورحل الى غير رجعة إلى مقر الحزب، ووصل الخبر إلى بومدين، والذي نقل له الخبر نقل عنه أنه ابتسم عندما بلغه ما تعرض له مرباح على يديى يحياوي في مكتبه، ولم ينطق بكلمة واحدة. ما فُهم على انه تعاطف واضح من بومدين مع يحياوي. لكن العقيد تأكد بعدها أنها الشرارة التي سببت له كل المشاكل بعد ذلك، وجعلت خصومه يتكتلون حول الشاذلي بن جديد لخلافة الرئيس بومدين، ويستفيدون حتى من دعم ضباط فرنسا ليحرسوا هذا المارد، ويمنعوه من أن يكبر أو يتمدد، أو يفكر -مجرد التفكير- بأن يبقى على قيد الحياة .. السياسية! بينما كان العقيد يتحدث، جالت بخاطري صورة الراحل عبد الحميد مهري، وما حدث في مؤامرة 96، عندما أراد هو الآخر أن يعيد كرة العقيد مع نفس الجهاز، فحصل له ما حصل لرفيقه .. ما جعلني أرحل بعيدا بذاكرتي إلى جذور الصراع الحقيقي في الجزائر!