الحلقة الأخيرة لن أرهقكم بغناء كلام لا تفهمونه، وسأكتف بتجسيد المعنى ب "القصبة" رفقة زملائي، وبالحركات التعبيرية للراقصة المشهورة وردة، التي عادت إلى الفن سالمة معافاة، رغم أنف الأعداء الجبناء. * هذه التجربة أيها السادة والسيدات مهداة للسيد مدير الثقافة، وإلى كل أحبابه، وعلى رأسهم السيد الكبير. * امتعض السيد الكبير، كما امتعض السادة المديرون، وبعض الأعيان. لكن لا أحد، أظهر ذلك. * استل القصبة من تحت برنسيه. تقدم بضع خطوات، حتى توسط الحلبة. تبعته دائرة نور خافت. التفت إلى زميله القصاب مشيرا إليه. نبدأ. حول هذا الأخير بدوره الإشارة إلى ضارب البندير والطبل. * التهبت الساحة بالتصفيق والصفير. انتظر الهدوء، أغمض عينيه، ثم أطلق العنان لمكنون الصدور... * عياش آآممي3. قد قدر ربي... * ينساب اللحن، خارجا من القصبة حزينا، هادئا، متموجا، زخما، كأنه أنين مكلوم، يتشبث بآخر أنفاسه. * تحاول وردة، بتعابير جسمها المطواع، في رقصات مبتدعة، أن تجسد، الأنفاس في معاني يراها معمر ويحس بها: * أبكي على الحزن الذي لا يجد صدرا يؤويه.. أبكي على الدم الذي لا يجد جرحا ينزفه... أبكي على الطعنة من الخلف... أبكي على الدمعة التي لا تجد عينا تذرفها... أبكي على جمال زوينة الذي ذبح عياش ولدها. أبكي على زوينة وعلى الثلج الذي غمرها... ابكي على الشاعر الذي ندبها وعلى اللحن الذي خلدها. * حزني على الشهيد وما حلم... حزني على الثورة وما أتاها... حزني على الاشتراكية ومن تولاها... حزني على التعاونية وما تم... حزني على عاشق يؤجر من يتغزل بعشيقته. * يا سحابة بلا مطرة... يا شجرة بلا ثمرة... يا نارا بلا جمرة... يا كأسا بلا قطرة... يا جبالا بلا ثورة... لقد مل معمر الحقرة... * آتون... من كل فج آتون... تهب ريح صرصر، من جرجرة آتون، من الأوراس آتون، من كل الجبال آتون... * تعدون وتخلفون أيها المنافقون. * أبكي حزن بحراوية... أبكي جرح وردة... أبكي الحڤرة والظلم... أبكي البحر يبكي "الحراڤ"... أبكي البنوك يفرغها "السراق"... * فتح عينيه، قابله الشباب، يتماوجون مع الإيقاعات المتعاقبة. خشي من تطور حالهم إلى الهيجان، فهم كلهم يعرفون قصته في الولاية التي أبعد منها، وبعضهم انخرط بتحريض منه في حزب العمال. * التفت إلى زملائه، فأعطاهم إشارة التوقف، ثم أطلق في قصبته، نفسا طويلا، في حين ضرب الطبال ضربات سريعة متتالية... وانطلقت الزغاريد تجلجل. * لاحظ السيد الكبير، وهو ينهض للانصراف، آثار الدموع على عيني السيد المدير، فعلق ضاحكا: * "الدم إذا ما حن إيكندر"... هأأأ... هاها. * - السيد الكبير. تصبح على خير. * - لا تنس موعد الطائرة. الساعة السابعة والنصف في المطار. سنوقظك في جميع الحالات. * تولى الأمين العام للولاية وبعض المديرين والأعيان، إسناد السيد الكبير، الذي كما يبدو، على وشك فقدان السيطرة على حركات جسمه، وانتظر زينو نات والسائق خلو الشرفة، ليصطحبا السيد مدير الثقافة إلى منزله، داخل المجمع السكني بالولاية. * فوجئ بسيارة رباعية الدفع وبخلو المنزل، من زوجته، وبرسالة فوق كيس القمامة المليء بالنقود. * قالت فجرية، في رسالتها المقتضبة: إذا بقيت مرهونا لدى هؤلاء الناس، فستسمع بي في قندهار. وداعا يا أمين. فجرية ومريم. * - من فعل ذلك؟ * سأل زينو نات، الذي ظل ينتظر الأوامر، كما هو ظاهر، بينما هو في باطنه مشدود بفضوله الدائم، لمعرة مجريات الأمور. * - كل أعيان الولاية. يقولون إن مفتاح مكتب السيد الكبير، الآن، في جيب السيد مدير الثقافة... لا يعتبرونها رشوة، إنما مرحمة، وهم يتواصون بها. * - زينو أنا داخل للجزائر، الآن، بالسيارة المرحمة، وأنت بسلامتك، تعرف ما يتوجب فعله، أفضل مني... "مول البقرة يوالي هرارها". * - حاضر سيدي المدير. ينبغي أن تصطحب السائق، فأنت... * - مثلا مثلا.. سكران.. لا لم أشرب القدر الذي يسكر.. كنت أجاري السيد الكبير لا غير... السائق يبقى معك.. تصبحان على خير. * جمع بعض ثيابه. أفرغ كيس القمامة في أكثر من حقيبة ساترا إياها بالثياب. حمد الله على أن خزان السيارة مليء. الساعة الرابعة في لوح الرباعية الدفع السوداء. * - باسم الله مجراها ومرساها. * قال وانطلق. * الخاتمة * بانت الطائرة، أولا في السماء، نزلت بعيدا، ثم راحت تقترب شيئا فشيئا، قوي هديرها، لحظات ثم توقف. انفتح بابها الأمامي فكان سلما للصعود والنزول. نزل وزير الصيد البحري وتبعته كوكبة يرتدي أفرادها لباس شبه الجزيرة والخليج. قصد الوفد، بعد أن سلم على السيد الكبير، باقي مستقبليه، المصطفين. * في القاعة الشرفية، بادر معاليه بالقول: * - الإخوة جاؤوا للاصطياد بالطيور. * - بلادكم غنية بالقطا، ما شاء الله. * أفرغ العمال، تحت إشراف رجال الدرك الوطني، متاع الوفد المشكل من خيم وصناديق كثيرة ذات أحجام وأشكال وألوان مختلفة، وتولت سيارات من ذوات الدفع الرباعي، استيعاب الحمولة وأصحابها وانطلقت تثير الغبار. * * باريس 3 أكتوبر 2009