يقاس تقدم الأمم والشعوب بمدى تقدم مناهجها التعليمية، خاصةً مع استمرارية التقدم التقني والعلمي المتسارع في العالم، وأعظم استثمار اليوم هو الاستثمار في الإنسان، التنمية البشرية المُستدامة، وخاصة الجيل الجديد بدءًا من المرحلة التمهيدية الدنيا وصولاً إلى العُليا، ثم الجامعة، وذلك من خلال مواءمة النظرية مع التطبيق، لأن عملية تطوير المناهج يجب أن تبقى مستمرة ومتواصلة، وسيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال:" علموا أولادكم على غير شاكلتكم فإنهم مخلوقون لزمانٍ غير زمانكم""، وهذا يؤكد أن لكل مرحلة من العمر مناهج علمية يجب أن تتناسب مع أفراد المجتمع والواقع المعُاش، وكذلك يجب أن تنسجم مع رؤية ورسالة الإصلاح التربوي في فلسطين المنبثقة من ضروريات الحاجة، مع مُلامسة الحاجة للواقع الفلسطيني، على اعتبار أن البيئة الفلسطينية بمكوناتها هي حاضنة عملية التغيير، وبناء عليه فإن "المسؤولية الوطنية والتربوية تحتم علينا العمل تجاه الطلبة بما يحقق الغايات والأهداف التي وضع من أجلها المنهاج لنتجاوز إخفاقات المنهاج القديم، وما اعتراه من خلل، لنخرج من قيود التلقين إلى تنمية التفكير بأنماطه المختلفة والمتعددة، إذ استوجب ذلك تغييرا حقيقيا في طرق عرض المادة على الطلبة بما يحاكي حاجاتهم وميولهم وخصائصهم وسماتهم الشخصية، على أن يكون منحى منهج الأنشطة أكثر ملاءمة من المنهاج القديم. ومن المعلوم أن المنهاج الجديد أُعد ليقلل من كلام المعلم داخل الغرفة الصفية، حيث لا يزيد كلام المعلم عن 22% من مضمون الحصة المدرسة، وعلى أن يأخذ الطالب حقه في الحديث والتعبير والمشاركة، وتوظيف التكنولوجيا داخل المادة، بحيث يتم الاعتماد عليها في بعض المواد، ولكن شتان بين الكلام النظري وبين التطبيق العملي!، فعلى الرغم من الجوانب الإيجابية الكثيرة التي لا ننكرها في المنهاج الفلسطيني الجديد بشكل عام، ولكنهُ لا يخلو من الكثير من الاختلالات، ونحنُ كمُطلعين وخبراء وكأستاذ الفلسفة، في مناهج وطرائق التدريس، وتطوير المناهج التربوية، ومشرف تربوي، وأمين سر سابق للمجلس الأعلى لأولياء الأمور، وأوجه بعض النقد البناء والملحوظات المهمة علي المنهاج الجديد بعد مرور فصل دراسي عليه، فعلى سبيل المثال لا الحصر، في القسم الأدبي للمرحلة الثانوية الطلبة كثيراً ما يشتكون من طول المواد الدراسية، وغياب التطبيقات العملية وصعوبتها كبعض المواد مثل مساق التكنولوجيا لعدم توافر العدد المناسب من أجهزة الحاسوب، ولِصعوبة المنهاج وخاصة أيضاً مادة مساق العلوم، وكذلك الرياضيات، والتاريخ، والتكنولوجيا، وكذلك وجود بعض المُعلمين غير المؤهلين جيداً للمنهاج الجديد، والذي أسرف واضعوه وظلموا أنفُسهِم والطلبة والمُعلمون، حينما ركزوا جُلّ اهتمامهمِ ليكون الطالب صُلب ومحور عملية التحليل للدرس، وتجاهلوا جوانب مهارية أخرى أكثر أهمية، مع وجود أخطاء واضحة في المنهاج خاصة في مادة التاريخ للمرحلة الثانوية العامة. كما أن الكم في المنهاج أحياناً يطغى على الكيف في بعض المراحل التعليمية!، مما يجعل المعلم عاجزاً عن إعطاء المادة حقها من الشرح والتطبيقات العملية. ورغم ما سبق، فلن تغفوُ عيني أيضاً عن الجوانب الإيجابية للمنهاج، لأن فيهِ جانب كبير من التطوير والجودة والقوة، والإطار العام للمناهج الجديدة تُراعي بشكل ما البُعد الوطني، والتحرري، والديني، والمعرفي، والثقافي، بما يتماشى مع الحالة الفلسطينية، ولكن المنهاج الجديد لا يزال يحتاج للكثير من التطوير والتحسين والجودة، فمن النقد الموجه للمنهاج الجديد أن التحليل لمحتوي الدرس فيه زاد عن الحد المطلوب لمستوى الطلاب!، فلم يراعي مثلاً الفروق الفردية بين الطُلاب؛ ومن الجوانب السلبية في المنهاج الجديد، والتي تلمسها بعض الأهالي والمربين والمعلمين، والخبراء، والإدارة المدرسية.. إلخ. مشاكل خطيرة، فمثلا مادة "القضايا المعاصرة"، التي تدرس لطلاب التوجيهي تحتوي على ثلاث مواضيع تحتوي على موضوعات لم يوفق واضعوها بالمُطلق، ومثال ذلك: يوضح مساق قضايا معاصرة في بعض موضوعاتهِ تجربة الولاياتالمتحدةالأمريكية، وكأن أمريكا ما شاء الله عنها على رأسها ريشة وهي أمُ البلايا، والرزايا!، وكان الأفضل أن يذكر المنهاج تجربة الرعيل الأول من السيرة النبوية وسيرة النبلاء العرب والصحابة الكرام، أو يذكر تجربة التعليم في اليابان مثلاً أو تجربة السويد في التعليم! وتكلم المنهاج الحديث في مساق قضايا معاصرة أيضاً عن حق المرأة، وحقوق الإنسان، وهي قضايا فاضت بها أصلاً آيات القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، فكان أولى لك فأولي أن تأخذ التجربة من كتاب ربك القرآن الكريم، لا من كتاب عدوك!، لكننا للأسف نأخذ نموذجاً سيئاً وكياناً معادياً لشعبنا وقضيتنا، فأمريكا التي اعترف رئيسها المتصهين ترمب زوراً وبهتاناً بأن القدس الشريف كياناً للمحتل الغاصب!، نذكرها بالمنهاج الحديث بالخير وكأن أمريكا أمام طلابنا مثال مُحترم يُحتذي به!، وذلك حينما يعرض هذا المساق بأن أمريكا نموذج حضاري!، وهي بالأساس دولة مارقة مسُتعمِرة عمرها فقط (240) سنة، قامت على الاستعمار، والاستيطان، والمجازر، وإبادة السكان الأصليين الهنود الحمر؛ وتقف مع الكيان الصهيوني الغاصب قلباً وقالباً، فعرضها بهذه الطريقة الوردية أمر مؤسف، قد يجعل لدى طلابنا إمكانية قبول التطبيع مع كيان الاحتلال الذي أسموه (إسرائيل)، وهو كيان غاصب مُجرم إرهابي. وأما في موضوع حق المرأة، هناك بعض العبارات التي تُسئ للدين الإسلامي، بينما للمرأة بشكل عام مكان عظيم في الإسلام، كما أن موضوع حقوق الإنسان هناك غُّبِنْ في طرح الموضوع من زاوية واحدة، بعيداً عن الدين الإسلامي الذي يعتبر هو أول من نادي بحقوق الإنسان، فجعل الحرية حتي في الدين مكفولة للجميع، فقال تعالى: "( لا إكراه في الدين)، وكذلك زاد المنهاج الجديد من الِعبء على المعلمين والمعلمات، والذين يعتبرون تحت خط الفقر "ففاقد الشيء لا يُعطيه"، لأن رواتبهم متدنية من الحُكومة في ظل الغلاء الفاحش!. ومن سلبيات المنهاج الجديد إلغاء الامتحانات لتلاميذ المرحلة الابتدائية، مما يفقد الهيئة التدريسية القياس والتقويم.. إلخ، وكذلك فإن الكثير من الطلاب يشكون من صعوبة في مساق مادة العلوم الجديد، فهي مادة تحليلية مرهقة، ومكثفة بشكل كبير جداً!؛ ولذلك نجد الطلاب والمعلمين يشكون، وكذلك مادة اللغة الإنجليزية من حيثُ الكم تُعتبر كبيرة جدًا، والمضمون يتكرر من وحدة لأخرى، فهي تشكل عبئا على كثير من الطلاب، وعلى الرغم من دمج نظريات علمية حديثة في المناهج الجديدة تقوم على الفهم بعيداً عن الأساليب التقليدية في أساليب التدريس القائمة على التلقين والحفظ، والتي تعمل على المواءمة بين النظريات الحديثة المدمجة في المنهاج الجديد، ومنها نظرية التعلم العميق، التي تعني إتقان المحتوى الأكاديمي من قبل المُعلم، وتعُلم كيف يتعلم الطالب، وتنمية التفكير النقدي لحل المشكلات، والعمل التعاوني في التعلم داخل الفصل، لكنها صعبة التطبيق في واقعنا الفلسطيني، لظروف كثيرة جداً، ولعدم توفر الإمكانيات ولاكتظاظ الصفوف التي وصلت لخمسين طالبا في الصف الواحد و45 دقيقة مدة الحصة، بما يعني أن كل طالب لو أراد المُشاركة، والتعليم التعاوني فنصيبهُ في الوقت أقل من نصف دقيقة واحدة!، فلا نريد مناهج فيها كلاماً نظرياً، وليس أفعالاً تُطبيقية؛ ولقد اهتم المنهاج الجديد بالرياضة، والموسيقى، والرسم، ولا ضيرْ في ذلك، ولكنهُ أغفل قضية فلسطين التاريخية، والقدس الشريف، فنحن لازلنا نرزح تحت الاحتلال، مما يتطلب منا أن نُقرر مساقاً ُتدريسياً في كل المراحل العمرية في فلسطينالمحتلة، بل إن المنهاج الجديد أغفل قضية أُخرى أكثر أهمية، ألا وهي التربية الأخلاقية، فالتربية سبقت التعليم!، فكان الأولى بمطوري المناهج أن يضعوا مادة ومساقاً يدرس هي مادة "التربية الأخلاقية في الإسلام"، منذ المرحلة الابتدائية يكون المساق نفسهُ مشتركاً مُدمجاً متكاملاً كتابًا واحداً، يجمع مادة اللغة العربية والتربية الإسلامية والتربية الوطنية، تحت مسمي كتاب واحد هو مادة التربية الأخلاقية؛ ولذا نقول لا يزال المنهاج الفلسطيني بحاجة ماسة وكبيرة للتطوير والتجويد والتحسين من جديد وبشكل متوصل ومستدام، لأن المنهاج الجديد الحالي طويل وصعب واعتمد بصورة كبيرة في بعض جوانبهِ على التحليل على حساب إغفال المهارات الأخرى؛ وكانت به مساقات صعبة، وهو يثقل من المسؤولية بشكل كبير على كاهل الطالب وأُسرتهِ المثقلة بالفقر والهموم، وهو ثِقل على كاهل المعلم أيضاً، والذي يحمل هماً ثقيلاً من التحضير للدروس وصولاً للتصحيح وللمتابعة… إلخ، ومن إيصال المعلومات، ويحمل أثقالاً كالجبال عليهم، في مهنة هي مهنة الأنبياء التعليم، ولا أحد يرحم المُربي للأجيال والمربية للأجيال من المعلمين والمعلمات!. العاملون في هذه المهنة العظيمة التي هي شرف لمن عمل بها لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول:" بعثني ربي مُعلماً"، أو" بّعُثُت معلماً"، لذا فإننا ُنُناشِّدْ معالي وزير التربية والتعليم المُحترم الحالي في فلسطين، أن يعمل على مراجعة شاملة للمنهاج، وأن يستعين في التطوير والتجويد بكل مكونات العملية التعليمية، من الألف إلى الياء، وأن يعتمد بالأساس الأول على المُعلمين المميزين في عملية التطوير والتجويد، وعلى الخبراء وأولياء الأمور المهتمين بالعملية التعليمية، وأن يرتكز أيضاً على آلاف رسائل الماجستير والدكتوراه التي تم مناقشتها من قبل وكُتبت لتطوير المناهج التعليمية، ولكنها للأسف، وضعت تلك الرسائل على رفوف المكتبات في الجامعات، لتبقى حبراً علي ورق، وكماً مُهملاً!. وختاماً إن لم نتقدم في قطاعي التعليم والصحة والبحث العلمي فلن تقوم لنا قائمة "قُضي الأمر الذي فيه تّْستّفْتِياَنْ"، اللهم إني قد بلغتُ، اللهُم فأشهد. الكاتب الأستاذ والمحاضر الجامعي والمحلل السياسي الدكتور/ جمال عبد الناصر محمد عبد الله أبو نحل