يطلق على العالم في هذا العصر المتقدم، بأنّه القرية الكونية، أو القرية الإلكترونية، بسبب تكنولوجية الاتصال المتطورة التي هي في جوهرها التطبيق العملي للاكتشافات والاختراعات والتجارب العلمية أو حصاد المعرفة العلمية المنظمة والتجريبية في مجال وسائل الاتصال التي ألغت المسافات الجغرافية، وقرّبت المسافات الفكرية والنفسية بين المجتمعات الإنسانية؛ وذلك لأنّ ما تحقّق في الربع الأخير من القرن العشرين وحتى الآن، من تطوّر في ميدان الإعلام والاتصال لم يقتصر على التلقي والاستقبال، والتفاعلية، بل امتدّ ليشمل مجلات الإعلام كافة، ولاسيّما الثقافية والتكنولوجية. ودمج وسائل الاتصال التقليدية والجديدة معا ووضع جميع التقنيات المتوافرة علي صعيدي الاتصالات والمعلومات، من الهاتف والتليفزيون والكمبيوتر الشخصي، الأقمار الصناعية والأطباق اللاقطة والكابلات والموجات الإلكترونية في منظومة مدمجة واحدة ووضعها بتصرف أفراد المجتمع للإفادة منها في حياتهم العملية والاجتماعية. إن الثورة التكنولوجية وعصر المعلومات والعولمة والصحافة الإلكترونية والطرق السريعة للمعلومات، قد غيرت العالم جذريا، ولم يقتصر هذا التغيير على طبيعة الدولة القومية بل تجاوزه إلى السلوكيات والقيم الاجتماعية للبشر إن لم تكن قد قلبتها رأسها على عقب. ولا أحد يتنبأ باتجاه تطور الأوضاع الحالية وإلى أين تتجه؟ فكل تطور يحمل داخله نقيضه وبذور فنائه، ويعود هذا أساسا إلى أننا نعيش حاليا بدايات عصر جديد ولا نزال نتعرف على كنهه و مقدماته، وإن كانت تأثيراته لا تخفى على أحد. فشبكة الانترنت تدفع الحياة إلى ما وراء الحواجز الطبيعية القديمة للزمان والمكان إذ بوسعك أن تتجول بواسطتها في دول العالم دون مغادرة مكتبك. فهو عبارة عن عالم افتراضي يسمح لنا بارتياد عالم وهمي مترامي الأطراف وبالإبحار في داخله دون قارب نجاة. فالكثيرون منا لا يمارسون الرياضة لكنهم يعشقون مشاهدة الرياضيين الكبار أصحاب القدرات البدنية الهائلة فهناك الحب الافتراضي والجنس الافتراضي، والحوار الافتراضي، والموسيقى الافتراضية وفي ظلّ هذه المعطيات العصرية بثوراتها التكنولوجية المتطورة، تزداد هجمات الغزو الثقافي حدّة وخطراً، وإن الدول المتقدمة نجحت في إغراق أسواق الدول النامية بالآلاف من الكتب والمجلات والصحف التي تمجد قيم الغرب مثل الفردية والعنف الغريزي وعدم المسئولية أمام المجتمع. وأصبحت التقنية في عالمنا المعاصر، تستخدم بأبعادها المختلفة أسلحة فعّالة في مجال الاتصالات عبر المحطات الفضائية والأقمار الصناعية. وهناك أشكال أخرى للغزو الثقافي تتم بشكل غير مباشر عبر وسائل الإعلام والثقافة تتمثل في برامج الإذاعة والتليفزيون السياسية والاجتماعية والترفيهية فضلا عن الأفلام السينمائية والمسرحيات. وهو الزحف الذي يستهدف تدمير الذاتية الثقافية للمجتمعات المحلية وفرض هيمنة الثقافة الغربية وأننا لمحاصرون اليوم بين القنوات الأجنبية والإنتاج الأجنبي وما يأتينا عن طريق الأقمار الصناعية على وجه الخصوص الأمر الذي أدى إلى تحويل شبابنا إلى شباب بلا قضية فيتحولون إلى السلبية واللامبالاة وفقدان المعنى والبعد عن الواقع والشعور بالاغتراب. وليست الأفلام والمسلسلات وما تعرضه من أفلام مثيرة للغرائز ومشجعه على العنف والسطو والانحراف وتؤكد بها القيم الفاسدة وتتحدى بها سلطة الآباء والأمهات وسلطة القائمين بأمر التعليم, ليس ذلك كله إلا صوره من صور المحاولة المستميتة لتغريب الحياة الاجتماعية في المجتمعات المسلمة الأمر الذي يؤدى حتما إلى تعميق الشعور بالاغتراب بأشكاله المختلفة. ويشتدّ الخطر على الهوية الثقافية، بما قد يؤدّي إلى ذوبانها في الثقافات الوافدة أو المستوردة. ولا يمكن إغلاق الأبواب أمام الرياح الإعلامية الثقافية الدولية، بالنظر لتعدّد المصادر وتنوّع الوسائل القادرة على الإيصال والتأثير المباشر وغير المباشر. ويقول فيكتور هوجو: ''قد نستطيع مقاومة غزو السلاح، ولكنّنا لا نستطيع مقاومة غزو الأفكار''. ولعلّ أخطر ما ينجم عن الغزو الثقافي، تلك التبعية التي تتمثّل في مضمون وسائل الإعلام الذي تنعدم فيه العلاقة مع الواقع الثقافي الاجتماعي السائد في البلدان المتلقية، ولاسيّما البلدان النامية. وهل يعني ذلك الاستسلام بالمطلق لكلّ ثقافة وافدة، وعدم قيام وسائل الإعلام المحلية بأية مبادرة لمواجهة هذا الغزو والحدّ من تأثيراته، بما يحفظ الهوية الثقافية والحضارية، الوطنية والقومية؟. ففي الثمانينات من القرن الماضي رفضت اليابان مسلسل دالاس ورأت فيه استلاب ثقافي أمريكي، وأثيرت حفيظة وزارة الثقافة الفرنسية لانتشار المأكولات الأمريكية السريعة الهمبرغر والبيتزا. كما عمل الإعلاميون التربويون على إعادة الاهتمام بشخصيات الرسوم المتحركة (تان تان) لمواجهة شخصيات والت ديزني الأمريكية، هذا ما تفعله الدول الحريصة على ثقافتها وهويتها الثقافية، وهي تتفاعل مع الثقافات الأخرى، وتقاوم كلّ غزو يستهدف إضعاف ثقافتها أو القضاء عليها.