أن تكتب هذا يعني أن تظل على قيد الحياة لساعة أخرى ، إنه نوع من الإغواء الرهيب ، يا مينو . كيف تكون الرواية عالما، ولا أحد في قلبك، فالمرآة لا تكذب ولو أنها بمثابة كنز لأمثالك من الفقراء.؟ الكتابة نزهة ولكنها شاقة جدا جدا يا عزيزي، لذا آليت على نفسي ، على أن أجد طريقة جديدة تعبر بنقاء وبعمق عن أفكارى المضمرة ، والتائهة ، كالسباحة ، أو كالرقص ، أو كتزلج الجليد ، أو الصمت الكليّ أو التشقلب رأسا على عقب ، لأني أعتبره نوعا من العبودية تلك التى نرزح تحتها بسبب الكتابة واللغة. سأتكلم هذا الخميس بأريحية منسابة كخيوط الماء على جرف صخري، إذ لن أجد فرصة بمرمى اليد كمثل هذه التي تسألني فيها، متبرما، وقلقا، وكمية الأندرين مرتفعة لديك، عن الخلطة السحرية لكتابة نص روائي محترم . يوم كنت انتصب بملابسي الفاقعة وأتأمل في استغراق عميق ، إلى زهرة مسك الروم قانية، إنني أجزم أنك كنت ستعتقدني بوذيا - كالذين كانوا يعتقدون أنني تنّصرت لأن في وقت ما، عكفت على قراءة الإنجيل . لولا أن حالة ''النيرفانا'' لا تلازمني إطلاقا، إذ أنني لا واعز لي قبالة الأنوثة والجمال، وإن كنت لا أقارن ألبته بألكسيس زوربا، فذلك الشخص على نقيض تصريحات صاحبه، إلا أنه يبقى شخصية متخيلة، لم يزر الروس، ولم يعش في جزيرة كريت، إنما كان له وجود خاص، لاسيما زمنه الروائي، ولا أظنني مخطئا أن كزانتزاكي التقى بزوربات كثيرين، وجمعهم كلهم في شخصية روائية متجرئة، وبطولية، وماجنة، وطيبة واستمرأ كذبه إلى غاية رحيله . فالدرس الأول إذن أن تعرف عملية الكذب الروائي المباح والعظيم، فالكاتب الروائي حين يكذب ويحبك الكذبة جيدا، لن يصدقها الجميع فقط، بل سيصدقونها وهم يعلمون أنها كذبة زائفة، وإن كانت لك رأس كالجزمة، وتريد كتابة الواقع كما تراه، فإنك لن تكتب إلا الرداءة، ولن تنجب إلا سقطا، وستكون بمثابة آلة تصوير إلكترونية بلا روح، ولن أقرأ لك طبعا. فمثلا: دونك رواية، امرأة بلا ملامح، تلك الذي قرأناها سوية في قيلولات مملة، ومع أننا كنا نريد أن نجعل كل شيء حولنا مملا، فكان الكابتشينو بطعم العلقم، والشمس جحيمية، والذباب والدبور يحومان بلا نصب؛ قلت، تلك الرواية بلا ملامح ومرهقة، لسبب أنها استعملت الكذب الساذج، واتخذت الواقع بكل حذافيره الركيكة، خلا أنها لغتها كانت معقولة للطرح. أعرف، يا مينو، أنك تشاطرني الرأي فيما أرمي إليه، ولكنك حماسى زيادة، وأخشى أن تعكف على كتابة رواية ملآى بالأكاذيب بحيث لن يصدقك أحد، كرواية، زنادقة، ستتخذ لي من لندن، وباريس، وأثينا، أمكنة لروايتك ثم تحبكها في ثيمة ضبابية ستجعلني أهزّ رأسي بحيث يرتبك الأمر عليك ، ولا تدري أهي إيماءة رضا أم إيماءة سخط وسخرية؟ إن الروائي يا مينوا، هو إله، فأرحم أبطالك وأراذلك، بما معناه، أن لا تكن متجبرا ومسؤولا على تصرفات البقال، أو ماسح الأحذية، أو تصريحات شيخ القرية الميتافيزيقية، إلا إذا استحال الإله الروائي ديكتاتورا فتلك بحد ذاتها كارثة ، أن ينقلب شعبك إلى ذيول منافقة ، وإمعّات ، ولو أنها في باب الثيمة ستكون فرصة جيدة لكتابة رواية هادفة . وختاما لفكرة الإله الروائي، أنه على خلاف الإله الواحد، هو لا يعلم ما سيجرى لشخوصه ابتداء من اللحظة الأولى لقصوره عن الغيب؛ على أنه إله متمكن من الكذب، ومن تركيب شخوص عديدة في شخصية محورية أو ثانوية . تمنيت لو أن الأمر، ككيفية الفوز بامرأة خلال ستين دقيقة، لكان الأمر ممتعا، والحديث حوله جميل، كالتحدث إلى أونيو موريكوني مثلا، وتجربته في عالم التأليف الموسيقي ، وعطفا على الموسيقى، وبما انك سميّع إلى صنوف الغناء والموسيقى العالمية، أرجوا أن تستفيد من روح الموسيقى على قدر الحاجة، ولا أطلب منك أن تكون متمرسا في ذلك كالعم كوندويرا واقتفاء أثره في البناء الروائي كما لو أنه يؤلف سنمفونية، فذلك أمر ليس متاحا لكل من هب ودبّ، لنكن واقعيين في ذلك، وإن لم تستفد بنائيا، ستهبك الموسيقى روحها وزمنها لتكتب ما تريده حقا، وما يراد لك أن تكتب. ولعلك تذكر لما وقفنا أمام بحر في قرية أندرو، واستقبلنا البحر المزبد والهادر بمتونه الغريبة، أتذكر قولا كان لي ساعتها، إني أحس بعطش شديد يا مينو، عطش يدفعني قصرا للبكاء، والأمر كذلك، أمام جهابذة الفن الروائي، فأقرأ كتبا متنوعة، ابتدأ بالكتب التراثية، اقرأ كتبا كمثل : كتاب كليلة ودمنة، وألف ليلة وليلة، والإمتاع والمؤانسة، لهذه الكتب وأخرى على غرار اللغة الراقية التي ستساعدك في امتلاك لغة خاصة بك مع الزمن، ثمة زمن داخلي خارق، يحدد لك الوجهة لما تنوى الذهاب إليها، كدت أن أنسى نقطة هامة، لكل رواية زمن داخلي شبيه بالموسيقى الداخلية لقصيدة النثر، ولا أقصد الزمن الملاصق للمكان، إنما زمن الأشياء والحروف الهجائية، ولربما تلمسه قريبا لتكون على دراية لما أعنيه. ما رأيك برواية ممتعة، كأنيس..حبيبة قلبي، لأزبيل أليندي، والحب في زمن الكوليرا، لغارسيا ما ركيز، واستكهولم ذلكم الحلم الهارب، لمحمد الجزائري، وخان الخليلي، لنجيب محفوظ أولاء الروايات البسيطات في بنائهن الروائي، وزد سيلقنك درسا كيفية أن تجعل شرنقة عظيمة لدودة قز، أو في حالتك لفكرة عادية ، كفكرة الحب المستحيل والوفاء . لا تقلق يا مينو، لن أحضك على قراءة ألف رواية لتكتب رواية جيدة كالتفاهات التي كنا نؤمن بها في حين من الأحيان، لست طبيب أضراس على كل، حسبك أن تحب ما تقرأ وتكون صيادا صبورا لكل فكرة تقع في غرامها، ولكن يستلزم منك أن تعى ما تكتب، ما رأيك، لو تجرب كتابة القصص البوليسية على أسلوب آغاثا كريستي، كورشة اختبار لروايتك التى لا تزال تخبرني عنها بلهفة وشوق، إلى درجة أنني في أكثر أوقاتى عقلانية، لا أشك مطلقا أنها رواية مطبوعة، تحصد أعلى المبيعات. القصص البوليسي يلقنك كيفية حبك قصة بسيطة بطريقة محترفة، مع أن سرد مثل هذه القصص، لن يجعل لعواطفك الجياشة أن تبين في لغة السرد والحوار، وبإمكاني إرشادك من الآن أين تشرع بكتابتها، اذهب إلى حارس القرية الصموت الجالس على دوام قبالة المدرسة القديمة، وأقصص له قصتك شفهيا وستكون فرصة لن تتكرر، لتكذب وتحذف وتضيف على راحتك، ولما تتخمر القصة جيدا في رأسك المربعة، أكتبها على الورق رأسا لا أكثر ولا أقل وستكون قد أنجزت عملا جبارا، فلا يخفى عليك أنه قبل أن يقرأ لك مئات أو ألاف القراء، يجب أن يسمعك قارئ صموت ومتكتم على الترّهات كحارس القرية . تتعبني بأسئلتك، حين تصر على أنك تائه في شتاء أبدى، ولا أفكار تراودك، ولغتك بالية كالحطب المتعفن، وكأنه مورس عليك انقلاب عسكرى من شخوصك الروائية، وأظن الأمر كذلك، أنا لم أتوقع أن إمام القرية أن يتحول إلى فراشة في إحدى قصصي الأولى ولكنى روضت نفسيا، لأني كنت أعرف أن بداخله فرعون وموسى يتعاركان، وزد أنه كان راقصا لا يشق له غبار في صغره، لذا حاذر من شخوص رواياتك يا عزيزي. مع أن هذه الأشياء لا تهم، بل هي في مجملها سدى، إذ لم تدوّن عشرة أشياء تريدها من أن تكون روائيا، لاستحالة أن يكون لك شيء واحد فقط، وأرجو أن تجد حافزا واحدا يحضك على الكتابة الروائية أو الكتابة بوجه عام . لا تعظّم الأمر إلى ما لا يطيق محتملا، وإن كانت نصائحي هذه لا تفيد ألبته كما أعتقدها، فما الغضاضة لو تتصل بالإسعاف ، أومصلحة الحماية المدنية أو حتى الشرطة ، وتستنجدهم بأن يرشدوك إلى طريقة ناجعة لتكتب رواية جيّدة ، مثلما فعل صاحبك المسكين واستراح مستكينا؟