قلبي يحس بأشياء عديدة ولكن عيناي لا تبصران شيئا، وجسمي يشتهي رقصة، إلا أن رجلاي لا يستطيعان مشيا *، هذا ما يعتريني الساعة ، ولعله قول مقتضب عن رؤيتي للحياة عامة بلا عملية استبطان سفسطائي . ألفيته، في زمن آخر، مقعدا على عربة الإعاقة، يحملق في الجنينة المقفرة التي داهمها الخريف، فانحسر بهاؤها وذبلت نضرتها. كانت عيناه الذاهلتان اللتان ضؤل نورهما، تنزان بقطرات لزجة متباطئة، لربما كانت محاولة منه لتسديد البصر في سنىّ الكهولة المزمنة؛ اقتربت إليه نجيا، ووضعت كفي على ظهر يده المنحوتة بالعروق الناتئة، والمسمرّة كالقهوة المحمصة قليلا، ولما صافحته بيدي فجأة قبض عليها بقوة عارمة، وكأني أضعها بين فكي كماشة ولم يزل حتى أفلتها، كنت مشدوها ومبهوتا، أبصره فاغر الفاه، وكأنه يقول لي: يلزمك نصف قرن من الأخطاء، لتدرك أن قلبي يعيش حياة مغايرة لما هو عليه بدني. كنت أعرف أنه مصاب بداء الزهايمر، بل قد استغرق إلى مراحله القصوى، بحيث لا يمكنه أن يتذكر سبطه البكر، ولو أمضيت العمر كله بتلقينه ذلك، وكنت لا أجد عزاء مصرّحا لحالته الميئوس منها؛ إذ بركب منتفخة، وظهر مملوء بالدمامل المتورمة، وشلل شبه كلي، يكون طعم الحياة بلا حركة موازيا لمفهوم الموت لدى أبي لهب؛ ولم أضع نفسي مكانه أبدا لأستنجد بوسيلة ما، أو أتجسد حالته المزرية تلك. وأذكر أنه قد تغيرت قواه العقلية لما عاد من رحلة الحج رأسا، بعدما تاه في ملايين الحشود المكبرة والمسبحة؛ يقول البعض أن الصدمة كانت قوية عليه أن يرى كل أولئك الأناسي دفعة واحدة؛ فيما رجح بعض المتصوفة في القرية، أنها بركة من عند لله لكي يرحل عن العالم بوزن رضيع ملائكي، خصوصا وقد شاع المثل السائر في ربوع القرية : ''الحج وما بعدو''؟ أو ''ياو اللي حجوا هجّوا''؟ بينما أنا حينما كنت في سني المراهقة، كنت أميل إلى عامل شيطان الشعر، أما الآن فبمقدوري أن أقول أنني أحتاج إلى أن أعيش بقدر ما عاش، لكي أقف على الأمر بجلية مبينة؛ أن أسافر عبر بلديات محافظة بسكرة والمدائن المجاورة مشاركا في عكاظيات الشعر الشعبي، التي اشتهرت في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين، وأن أفلح الأرض على طريقته الغريبة، من تأبير للنخيل وتقليم الكروم، وأن أجد موازنة بين المسحاة في الجنّة وماكينة الكتابة في البيت، مع أني لا أشبه صوريا، إذ كان رجلا طويلا أسمر البشرة، ذو عينين ضيقتين حادتين كالموسى، وأنف أقنى، ومسنون الخدين، وشنب كثيف في قبر الشارب، فيما كانت سيماؤه الخاصة ضحكة صافية، لطالما سافرت بي عبر أزمنة غابرة ومتباينة؛ وعود على ملامحه فإني كنت، ولم أزل، أبصر فيه بطل فلم الرسالة للعقاد، وكيفما أتفق فقد كان بالنسبة لي صنو الفنان عبد الله غيث بنية وملامحا وإيماءات. لم أره يوما مكلوما، أو محزون الخاطر، أبدا كان مرحا، بين جوانحه روح مصقولة كوجه المرآة، ومرآته كانت كنزا للفقراء والبسطاء، خفيف الظل والدم، ولا يمكنك أن تحضر في مجلسه وبك كدر أو لوثة دنيوية تقض مضجعك، ستضحك مكركرا، وتشرق عيناك بدمع بهيج، من صنوف كلامه الهفيف اللّدن كالنسائم المنعشة، وألغازه الساخرة وصفائه المنقرض هذه الأيام. أما بخصوص شعره ، فإني أعجب حقا أين شعره الآن، لقد كتب طيلة ثلاثة عقود أو أكثر، ولكن لا أثر لتلك الورثة العظيمة من الأمثال والحكمة والقصائد، وأعوز ذلك للثقافة الشفهية التي كانت تسود آنذاك، خلا من دفتر يتيم ملغز وعويص تأويله، نظرا لأنه مدون بخط ورش الصعب؛ مع أني أرى أنه أرجع اللغة إلى جوهرها الصوتي كبنية صوتية شفهية، وإن كانت شجاعة تعجب شرذمة ممن يسطوون على جنّات الكلام ويلصقونه بهم صلفا ومفاخرة . لم يسترزق من شعره ألبتة كما ينبغي لشاعر شعبي، بل كان زاهدا وصوفيا في منطقة شهيرة بجهابذة الشعراء الشعبيين، أين تضرب الخيام وتقام المآدب الفخيمة بمناسبة ودون مناسبة على حد سواء، كان يعتبر نظم الشعر من برجوازية البسطاء وإن كان ملتزما بالقضايا المحلية جدا، كالحنين إلى النشأة الأولى، والنخلة، وصحابته، مرورا بالقضايا الإنسانية، كقضية فلسطين، وحرب لبنان، وطبعا حرب التحرير المظفرة، عدا من أمثال تقارب إلى الفلسفة منها إلى الألغاز المعهودة . بيد أنه كان عمليا بوفاء لا معقول لجنّة نخيله السامقة والظليلة، التي استصلحها وغرسها شتلة شتلة من كروم وتين ورمان، فكان يبني بنفسه جدران الطوب الرمادي مطوقا جنته، وكان يصعد أعالي النخل في سنى حياته الأخير قبيل رحلة الحج، ويقوم برعايتها كالأم الرؤوم؛ لا يمكنني أن أنسى أن جنته الشاسعة كانت واحدة من أجمل جنّات القرية الساحرة قاطبة؛ رائحة الأرض الخصبة، رحلات الفراشات البيضاء، هديل اليمام المثقل برائحة أشجار الرمان، صلاته بين أفنان كرمتين دانية القطوف. حينما أقلب حقيبته الجلدية التي تضم شهادات التكريم البالية التي عفا عنها الزمن، أعقد مقارنة بينها وبين جنته اليابسة والخالية الآن، لقد رحل، نعم قد رحل، وأخذ معه كل شيء، مدونته الشعرية والفلسفية التي في علم الغيب، والجنّة التي تكاد تكون أثرا بعد عين؛ وكأنها ضربة لا زب. ما يجعلني الآن أحس بالعزاء بعد أربع سنوات من موته المعلن، أن جدي الشاعر كان ذكيا بألا يعيش أكثر مما عاش فحسب، إنما كانت له خططه الأخرى لعيش حياة ببنية شبه مشلولة وذاكرة لا تبقي ولا تذر شيئا، ولو خيرّ بين البقاء أو الموت، لآثر المكوث حتى حين، ليكتب قصائد لحب الحياة، ليس بالقرطاس والقلم هذه المرة، إنما بطريقة ما سيبتكرها، ويؤسس جنة أجمل من تلك التي في حالة موات، ويمارس الحياة كراقص تانغوا متمرس، إذا ما تعثرت واصل الرقص فحسب؛ فاللغة حجاب ليس إلا، وينبغي بل لا بد أن ننعتق من قيودها وقيود الحياة عامة. ولو أنني كنت، في ذلكم اليوم الخريفي حين ألفيته يحملق نحو المجهول بعينين زائغتين، نخلة لتذكرني فعلا، وحده الله يعلم لربما كان يرجو لو كانت سلالته نخيلا لكان للرؤية معنى عظيم وللعجز قوة واثبة. لا يعوزني إلا أن أهمس في أذنه الآن: لن أنساك أيها العجوز الجميل؛ سر أنت حرّ الآن، حرّ للأبد.. *البشير لهويمل شاعر شعبي من مواليد 1924 بسكرة ، سيدي خالد ، رحل في عام 2006عن عمر يناهز السبعين . *اقتباس من مقطوعة لنفس الشاعر ، والأصل: ''القلب حس بحاجة والعينين ما شفوش ، والجسم شاتي رقصة والرجلين ما عرفوش'' ، وفي رواية أخرى ، ''ما قدروش'' .