الكتابة أول اختراع حققه الإنسان منذ وطأت رجلاه الأرض، حينما لم تجد أصابعه من خيار سوى اللجوء إلى الشجر والتراب حتى تعبر عما يجول في خواطر النفس وتدون ما تفكر به خلايا العقل، مما زرع في نفس الإنسان الشغف بهذا الاختراع على الرغم من بساطة الأدوات وحداثة وجوده على الأرض. أعطى الإنسان عقله فرصة التفكير والتدبر حتى يساعده في مهمة الكتابة، وفعلا نجحت المهمة، وساهم العقل عبر محراب التاريخ في إرشاده نحو اكتشاف العديد من الأدوات التي طورت طريقة التدوين من الكتابة على الطين إلى تهذيب الحجر والنقش عليه، كما في الحضارة الفرعونية إلى اختراع الأحبار واعتمادها في تسجيل الأفكار على الأوراق، وظهرت هذه الكتابة في صورة الكتاب الذي أصبح آنذاك أداة للتواصل الحضاري والثقافي والفكري بين مختلف العلماء والمثقفين في شتى أنحاء العالم، وبقيت الكلمة المكتوبة بخط اليد آلاف السنين، وظل الإنسان لقرون طويلة حبيس الحبر والورق، حتى فاجأ «جونتبرغ» العالم كله باختراعه المذهل "الطابعة" التي أحدثت الفرق ومهدت الطريق باتجاه ثورة في مجال الطباعة والنشر، فظهرت كمية هائلة من المجلات والصحف والجرائد الورقية خلال القرنين الماضيين، لكن هذا الاختراع لم يوقف عشق الإنسان للكتابة ولم يكتفي عقله عند ذلك الحد، بل تفاقم شرهه نحو العلم والكتابة وطرق التدوين حتى أوصل البشرية في نهاية المطاف إلى العصر الرقمي بجميع أدواته من كمبيوتر وأنترنيت وأقراص مدمجة، ليجبر بذلك القلم على التنازل عن دوره الرئيس، وإعطاء الأنامل فرصة للراحة من مشقة الكتابة والسهر على الورق، هذه الأدوات هي بمثابة مؤشرات على أن ولع الإنسان بالكتابة ليس له حدود، ورغبته الشديدة في تطوير نوعية وأدوات الكتابة هي التي ساهمت بصورة أكبر في تصنيع المؤثرات التقنية وابتكار الطرق التكنولوجية، والتي تجلت إنتاجاتها في خلق ثقافة جديدة تعتمد على تنوع أساليب التدوين، وسرعة تبادل المعرفة وحيوية إنتاج الأفكار وسهولة توزيع الآراء عبر قنوات متعددة وبين مختلف الشرائح والأطياف، وفتحت هذه الثقافة المجال لآفاق جديدة من التواصل، ومكنت الكل من الوصول إلى كمية فائضة من المعلومات الرقمية، حيث تم توظيفها في مصلحة النصوص الأدبية والعلمية التي يتم تبادلها الآن في قرية صغيرة من موقع إلى آخر، وصار بمقدور الكاتب والمتبحر في مختلف العلوم مهما اختلف موقعه بعرض إنتاجه في العديد من المواقع والمنتديات لتظهر الكتابة بحلة ولباس جديد يدعى ب"الكتابة الرقمية" أو "الكتابة الإلكترونية" الذي هو حلقة جديدة في تاريخ الكتابة الطويل، وممارسة حديثة للكتابة بلون متجدد وأسلوب مختلف، هذا النوع الحديث من الكتابة دفع بالكثير من الكتاب إلى ركوب موجاته العاتية، والارتباط بالعالم الخارجي من خلال حلقات اتصال مباشرة مختصرين بذلك المسافات وعابرين للحدود السياسية، بل تمكن الكاتب العربي من تجاوز دوائر الرقيب والرقابة والقفز على الحواجز الحمراء والعمل بحرية وسلالة بدون عقبات وعوائق، حيث شكلت المواقع من مدونات ومنتديات ومواقع شخصية فرصة للمغمورين والمغيبين لعرض إنتاجاتهم الأدبية وإبداعاتهم الفكرية من قصص وأشعار ودراسات سياسية وثقافية وعلمية ودينية، مما حقق لهم الانتشار الجغرافي الذي لم تكن لتحققه الكتابة الورقية، ومهد الطريق نحو توديع سياسة تكميم الأفواه وحجر عملية إبداء الرأي، بل بشر باستقبال مرحلة أخرى ستؤدي إلى توفير مساحات واسعة لمختلف الأذواق والتجارب. كما إن الكتابة الرقمية لعبت دور في سهولة التواصل مع القارئ وتبادل التعليقات وخلقت أسرع الطرق التي أوصلت الكاتب إلى مختلف شرائح وأطياف الجمهور العربي، بل منحت الكاتب حقوقه الكاملة في ممارسة البوح والفضفضة والهتاف وتفريغ الشحنات والطاقات المحبوسة وصار الكتاب أشبه بالنحل الذي ينقل الرحيق ويمزج العسل ببعضه في الخلية الواحدة "موقع الانترنت"، لذا فإن هذا النوع من الكتابة إضافة إلى ما فعله من اجتذاب أعداد كبيرة من الكتاب للعمل في حقوله، فرض على ساحة الكتابة الورقية مطلب التغيير والتكيف مع التغييرات الجديدة، وطرح على فئات الكتاب وشرائح القراء مجموعة من الأسئلة التي تستفسر عن مصير الكتابة الورقية وعن صعود نجم الكتابة الرقمية وأفول بريق الكتابة الورقية: فهل سيستمر بعض الكتاب في عملية رفع سلاح الرجعية والتمسك بالكتابة الورقية في وجه التجديد ورياحه؟ وهل ولى عهد القلم؟ وهل أصبحت تجارة الورق في خطر؟ وهل صار الحبر مهدد بالانقراض والنسيان؟ وهل ستكون الأقلام والدفاتر قريبا في أدراج المكتبات وغرف المتاحف؟ وهل بدأت الكتابة الورقية في التلاشي؟ وهل سيكون هناك انحسار لأدوارها مستقبلا؟ وهل جاء دور أزرار وتقنيات الحاسوب؟. كل تلك الأسئلة والمخاوف تتناولها أوساط الكتاب والمثقفين منذ فترة ليست ببعيدة بمزيد من النقاشات والحوارات الساخنة، مما أسفر عن بروز فريقين على ساحة الكتابة بعدما تزايدت أعداد الكتاب المنظمين لركب الكتابة في مواقع الأنترنيت، وهما أولا «الورقيوون» ذوو الذهنية التقليدية وأصحاب الكتابة الورقية الذين لا يتنازلون عن الطريقة القديمة في تأليف الكتاب والمقالة والقصة الورقية، ثانيا: هناك في المقابل الفريق الصاعد «الرقميون» أصحاب الكتابة الرقمية أو الإلكترونية الذين يستخدمون مستلزمات التقنية الحديثة في تقديم شكل جديد للكتابة، مما جعل الساحة تشهد سجال ومعارك بين «الورقيون» و«الرقميون» لأن كل طرف له أسبابه ومبرراته وراء نظرته تجاه الكتابة الأخرى بالإضافة إلى تمسكه الشديد بطريقته ومنهجه في الكتابة. «الورقيون» يؤكدون أن أجمل ما تقدمه الكتابة الورقية للقارئ "الكتاب" الذي يؤدي إلى نشوء علاقة عاطفية ومعنوية قوية بينه وبين المتصفح تبدأ من أيام الطفولة وتستمر لعدة مراحل متقدمة من العمر، بينما يرون إن للكتابة الإلكترونية سلبيات عدة منها الضعف الذي يشمل صياغة المواضيع وحرفية معالجة وتنقيح النصوص وكفاءة الإدارة في الأشراف على تلك المواقع، بل قد يغيب التدقيق في تلك النصوص خصوصا في المنتديات، كما إن الكتابة الإلكترونية حسب وجهة نظر «الورقيون» تتطلب مهارات عدة من تشغيل الحاسوب، وتعليم برامجه وتوفير مصادر الطاقة والالتزام بوجود الكاتب في مكان واحد، وهذا كله يؤكد على تأثير التفاوت في المهارات التقنية في قبول أو رفض هذه النوعية من الكتابة، بل أيضا يزداد «الورقيون» تعلقا بالكتابة الورقية من خلال شعورهم بصعوبة حدوث السرقات الأدبية واستحالة النصب على القراء والحصانة التي يتمتع بها المؤلف في حالة الكتاب الورقي، كذلك يهون «الورقيون» من قيمة قراءة الكتابات على الإنترنت فهي تعتمد على حاسة النظر بشكل أساسي التي قد تضر بالعين، ويزداد تشكيكهم في قدرة الكاتب على الاحتفاظ بالنصوص والأعمال على شكل ملف إلكتروني «وورد أو بي دي أف» لاحتمالية تعرضها للنسيان والتلف. أما «الرقميون» أصحاب التبشير باختفاء الكتابة الورقية، يعتبرون شبكة الأنترنيت هي المصدر الرئيس للمعلومة والخبر، ويعززون دعمهم لدور ومستقبل الكتابة الرقمية بإظهار حسناتها الكثيرة ومن ضمنها تناول المواضيع المحظورة في الكتابة الورقية، وامتلاك ميزات السرعة الفائقة، وإمكانية تصحيح العبارات والكلمات مباشرة خلال دقائق أو ساعات، ووجود النص المترابط والنص المتشعب في مختلف المواقع. أيضا في الكتابة الإلكترونية تتوافر تقنيات إضافة الصوت والصورة المتحركة مع النص الأدبي، مما يحفز القارئ للإطلاع والتصفح وهذا يعد أمرا صعبا في الكتابة الورقية، بل يدحض الرقميون التهم التي تقول بضعف مستوى الإنتاج المقدم عبر المواقع الالكترونية؛ لان هناك مواقع إلكترونية موثوقة وتقوم عليها مؤسسات وجهات رصينة لا تنطبق عليها مثل هذه الأحكام، بل تمتلك أناس أكفاء لهم قدرات في تقييم وإدارة النصوص ومعرفة الجيد والردئ، أما من الناحية المادية فإن الكتابة والنشر على الأنترنيت أرخص ثمناً وتكلفة من الناحية المادية، على الرغم من تكاليف جهاز الكومبيوتر وصيانته وأسعار الاتصال بالشبكة وتكلفة استضافة الموقع، مقارنة مع التكلفة الباهظة لإصدار مطبوعة ورقية، كما إن القدرة التخزينية للأقراص الصلبة مرتفعة في الحاسوب بشكل مذهل وتستطيع حفظ مئات المؤلفات والكتب، أضف إلى ذلك سهولة الاشتراك والنشر في تلك المواقع زادت من انتشارها، لأنها لا تحتاج لإجراءات أو شهادات أو وثائق أو حتى مقابلات، في حين تلعب المعرفة الشخصية دورا كبيرا في الكتابة الورقية حيث لازالت الكتابة حكراً على نخبة محظوظة في سائر المجتمعات ممن توفرت لهم ظروفا للنشر. مع التذكير بوجود طرف ثالث يمزج أدوات هذين النوعين بحيث لازالت هذه الفئة متعلقة بجلباب الكتابة الورقية والاستفادة بحذر من تقنيات وألوان التكنولوجيا الحديثة. هذا السجال بين الطرفين ستحسمه الأيام والسنين القادمة لصعوبة تحديد الغلبة لمن ستكون؟ فهما نوعان من الكتابة تحكم كل منهما قوانين خاصة وتفاعلات متعددة في التقنيات والإمكانيات، ويملك كلا الطرفين عوامل قوة ويعاني كلا الفريقين نقاط ضعف، لكن هذا السجال يقودنا إلى استكشاف وجهة نظر أخرى ذات انتشار واسع في بعض الأوساط الثقافية عن مفهوم الكتابة الإلكترونية، والذي قد يتنافى مع ما هو متوقع من الكتابة الإلكترونية من تأثيرات مستقبلية، حيث أن بعض الكتاب يعتقد بأن الكتابة الرقمية هي مجرد وضع الكتابة التقليدية دون لمس أو تشويه لخصائصها الجمالية أو الفنية في فضاء إلكتروني، بحيث كانت الكتابة سابقا بواسطة اليد وسوف تصبح حاليا بواسطة آلة مرئية أي مجرد الاختلاف في وسيلة وأداة الكتابة، أما فعل وغاية الكتابة لم يتغير ولن يتبدل، حينئذ تكون النظرة قاصرة أو محدودة الأبعاد عن تأثيرات الكتابة الرقمية مستقبلا، لأن الكتابة الرقمية أو الالكترونية - كما هو واضح - ليست فقط الكتابة على أزرار الكمبيوتر ومن ثم إرسال ما هو مكتوب إلى عناوين البريد الإلكتروني والمواقع المختلفة، فقد تكون هذه الصورة قاصرة وتعبر فقط عن المراحل الأولى لتأثيرات الكتابة الإلكترونية، لأن الكتابة الإلكترونية هي مؤشر نحو تطور في مجالات القراءة والكتابة والأجناس الأدبية المختلفة التي سوف تقود إلى ظهور شكل جديد من الأدب يسمى "الأدب الرقمي"، حيث أن الفنون والأعمال الأدبية والمهارات التقنية ستتضافر من أجل تقديم شكل جديد من المقال أو الكتاب أو القصة أو القصيدة ذات البصمة الرقمية، وربما سيكون هذا الأدب في المستقبل علم بذاته قد يدرس ويحتاج إلى تخصص جامعي. وأخيرا صحيح إن هذه الثورة الكبيرة في عالم الأنترنيت أنعشت نشوة الكتابة لدى الكاتب وأشعرته بالزهو، وأصبحت لذة الكتابة أكثر سطوة على نفوس الكتاب لأن الأبواب المقفولة صارت بفضل التكنولوجيا مفتوحة أمام الجميع، ولكن على الجانب الآخر فإن الطريق سيصبح شاق ووعر أمام الكاتب العربي في المستقبل لأن الانخراط في الكتابة الرقمية سيشكل سباق صعب لن يفوز به إلا المتميزون ومن تتوفر لديهم مزيج من القدرات الفنية والمعرفية والتقنية الفذة، وسيلعب الجانب التقني دورا في جاذبية ونجاح النصوص المقدمة للجمهور، وسيعمل أهل الأدب والفكر على تقديم الكتابات الأدبية بصورة جديدة ممزوجة بألوان الفنون المختلفة، وسيبقى أمام الآخرين المتمسكين بحبال الكتابة التقليدية فقط اللجوء إلى الوقت والجهد والصبر للتأقلم مع هذه التغييرات، ولن يكون الوصول إلى رضا القارئ أو المتصفح سهلا على الرغم من كثرة شرائح وأطياف القراء، لأنه لن يبحث عن مجرد كلمات أو جمل ليقرأها فقط، بل سيطمح إلى اكتشاف الأعمال ذات الطابع التجديدي والصبغة المغايرة، وسيظهر النقد رفيق الكتابة بصورة مختلفة ليكون ذا تأثير في مستوى ونوعية وجودة الأجناس الأدبية، وربما تظهر مسميات مثل الكاتب الإلكتروني والناقد الإلكتروني والقارئ الإلكتروني والناشر الإلكتروني وستشهد السنوات المقبلة ولادة نماذج أدبية أخرى على الساحة الرقمية مثل "المكتبة الأدبية الإلكترونية" و"الرواية الرقمية" و"القصيدة الرقمية".