أولاً: بداية التنظيمات السرية للإباضية في البصرة: لا نعلم متى بدأ التنظيم السري للدعوة الإباضية، وتشير النصوص إلى بدايته على يد الإمام جابر بن زيد، ولا تتطرق المصادر المتوفرة لدينا عن أيّ دور يذكر لعبد الله ابن إباض في النشاط السري للدعوة الإباضية. لذلك فالإمام جابر بن زيد يعتبر واضعًا للأسس التنظيمية الأولى للدعوة، ومن المحتمل أن الجماعة المعتدلة من المحكمة الأولى لجأت إلى هذا الأسلوب نتيجة لحملات الإبادة للمعارضين للدولة الأموية سواء من الخوارج أو من معارضيهم، وشملت هذا الحملات من كانت سمته الاعتدال، كأبي بلال مرداس، يقول الرقيشي: قد بلغنا أن بلال بن مرداس بن حدير رحمه الله وغيره من أئمة المسلمين لم يكونوا يخرجون إلا بأمر إمامهم جابر بن زيد العُماني ومشورته ويحبون ستره في الحرب لئلا تموت دعوتهم، لقد كان رأس الدعوة في عهد الوالي الأموي عبد الله بن زياد هو جابر بن زيد. ومما يؤكد أنّ جابربن زيد كان المسؤول عن التنظيم السري الإباضي هو النص الذي رواه أبو سفيان عندما اعتقل أحد مشايخ الدعوة الإباضية المسمى أبو سفيان قنبر: وكان شيخًا كبيرًا أخذ وجُلد أربعمائة سوط على أن يدل على أحد المسلمين فلم يفعل، قال جابر بن زيد وكنت قريبًا منه وما كنت انتظر إلّا أنّ يقول هذا هو، فصمها لله”. ومن المعلوم أن جابر بن زيد كان من الشخصيات العلمية البارزة آنذاك ليس لدى الإباضية فقط، بل لدى عامة المسلمين وعلمائهم خاصة. وقد كان للصلابة التي أبداها الدعاة الإباضية في مواجهة السلطة الأموية والحيطة والحذر وبث العيون حول مجالسهم السرية ما مكن التنظيم الإباضي من النمو والاتساع ولم تستطع السلطة الأموية في البصرة أن تضع يدها على أي مجلس من مجالسهم السرية وكان لهذه المجالس رقباء وعيون تحرسها وقد ابتكروا في عهد زياد بن أبيه وابنه عبدالله طرقًا جديدة في التستر والتنكر فكانوا يأتون المجالس أيام زياد وابنه في هيئة النساء في النقاب وغير ذلك يتشبهون بالنساء وكان أحدهم ليحمل على ظهره جرة ماء ويحمل حمل متاع كأنه يباع حتى يدخل المجلس. ويظهر هذا النص المدى البعيد، الذي اتجه الدعاة الإباضية للتستر على مجالسهم ويعكس في نفس الظروف القاسية والبطش الشديد الذي الجأهم إلى التنكر بهذه الصورة للحفاظ على دعوتهم بعيداً عن أعين الرقباء. وقامت سياسة جابر على اللجوء إلى جميع الوسائل لضمان حركته وسلامة اتباعه حتى أنه ذهب إلى حد الأمر بقتل شخص يدعى خردلة أبلغ السلطان الأموي عن أسماء أفراد الحركة الإباضية في البصرة وجعل يطعن فيهم ويدلّ على عوراتهم ويفضح أسرارهم مما أدّى إلى قتل بعض أتباع الحركة على يد مؤيدي السلطة، وسمح الإمام جابر لأتباعه بدفع الرشوة وقال: لم يبق شيء أنفع لنا في هذا العهد -عهد عبد الله -إلّا الرشوة. وكان جابر بن زيد وثيق الصلة بالحركة منذ وقت مبكر وأصبح زعيمها وإمامها وكان له دور كبير في تنظيم الحركة وتطورها وتأسيس النظام السري في الدعوة الإباضية في البصرة في العقد السادس من القرن الأول الهجري. ثانياً: علاقة الإمام جابر بالحَجاج: تجنب الإمام جابر أي احتكاك مع السلطة، ولم يؤثر عنه أنّه تعرض لأذىً قبل تولي الحجاج للسلطة في العراق على الرغم من أنّ بعض أصحابه قد لقى عنتاً كبيراً على أيدي الولاة منذ أيام زياد.وتشير المصادر الإباضية إلى أن العلاقة بين جابر بن زيد والحجاج كانت في البداية ودية وكان جابر يزور الحجاج ويتزود عليه حتى بعد أن نقل الحجاج مقره إلى مدينة واسط وكان ليزيد بن أبي مسلم، كاتب الحجاج، دور ملموس في هذه العلاقة لأنه كان صديقاً حميماً لجابر. وليس لدينا ما يفسر هذه العلاقة بين الرجلين “جابر ويزيد”، ومن المحتمل أن يزيد بن أبي مسلم كان واسع الأفق بحب العلماء ويعطف عليهم حتى وإن اختلف معهم في الرأي وكان في علاقته مع جابر مدفوعًا بهذه النظرة تجاه العلماء وشفاعته للشعبي دليل آخر على تقديره للعلماء، وحرصه على عدم تعرضهم للأذى والاضطهاد. وعلى أية حال، فإنّ علاقة جابر بالحَجاج بقيت لفترة من الوقت جيدة، وفرض الحجاج له عطاء مقداره 600 أو 700 درهم.وقد أراد الحجاج أن يوليه القضاء، فرفض متذرعًا بعدم قدرته على حمل أعباء هذا المنصب وقال: إني أضعف من ذلك، قال الحجاج: وما بلغ ضعفك؟ قال: يقع بين المرأة وخادمها شر فما أحسن أن أصلح بينهما، قال: إنّ هذا لهو الضعف.وفي هذه الرواية دلالة على أنّ جابرا كان يريد إخفاء مقدرته وإبداء ضعفه للوالي حتى يبعد الشبهات عنه، وحتى لا يخطر ببال الوالي أن رجلاً بلغ هذه الدرجة من الضعف يمكنه أن يقوم بتأسيس حركة سرية مناوئة للدولة الأموية. ثالثاً: ثورة أزد عُمان ضد الأمويين: ثار أزد عُمان بزعامة سعيد وسليمان أولاد عباد الجلندي، وأرسل الحجاج حملات عدة لقمع الثورة باءت جميعها بالفشل. وفي تلك الأثناء قامت ثورة ابن الأشعث، وبعد القضاء على ثورة ابن الأشعث، وجه الحجاج جيشًا كبيرًا إلى عُمان بقيادة القاسم المزني، لكن الأزد بقيادة الأخوين سعيد وسليمان، تمكنوا من دحر هذه الحملة وقتل قائدها، وعندما وصلت أنباء فشل الحملة وقتل قائدها إلى الحجاج غضب كثيرًا، وقرر الانتقام من الأزد في العراق ومن بينهم جابر بن زيد، فوضعهم تحت مراقبة شديدة، وحذرهم من أيّ اتصال مع إخوانهم في عُمان، وكتب إلى عبد الملك بن مروان في الشام بخبره بتضييقه على أزد العراق وأنّه أقعد وجود الأزد الذين كانوا في البصرة عن النصرة لسليمان بن عباد وأرسل الحجاج جيوشًا إلى عُمان واستطاعت جيوشه هزيمة الأخوين سعيد وسليمان ومن معهما من الأزد ونكّل بالأزد وأوقع فيهم الذل والهوان، مما كان له أبعد الأثر في موقف أزد العراق، حلفاء الإباضية الذين يتزعمهم جابر الأزدي واعتبروا الحجاج مسؤولاً عمّا يحدث فسخطوا عليه، وتمنّوا زوال حكمه. رابعاً: الإباضية والابتعاد عن الحكّام : غدت الحركة الإباضية بقيادة أبي عبيدة مسلم حركة دينية فكرية، وإن نشاطاتها في البصرة كانت ثقافية بالدرجة الأولى، وكان نهج أبي عبيدة أن يثقف الأعضاء وأن يعلمهم العقيدة الإباضية، وأن يكون له العدد الأكبر الممكن من مختلف أقاليم البلدان الإسلامية لكي ينشئ إمامة عالمية شاملة كل العالم الإسلامي، ولكي يقوم بنشاطه في البصرة، فقد انقطع أبو عبيدة كليًا عن الحكام “الولاة” ليبقى سليمًا، وكانت سياسته في هذه الناحية مناقضة لسياسة سلفه جابر بن عبد الله، ولقد أوصى أتباعه بأن لا تكون لهم أية علاقة مع الحكام. وقد روى عبد الله بن عبد العزيز أحد طلاب أبي عبيدة أن أحد العمّال “الحكام”، قال لعضو إباضي: دعني أسجل اسمك في الديوان، واقتسم معك مرتبك، شقيقي سيكفيك مشكلة البيعة، وأنت تأخذ المال للحال. هنا قال عبد الله: ذهبت إلى أبي عبيدة أسأله عن رأيه بهذا العرض فقال: لا تذهب إليهم ولا تكن قريبًا منهم، لاخير لك في ذلك. إذًا، كان موقف أبي عبيدة حاسمًا في الابتعاد عن الحكام، وكان الاستثناء في ذلك هو عمر بن عبد العزيز الذي أرسل إليه وفداً باسم الحركة الإباضية. خامساً: الحكومة الثورية السرية: أخذت الدعوة الإباضية في عهد الإمام الإباضي أبي عبيدة مسلم بن أبي كريمة في الانتشار والتوسع في عدد من الأمصار الإسلامية، فقد توجه الدعاة إلى اليمن وعُمان والمغرب، واستطاعوا نشر الدعوة الإباضية في هذه الأقاليم. وكانت الجماعات الإباضية خارج البصرة تواجه في بعض الأحيان بعض المشاكل الطارئة، ولا بد لحل هذه المشاكل من الرجوع إلى أئمة البصرة ومشايخها. ومن هنا فقد برزت الحاجة لإيجاد نوع من التنظيم يتولى الإشراف على كل هذه الأمور ويضمن للدعوة استمرارها وتطورها ويهيئ لها سبل النجاح والنصر، ولتحقيق ذلك أنشأ أبو عبيدة في البصرة ما يمكن أن نسميه بالحكومة الثورية السرية، وكان هو زعيمها، وله الكلمة العليا في الشؤون الدينية من فتوى وقضاء وتدريب الدعاة وحملة العلم الذين يرسلون إلى الأمصار، وأنشأ بيت مال خاص بجماعة الإباضية في البصرة. كما أوكل للحاجب الطائي مهمة الإشراف على الشؤون الماليّة والعسكريّة ووضعها في يده كرجل واحد قدير، وذلك لأن موارد بيت مال الحركة كانت تستخدم لمساعدة الدعاة والثوار الإباضية في المناطق البعيدة، وكانت موارد بيت المال تأتي من مصدرين، هما: أ. المورد الأول: عبارة عن ضريبة فرضها الإمام على أتباعه في البصرة. ب. المورد الثاني، فكان يأتي من التبرعات السخية التي يدفعها أثرياء الإباضية.ومن هؤلاء التجار نذكر على سبيل المثال النظر بن ميمون وأبو عبيدة عبد الله بن القاسم والفضل بن جندب وغيرهم. استطاع أبو عبيدة مع فريق عمله أن يحافظ على سياسة الكتمان وكان أبو عبيدة هو القائد أو الإمام وهو المسؤول عن الشؤون الدينية وعن السياسة العامة للمجموعة كلها وكان يستشار من قبل الإباضيين في جميع البلدان الإسلامية بخصوص مشاكلهم ومخططاتهم، وفي اليمن لم يعلن عبد الله بن يحيى الإمامة حتى نال موافقة أبي عبيدة.وكان هنالك عددٌ من الشيوخ البارزين الذين يلعبون دورًا هامًا إلى جانب أبي عبيدة في مهمته، وبين هؤلاء: أبو مودود حاجب الطائي، حيان الأعرج، أبو نوح صالح بن نوح الدّهان، ضمام بن السائب. لقد استطاع أبو عبيدة من خلال حكومته السرية وأعوانه والمخلصين من علماء الحركة وتجارها وقادتها أن ينفذ سياسته بنجاح، وتمكن من إنشاء دولتين إباضيتين كانتا خطرًا حقيقيًا على الأمويين ثم على العباسيين من بعدهم في شبه الجزيرة العربية وفي شمال افريقيا المصادر والمراجع:
1. علي محمد الصلابي، الإباضية مدرسة إسلامية بعيدة عن الخوارج، 2018/2019. 2. أحمد سعيد الشماخي، السِير، سلطنة عمان، تح أحمد بن سعود السيباني، وزارة التراث القومي والثقافة، 1407ه.ص 93 3. مهدي طالب هاشم، الحركة الإباضية في الشرق العربي، دار الحكمة لندن، الطبعة الثانية 2013م. ص (64، 66). 4. عمرو خليفة النامي، دراسات عن الإباضية، دار الغرب الإسلامي، تونس، ط2 2012.ص (86، 87)، ص (106، 107، 109). 5. عوض محمد خلفان، نشأة الحركة الإباضية، دار الحكمة لندن الطبعة الثانية. ص (140،141،142،162). 6. أحمد سعيد الشماخي، السِير، سلطنة عمان، تح أحمد بن سعود السيباني، وزارة التراث القومي والثقافة، 1407ه.ص (74، 75، 93) 7. أبو عبد الله سالم بن حمد الحارتي، العقود الفقهية في أصول الإباضية.ص (100، 101). 8. عبد الرحمن بن خلدون، تاريخ ابن خلدون، بيروت، مؤسسة الأعظمي للمطبوعات.(4/403). 9. البلاذري، أنساب الأشراف، تح سهيل زكار، رياض زركلي بيروت، دار الفكر، الطبعة الأولى 1996م. (318، 320).