أدركت أن الفهم الخاطئ للدين وتشويه صورته وراء الظاهرة رمزية المرجعية وأرضية اقتلاع جذور الإرهاب والتطرف بإلقاء نظرة سريعة على الجهود الدولية المرتبطة بمكافحة ظاهرة الإرهاب، سواء في صورها القانونية والاتفاقية الجماعية والميدانية الانفرادية، يلاحظ أن جل هذه الجهود تأتي وتنصب على الحادث الإرهابي، وحتى تلك الجهود الضئيلة المرتبطة بالمعالجة الوقائية غالبا ما تقارب الظاهرة أمنيا، وهذا ليس بغريب ذلك أن هول وجسامة الأعمال الإرهابية التي أضحت فضاءاتها ومظاهرها تتطور بشكل يتوازى والتطورات التكنولوجية المدنية والعسكرية غالبا ما تجعل صناع القرار يطرحون أسئلة أضحت عادية وتتكرر باستمرار عقب الأحداث الإرهابية، تنصب وتركز بالأساس على من قام بالفعل؟ وكيف قام بهذا الفعل؟، في حين يتم إهمال-كيف يتم منع تكرار هذا الفعل ؟ وفي هذا السياق أدركت الجزائر التي اكتوت بنار الارهاب لعشرية من الزمن ، بعد ان دحرت الارهاب وتعافت من هذا المرض الخبيث إلى حد بعيد ان الفهم الخاطئ للدين وتشويه صورة الدين الاسلامي الحنيف من قبل أطراف داخلية وخارجية هو الاساس وراء هذه الظاهرة، وعليه قررت الانتقال الى مرحلة أخرى متقدمة في سياق معالجة الظاهرة من خلال ايجاد الارضية التي تساهم في اقتلاع الظاهرة من جذورها وهذا بالعودة الى المساجد.. فكان قرار بناء المسجد الأعظم، والعودة من خلال رمزيته بالبلاد إلى مرجعتيها الدينية والحضارية التي حررت الأمة وحافظت على كيانها... التطرف الحاضنة الأصلية للإرهاب التطرف هو الحاضنة الأصلية للإرهاب بنوعيه المسلح أو الفكري، لذلك يكون للاعتدال أثره في الابتعاد عن التطرف وعدم الغرق في طوفانه الذي يحجب الرؤيا، فيقع الإنسان في أخطاء هو في غنى عنها لو كان عقله الفيصل في تحليل الأوضاع. والتطرف يتعارض مع العقل وينسجم مع العاطفة المعوجة، لأن العقل الراجح يستطيع التمييز بين الخطأ والصواب وأساس التطرف هو التقليد الفكري والانسياق وراء النظريات دون قناعات فكرية بقدر ما هي اندفاعات عاطفية تؤدي الى الانزلاق في هذا المستنقع، فليس جميع الارهابيين من المسلمين، فالإرهاب المسيحي في القرون الخالية جاء نتيجة الأطماع التوسعية السياسية التي جعلت من الدين طريقا للوصول الى أهدافها الدنيوية، وهذا ينطبق على الإسلام أيضا الذي جعل منه البعض طريقا للوصول الى السلطة والجاه والمال وتحقيق المنافع الخاصة، كما اتخذ الارهاب من القومية طريقا للهيمنة والاستحواذ كما هو حال الألمان وبعض الأحزاب القومية في دول العالم، وكذلك دول عديدة مارست الأرهاب بحق شعوبها وهذه الدول ليست اسلامية دينية بما هي ذات أديان مختلفة او حتى منها العلمانية اليسارية أو اليمينية، لذلك علينا إبعاد الأديان كمعتقدات عن كل ما يمت اليها بصلة لأن الإرهاب هو إرهاب بشري خاضع لموازين الحياة التي لا علاقة لها بالدين وإن اتخذ الدين سترا له لذلك علينا تنزيه الأديان من هذه المفاهيم الخاطئة. والتطرف في اللغة مصدر فعله تطرف، أي أتى الطرف، وطرف الشيء نهايته، وبالتأمل قليلاً في المعنى اللغوي للتطرف، نعرف العلاقة بينه وبين المعنى الاصطلاحي وهو عدم: ''التوسط في الدين''، أي: ''مجاوزة حد الاعتدال في الدين''، وهو معنى اتسعت رقعته في عقول الناس اتساعاً جاوز الحد، فتطرفوا له تطرفاً لا تسوغه عقول الحكماء، وهذا المعنى للتطرف كان يعرف بالتشدد، أو بالغلو في الدين، وجاء ذكره في آيات من القرآن الكريم وأحاديث من سنة النبي محمد عليه الصلاة والسلام، فمن القرآن قوله تعالى: ''قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله غير الحق'' [المائدة: 77]، وقوله تعالى: ''يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق'' [النساء: .''171 ومن السنة قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ''إياكم والغلو في الدين فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين'' رواه أحمد والنسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما، قاله عليه الصلاة والسلام وهو يعلم أصحابه كيف تكون الحصيات التي يرمون بها الجمرات، ومنها قوله عليه الصلاة والسلام: ''إن هذا الدين متين، فأوغلوا فيه برفق'' رواه أحمد عن أنس بن مالك رضي الله عنه. ومما سبق نستنتج ان التطرف كلمة مشتقة من ''الطرف'' أي الناحية، وكلمة ''أتى الطرف'' أي جاوز حد الاعتدال ولم يتوسط. والمنهج القرآني دعا إلى الوسطية والاعتدال. مخاطر الفهم الخاطئ للإسلام هناك اتجاهات تفسر الإسلام على هواها، وتريد أن تشده ناحية اليمين أو ناحية اليسار بتفاسير خاطئة تجعل منه إما دينا جامدا منغلقا لايقوى على مسايرة الزمن، أو لا يرى متغيرات الحياة، وبذلك يشدون الى فهمهم السقيم، والفهم الخاطئ للإسلام يرجع إما الى جهل أصحابه بجوهر تعاليم الدين، أو خداع الناس برفع شعارات دينية لتحقيق أغراض دنيوية، والأمر يحتاج الى كشف زيف هذه التفاسير الباطلة في كلتا الحالتين .. وابراز قيم الإسلام السمحة التي تحض على الرحمة والتراحم والعدل حتى مع الأعداء. وحتى يستطيع الإسلام أن يتجه بخطى ثابتة وحثيثة نحو المستقبل فلابد من الفهم المستنير للإسلام وتعاليمه والكشف عن الوجه الحضاري لهذا الدين الذي تتماشى تعاليمه مع كل زمان ومكان، وبيان قدرته على التطور ومواجهة متغيرات الحياة، وقدرته الذاتية على الصمود أمام كل التحديات.. وتاريخ الإسلام شاهد على ذلك. والاكيد أن الإسلام بريء من جهل أصدقائه، ومن شذوذ من يدعون أنهم يقتلون دفاعا عنه فإن ذلك يمهد السبيل للتغلب على الصعاب والتحديات الأخرى الخارجة والتي تتخد من الفهم الخاطىء للإسلام ذريعة لوسم الإسلام بكل الرذائل. المسجد الأعظم بالجزائر.. إبراز للهوية والتاريخ ووسيلة فعالة لمواجهة التطرف مرت الجزائر بظرف قاسٍ في فترة تسعينيات القرن الماضي الذي بدأ فيه الإرهاب وتنامي وتطور وأخذ أبعادا أخرى، وتمكن من أن يعطل كل شيء في الجزائر حتى فرض عليها حصارا دوليا كبيرا سياسيا واقتصاديا وإعلاميا .. لكن بعد عشرية من الزمن استطاعت الجزائر أن تتعافى منه بشكل كبير، ومثلت الحرب على فلول الإرهاب في الجزائر ومواجهتها الحازمة تجربة غنية وثرية لدى أجهزت الأمن والجيش، وهو ما قلص الإرهاب ونقل الجزائر من مرحلة الدفاع إلى الهجوم على فلوله، وانحصاره في منطقة معينة وبحركة ضعيفة جدا. إن تجربة الجزائر في محاربة الإرهاب مثلت تجربة رائدة وناجحة ومعاصرة فأمكن للجزائر أن تصدر التجربة لكل دول العالم التي تعاني من انتشار هذه الظاهرة، إن تجربة الجزائر في الحد وتقليص الظاهرة الى حد بعيد جعلها تنتقل الى مرحلة أخرى ومتقدمة في سياق معالجة الظاهرة من خلال ايجاد الارضية التي تساهم في اقتلاع الظاهرة من جذورها، وهذا بالعودة الى المساجد. وفي هذا الاطار قرر الرئيس عبد العزيز بوتفليقة ان يكون للجزائر مسجدا يعّد بالفعل صرحا عملاقا واختار ان يكون بالربوة الحمراء بحي المحمدية قبالة خليج عاصمة الجزائر.. المسجد الأعظم، بعد أن ظلّ هذا المشروع يراوح مكانه منذ سبعينيات القرن الماضي، تعمل الحكومة تحت اشراف الرئيس بإنشاء مسجدها الأعظم الذي تراهن على جعله ثالث أكبر مسجد في العالم بعد الحرمين الشريفين في مكةالمكرمة والمدينة المنورة. المشروع من حيث الضخامة والمغزى من إنجازه يتعدى كونه مسجدا تقام فيه الصلاة والعبادة والذكر، حيث يُراد له أن يكون معلما يؤرخ للجزائر المستقلة، ومركزا للنشاط العلمي والفكري وقبلة تكفل النهوض بأدوار متميّزة في سائر مناحي الحياة العامة. وزير الأوقاف بوعبد الله غلام الله قال في وقت سابق : ''المسجد الأعظم سيؤرخ إلى تاريخ البلاد من خلال طوابقه ال,14 حيث يرمز كل طابق إلى حقبة من حقب الجزائر التاريخية''. وسيساهم أيضا مشروع مسجد الجزائر الأعظم في استحداث ديناميكية اقتصادية واجتماعية، عبر إنقاصه لمعدلات البطالة بين أوساط الشباب الجزائري العاطل، إذ يرتقب توفير هذا المجمع الديني نحو ثلاثة آلاف منصب عمل دائم، بجانب الآلاف من فرص العمل خلال فترة تشييده. يشار إلى أن للمسجد مكانة هامة في قلوب المسلمين منذ عهد النبوة، حيث كان مصدر النور والعلم والبصيرة والعزة للإسلام والمسلمين؛ لذا أضافه الله -عز وجل- إليه بقوله:'' وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا'' فأعلى بذلك شأن المساجد، ورفع قدرها، فقد كانت الخيرات التي سطرتها أقلام المؤرخين للإسلام والمسلمين منطلقًا من مهدها ومن بين أروقتها، وكانت لبنتها اجتماعًا في تلك المساجد، وتمسكًا وإيمانًا بدورها، ولما أيقن المسلمون بهذا الدور الريادي للمسجد جنوا ثماره تقدمًا ورفعة فكانت رياضًا رحبة لنشر العلم وتعلم الوحي، ومكانًا فسيحا لأبناء المسلمين يتعلمون فيها أمور دينهم ويحفظون كتاب ربهم، ومنطلقًا لجيل قوي بعزيمته، راسخ بإيمانه، ولا أدل على عظيم مكانة المسجد ومعرفة المسلمين الأوائل أن لا طريق لإعلاء دينهم الذي هو مصدر عزهم، إلا انطلاقا منه، من أن أول ما بدأ به النبي -صلى الله عليه وسلم- عندما حل بأرض الهجرة النبوية بناء المسجد وجعله مصدرًا للدعوة ومنبعًا لها وموردًا للصحابة -رضي الله عنهم- للجلوس معه -عليه الصلاة والسلام- لتعلم أمور دينهم، وعندما رسخت هذه المعاني في قلوبهم -رضي الله عنهم- ساروا عليها بكل ما أوتوا من عزم ويقين بعد وفاته -عليه الصلاة والسلام-، ثم سار المسلمون من بعدهم هذا المسير، وانطلقوا هذا المنطلق، ومن ذلك المكان الطاهر الشريف -المسجد- سجل التاريخ سيرا حافلة لعلماء أجلاء ملأوا الدنيا علما وخلقاوتعليمًا للوحي المطهر، ووصلت الجيوش المنطلقة منه إلى أبعد مداها على اليابس والماء، وذلك عندما استمدوا قوتهم من ارتباطهم بالمسجد، منطلق العبادة والدعوة واليقين، بدءا بإقامة شعيرة الإسلام الأولى، الصلاة وإعلانها فيه،وانتهاء باحتواء جميع أمور الإسلام وهمومه، ، وإبداء الآراء الهادفة لتعزيز روابط التآلف وتوحيد الكلمة ونشر الإسلام والعمل بمقتضاه.، والابتعاد عن التطرف والغلو والتعصب الذي يعتبر الحاضنة الاصلية للارهاب . كما تسجل هذه الخطوة لأصحابها في التاريخ، باعتبارها نقلة نوعية في مكافحة الإرهاب والتطرف والجريمة، من الاقتصار على الحل العسكري الأمني وتعديه إلى فتح جبهات جديدة، مبناها الثقافة والفكر والدين، استخلاصا لدروس الماضي وعبره، وصيانة لمستقبل الجزائر من أن تهزها ريح كريح التسعينات و''بروباغاندا'' شبيهة بجهالات أدعياء الدين ومسيسيه خدمة لأغراض دنيئة ومصالح أجنبية معروفة، كشفها التاريخ والممارسة، فضلا عن إبراز قوي للامتداد الحضاري للجزائر وإظهار لهويتها التي كثيرا ما يحاول البعض تذويبها في محاليل شرقية أو غربية، شمالية أو جنوبية، بدعوى أن لا أصل ولا تاريخ لهذه البلاد.