الكثير من الحركات و التصرفات يقوم بها الناس عفوا و من غير قصد واضح حتى صارت عندهم عادة. فكم من شخص حين يحدثك يمسك يدك أو يشير إليك من مرفقك فتنزعج. بعض الآباء يشكو من أن ولده حين يحدثه يدير وجهه بيده من ذقنه حتى ينتبه إليه. بعض الرؤساء يلوح بيده بطريقة رتيبة عندما يلاقي الجماهير في التجمعات أو الخطب العامة.. و المبدعون لهم عادات معينة في الإبداع أو أثنائه أو بعده، و تسمى هذه العادات طقوس. الطقس: هو الطريقة، و غلب على الطريقة الدينية، فهو بمعنى النظام و الترتيب و إقامة الشعائر، جمعها طقوس. و تطلق الكلمة على حالة الجو. و الطقوس بالتكرار المستمر تتحول إلى عادات، و لهذا قال علماء الشرع: احذر أن تتحول العبادة إلى عادة بحكم التكرار لأنها ستخلو من الروح. والعادة سلوك مكتسب متصلب يؤدي إلى نوع من الآلية شبيه بما نلاحظه في السلوك الفطري، فهو سلوك مكتسب قائم على التكرار يتصف بالتنوع و القابلية للتغير النسبي . في إحدى القنوات الفضائية يقول أوكياما و هو مصمم سيارات ياباني: أنه يبد أنهاره بالاستماع إلى الموسيقى حتى يشعر بالحظ السعيد و يحس أنه مسيطر على عمله و فريقه. الكاتب يوسف إدريس تقول زوجته رجاء إدريس عن بعض أسراره الخاصة عن طبيعة إدريس كإنسان ومبدع.''لم تكن الكتابة بالنسبة للأديب الراحل يوسف إدريس فعلا عفويا فقد ارتبطت بطقوس خاصة ولازمته معاناة فكرية وجسدية أيضا'' وقالت: أنه أصيب بحالة مرضية شديدة صاحبته طوال تأليفه لمسرحيته الشهيرة ''الفرافير'' التي تناولت قضية سياسية فلسفية مهمة في رصده للعلاقة بين المثقف والسلطة. من الطقوس الغريبة التي لازمته طوال حياته حبه للكتابة ليلا، حتى إذا أراد الكتابة نهارا يسارع لإغلاق النوافذ وإسدال الستائر. و كان يصر على أن تبقى زوجته على مقربة منه حتى يبدأ الانهماك في الكتابة.. والمدهش أنه لم يكن يكتب شيئا إلا بعدما يمسك بأي جهاز ''راديو'' مثلا ويفك مكوناته ويحاول تركيبها مرة أخرى، فقد كان ذلك الطقس الغريب وسيلته المفضلة ليحظى بحالة من الصفاء النفسي الذي يساعده على التركيز في الكتابة. وبعدما يتم الكتابة كان يحرص على أن يقرأ لزوجته ما كتب وينتظر رأيها. تقول ميس العثمان صاحبة رواية ( عقيدة رقص) تجيب على سؤال طُرح عليها عن عاداتها في الكتابة: عادة ما يجعلني أشمّر عن ساعدي كما ذكرتِ في سؤالك، هو إلحاح الفكرة واختمارها، لدرجة أنها تحتاج لمساحة متنفس لتتكون كلاما مكتوباً بشكل فني سردي تلك اللحظة. حينما تزورني الفراشة الإبداعية الملونة وتحط على كتفي بهدوء محفّز لأشرع بالكتابة انهماراً مجنونا عادة ما يوجع يدي، إذ لازلت أكتب يدوياً، ولن أترك هذه العادة مهما اجتاحتنا التكنولوجيا الحديثة، مازلت أحب الكتابة على ورق معاد التصنيع خفيف الملمس غير مسطّر، وبقلم حبر سائل برأس مدبب، ومكان خاص بي، ولا يهم الهدوء فقد تخلّصت من عقدة هدوء المكان بعد أن تعودت أن أعزل رأسي عن أية ضوضاء في الجوار، لأكون معي فقط... أما القاص ماجد القطامي الذي يهتم بأدب الرعب، وهو أيضا بصدد كتابة رواية تخوض في عوالم الإثارة نفسها، فإنه وكما بدا ليس متطلباً فكل ما يحتاجه مكاناً ينعزل فيه وحيداً مع الكتابة، ويقول عن ذلك: بالنسبة لطقوس الكتابة بمعناها الصحيح، فإن المكان الوحيد الذي أفضل الكتابة فيه، بل وأحرص كل الحرص على ألا أفارقه، هو البيت، وبالتحديد في مكتبي الصغير المنعزل عن باقي المنزل، وأجد صعوبة بالغة بالكتابة في مكان آخر. لذا فإن هذا المكان يمثل منعزلي الأثير. ومن الطقوس الأخرى للكتابة، والتي أراها أحياناً فرصاً متاحة لانجاز فرض كتابي معين، هو تهيئة البيت لذلك، من خلال خلوه من الزوجة والأولاد، درءاً للإزعاج والمقاطعة، فأطلب منهم القيام بزيارة الأهل والأقارب حتى يخلو لي البيت فأقوم بالتفكير والكتابة دون مقاطعة، ولله الحمد الأسرة متفهمة لذلك ومتعاونة إلى حد كبير. أما كيفية الكتابة فإنني من مدمني الكتابة على الكومبيوتر، فقد نسيت طعم الكتابة التقليدية منذ زمن ليس ببعيد، وذلك لأن الكومبيوتر يختصر علي الكثير من هموم المراجعة اللغوية، والبلاغية، ولسبب آخر قد يجعلني أشعر بالخجل بعض الشيء، وهو أن خطي رديء جداً لا ينفع في حالات المخطوطات الأولية للأعمال الأدبية من قصة و رواية و مقال و قراءة نقدية، لذلك حرصت كل الحرص على أن أعمل على الكتابة على الكومبيوتر لتلافي الكثير من الأخطاء.. و الروائي دومينيك فابر صاحب رواية ''من أجل امرأة من نفس السن'' يفضل الكتابة في منازل أصدقائه المسافرين، يقول: المهم أن لا أكتب في منزلي المليء بضوضاء زوجتي وأطفالي، يساعدني المكان غير المألوف أيضا علي الإلهام والإنتاج. أمَّا الروائية ليندا سافلير تستطيع الكتابة في أي مكان وتحت أي ظرف، فهي تكتب في المترو و في الشارع و في غرفة الانتظار بعيادة طبيب الأسنان. تقول: عندما أكتب في أي مكان فأنا أشعر بالوحدة وهذا يدفعني إلي الإبداع والتخيل. الروائية كارني بادنفلد تعشق الكتابة علي صوت موسيقي الراب فهي تصرح: إنها تهذب نفسي وتملؤها نشوة. أعلم أنه من الطبيعي أن يستمع الروائي أثناء الكتابة إلي الموسيقي الكلاسيكية ولكني أحب موسيقي الراب لأنها تهزني هزا عنيفا أصل بعدها إلي أعماق نفسي بهدوء. الروائي فرنسوا ويرجز يكتب منذ عشرين عاما علي نفس المكتب الذي لا يستطيع تغييره لاسيما وأنه مليء ببقع الحبر. وصف مكتبه قائلا: حجم مكتبي 30 X 54 سنتيمتر، يتكون من لوحين من الخشب المصنوع بطريقة عكسية بحيث لا يأخذ شكلا مربعا أو مستديرا. وإنما هو شكل غريب لم أجد مثيلا له. على العموم لا يوجد إجماع على طقوس محددة للكتابة. و لكن يوجد إجماع على أن كل من أراد أن يكتب و استعد للميلاد العسير و إن بدا ظاهره بسيطا فإن ذلك في حد ذاته طقس. و لكن غالب المبدعين في غالب المجالات يحبون الهدوء و السكينة، و يفضلون الابتعاد عن أماكن الصخب، حتى و إن ذهبوا إلى المقاهي كنجيب محفوظ أو ركبوا المترو مثل ليندا سافلير.. فالكاتب و المبدع يعيش حالة من الوحدة الداخلية و الهدوء النفسي. هدوء نفسي بعدم إحساسه بمن حوله أثناء لحظات الإبداع. و بعض المبدعين تظهر عليه مظاهر غريبة كوضع غراب أمامه أو الدخول إلى المرحاض أكرمكم الله أو انفتاح شهيته للأكل أو انسدادها أو فرض نظام غذائي محدد يقول دنيس روبير الذي يتبع نظام غذائي صارم أثناء الكتابة يعتمد علي شرب الكثير من المياه..:''عندما أذهب إلي نزهة على الأقدام فأنا لا أعبأ بالتعب بل بمتابعة وتأمل كل شيء حولي. هذا ما ينطبق كذلك على الكتابة والمعدة لأنهما كلاهما في حاجة إلي الهدوء والراحة.. إن صيام المسلمين مفيد لأن الذهن يعمل بكفاءة أكثر نظرا لخلو المعدة من أي طعام..'' كما يهتم الكثيرون إلى الوقت فمن زمن بعيد قال البحتري : تخيَّر آخر الليل.. لي معرفة بكاتبين أحدهما يكتب على ركبته و يكون المصباح خلفه، و الثاني يعيش وقتا عصيبا ليجد الورق المناسب للكتابة و القلم المناسب للموضوع. و كأن نوعية الفكرة تفرض عليه نوعية الورق و نوعية القلم. المهم أن كل واحد يجد طريقته المثلى ليسلك دروب الإبداع.