تعرف العائلات العاصمية قبل حلول شهر رمضان الكريم تحضيرات مسبقة ومكثفة كغيرها من العائلات الجزائرية، فتبقى بعض العادات القديمة والراجعة إلى زمن القصبة موجودة في الكثير من البيوت، ولعل من أهمها الطبخ في الأواني النحاسية القديمة والتي تعطي ديكورا براقا وجذابا في شهر رمضان. يعتبر اقتناء أوانٍ منزلية جديدة في شهر رمضان عادة من العادات التي لا تستطيع أغلب العائلات الجزائرية الاستغناء عنها، فتجد الكثير من النساء قبل حلول الشهر يتجولن في الأسواق بحثا عن ما سيزين به طاولة الإفطار كفال جديد أو كعادة تعوّدن عليها خلال حلول هذه المناسبة العظيمة. وتعتبر الأواني النحاسية الخاصة بالطبخ عادة العائلات العاصمية منذ الأزل، وما زال بعضها محافظا على هذا التراث العتيق، فتجدها وقبل حلول شهر الصيام تتجول عند باعة النحاس لمسحها وغسلها أو كما يسميها المختصون بذلك ''التقصدير'' حتى تصبح صالحة للاستعمال وصحية للطبخ. الأواني الكبيرة للمناسبات وأخرى للعائلة الصغيرة امتلاك الأواني النحاسية بمختلف أحجامها وأشكالها كان شيئا لابد منه عند العائلات العاصمية في أيام مضت، يقول بائع نحاس بحي سوق الجمعة القديم بالقصبة. وهو يتذكر كيف كانت ليالي زمان في رمضان، وكيف كان ذوو القلوب الرحيمة يفطرون عابري السبيل والمحتاجين، ولم تكن تحلو الشوربة إلا في أوانٍ نحاسية تضفي على الأكل ذوقا لم ولن أجده بعد ذلك. ويحكي لنا عن بعض العائلات العاصمية سابقا والتي حافظت على الطبخ في أواني النحاس، وكيف كانوا يفطرون المحتاجين وعابري السبيل في زاوية ''سيدي عبد الرحمان'' بكل حب وسعة صدر. ويضيف ''ما زلنا نلمس ونسمع ذلك فأعرف رجلا مسنا ما زال يفطر مجموعة من الأشخاص في بيته، وما زالت زوجته تحضر ذلك في قدر النحاس الكبير الذي كان يستعمل في الماضي في المناسبات''. ونحن نتجول داخل المحل بين التحف القديمة وفي كل قطعة نحاسية مفروضة أرجعتنا إلى زمن القصبة ولياليها، دخلت بعض النسوة يطلبن أوانٍ تحتجنها لشهر رمضان وأخرى أرادت مسح بعض التحف النحاسية لتخرجها بالمناسبة، تكلمنا مع إحداهن حول استعمال هذه الأواني فتقول إنها أصبحت نادرة فقليلا ما تجد قطعة أو قطعتين في البيت، ''لكننا ما نزال نحب الطبخ فيها حتى ولو نقص استعمالها، فلها نكهة خاصة وذوق مميز في شهر رمضان''. وتساندها الرأي سيدة أخرى فتقول: ''لا أملك هذه الأواني في بيتي لأن بناتي يفضلن الطبخ في الأواني الجديدة التي تباع، لكن إذا ذهبنا إلى منزل أمي فستجدين كل الأواني النحاسية القديمة فهي ما زالت محافظة عليها ولا تسمح لكل من هو موجود في البيت بلمسها، وكل سنة قبل حلول رمضان تذهب بها عند بائع النحاس وتمسحها، ثم تخبئها بعد ذلك''. التحميرة وتبسي العشاوات هما الأكثر استعمالا تعددت وتنوعت أواني النحاس للطبخ، لكن ما نجده أكثر في كل البيوت هو ما يكون خفيفا وسهلا للاستعمال، فتقول السيدة فتيحة من بلكور إنها ما زالت تحتفظ بالتحميرة وتستعملها في رمضان من أجل ''طاجين الحلو'' وهناك أخريات يستعملنها ل ''تشرميلة الكبدة'' وأيضا لتحمير القطايف، ''فلا يحلو لي الطبخ في رمضان إلا فيها''. أما عن تبسي العشاوات فيقول بائع النحاس إنه ما زال موجودا عند بعض العائلات ويوضع فيه الكسكسي أثناء السحور وخصوصا عندما يكون هناك ضيوف، وما زالت بعض النسوة تأتي قبل رمضان لمسحه وإعطائه اللون النحاسي الأصفر الجميل. نساء تتهافتن على سنيوة الديول وأخريات على سنيوة القطايف عند بائع النحاس لاحظنا الكثير من النسوة اللواتي يشترين سنيوة الديول واللواتي يحرصن على أن تكون ثقيلة حتى تعطي نتيجة جيدة أثناء العمل، فبات من المعروف أن شهر رمضان هو فرصة لهن لكسب الرزق. وما أكده البائع أنه يشهد هذه الحركة شهرا قبل رمضان، فلكل واحدة غرضها، فمنهن من يطلبن ما يعرف ب''مري القطايف'' من النحاس حتى يستعملنها في رمضان للطهي، وأيضا ''لمبوط القطايف'' لنفس الغرض. ولم تتوقف الطلبات هنا بل هناك من تطلبن ''سنيوة قلب اللوز'' والبقلاوة لأن الكثير من النساء يعتبرن أنه سيعطي ذوقا مميزا لها، فسنيوة النحاس ليست طبعا مثل ''الألومنيوم'' أو ما شابه. عائلات لا تستغني عن التحف النحاسية للزينة في رمضان بما أن العائلات العاصمية تفضل الطبخ في بعض الأواني النحاسية في شهر رمضان الكريم، فإننا نجد البعض منها، وإن لم تستعملها للطبخ، فإنها تستعمل النحاس كزينة أثناء رمضان. يقول بائع النحاس بحي ''سوق الجمعة القديم'' إنه لا يكفيه الوقت لتلبية رغبات الكثير من النساء، فمجرد ما يقترب شهر رمضان حتى تخرجن تحف النحاس لمسحها (التشلال) حتى تأخذ بريقا ولمعانا أكثر وتستعملها للزينة في ليالي رمضان. وأكثر الأشياء التي يجلبونها له هي إبريق الشاي النحاسي والسينية التي يقدم فيها إبريق الشاي، والسكرية، وأيضا فوارة الحلوى من النحاس الأحمر المشللة بالفضة. يقول صديق صاحب المحل، والمولود بذلك الحي الشعبي، إنه كل رمضان لا تحلو له السهرة إلا والصالون مزين بكل التحف النحاسية الموجودة بالبيت، وهو ما عهده عندما كان في بيت العائلة التي ما زالت محافظة على ذلك. ويساندة في الرأي صاحب المحل، حيث يؤكد أنه يملك من كل الأواني النحاسية قطعة يحتفظ بها في بيته سواء داخل المطبخ، أو زينة الصالون، ولأنه يعتبر أن ذلك من العادات والتقاليد العاصمية القديمة فلابد من الحفاظ عليها، وعن توريث هذه الصنعة يقول إنه يسعى ومنذ الآن لتعليم الكثير من الشباب حتى يجعلوا المهنة من تراثهم ويحافظوا عليها.