01 - لا تزال مدينة ''الهامل'' تذكر الحادثة، وترويها لأبنائها، قصّة الطالب ''رضوان'' والوتد، ذلك الفتى المشاكس، الذي يراهن على دخول المقبرة في ظلمة الليل، وهو لا يعرف بأن للقبور في الليل مخالب وأنيابا كما الوحوش، السؤال الذي يدور بين الطلبة ليلتها، من يدقّ الوتد؟ ''رضوان'' يمور بكثير من النشاط ، وتتوثب فيه الاندفاعات، وتضطرم في أفكاره براكين الرفض، فهو جريء وساخر، زيارة المقابر عنده في الليل، ليست إنجازا علميا، وإنما هي مجرد اعتقادات متصنمة تنداح إلى ثقافة التخويف، يعلو صوته مجلجلا وهو يسأل: ما الغرابة في اقتحام المقابر وقد اقتحمنا المنابر؟ فلطالما أننا نعيش في مدافن أحياء، نختفي وراء جراحات الأوطان، نفضل الرعب عن الضحك، والموت على الحياة، فلماذا لا نتصالح مع سكان المقابر؟ ونرتشف الصّمت عساه يعيد الحياة إلى القلوب الظمأى. حتى وان كان ''الصمت يغري بالشكوك'' 02- أخذ يتساءل: لماذا نزرع الأوتاد وبذات الطريقة التي زرع بها الطغاة أوتادهم؟ أليست هذه مغامرة؟ بله علامة تعجب الضخمة ما تزال ترقد في أفكارنا!؟. لعل الأموات هم الأقرب إلينا، للوتد جذور لكن ليست له أجنحة، لم يتح لهذا الفتى أن استعمل الأوتاد، أو مشى في الأماكن المهجورة، انه متفرج مهزوم الإرادة، فكيف يتجرأ ويقدم على زيارة القبور في ليل بهيم من ليالي الشتاء، إنها مغامرة محفوفة بالمخاطر، ومجازفة غير محمودة النتائج، فللمقابر هيبة، وللقبور حرمة وقداسة، لكن للشباب أحوال وأفعال، همس إلى نفسه أنه قادر على تبديد الأوهام وطرد أشباح الخوف من الأذهان، تلفع بملابس صوفية، تأبط المطرقة والوتد، انطلق مهرولا، والظلام الدامس يغمره، ولما توغل وسط المقبرة، بدأ يشعر بالرعب، فقد اختلط عليه الأمر، وهو يسلك طرقا ضيقة متعرجة، لم تعد عيناه تبصران سوى أطياف متراقصة، متشابكة، فالطريق مليء بالظلمة والغموض والأشباح، بدأت تنتصب من حوله وتتدافع نحوه بالمناكب، صار الخوف يزلزل كيانه، فتتلاحق دقات قلبه ويتسارع نبضه، فيرتعش، وينتفخ رأسه، ثم يصاب بالدوران. 03- باتت قدماه مثقلتين، تجران ساقين واهنتين، فيتجرجر مترنحا، يتلفت، يكثر من السعال، وتبقى عيناه غائبتان في الفضاء، إنه يفقد قدرته على التمييز وهو منكب على دق الوتد، فجسده غارق في الإعياء، وخيوط العرق البارد متدفقة على خديه، يهز رأسه منتفضا، إنها صور مفزعة رهيبة، يا للهول، الموتى يستيقظون، هذا أمر عجيب، والأعجب من ذلك أنهم يحتضنون قبورهم مدافعين عنها، يا ويلتاه، ماذا أفعل؟ فجأة، اهتزت المقبرة بصيحة استغاثة رهيبة، عندما جذب ملابسه فلم تنجذب، فطفق يتلوا تعاويذ يتوجه بها إلى هذه الأشباح، عساها تخلي سبيله، وتفرج عنه، لكن ملابسه التصقت بالقبر التصاقا، وشدت إليه بإحكام، كانت الجبال تردد صدى صوته الشاحب، فيخالها أصواتا غازية، فيجهش بالبكاء، وقد أخذ يتخلص من ملابسه وفرائصه تصطك، يفزع راكضا عاريا بين القبور، يصرخ بصوت مبحوح، أنا لست غازيا، ومن هول الفاجعة كاد أن يفقد وعيه، لولا أن تداركه لطف من الله، ورهط من الطلبة كانوا متخندقين على أطراف المقبرة، أبصرته وهو مزروع في الطريق ككائن أثري، ولما دنوت منه، وقف أمامي يلهث، كان مندهشا متعبا، يروي لنا ما حدث، بادرته بالسؤال: ماذا وقع يا رضوان؟ تحركت شفتاه وارتعشت أصابعه، ثم نظر إلينا مصعوقا. 04 - نكس رأسه وهو يتحدث إلينا بصوت الراوي الحصيف: احتضنتني الأرواح الشريرة بقوة، وطوقت عنقي من الخلف، أخذت تجردني من كل ملابسي، إنهم كائنات بشرية تحمل وجوها معظمة تومض بالألوان والأشكال، تمتزج أحاديثهم بالرعب، لبثت ساكنا أمامهم كما لو كنت مصلوبا، يفتح أحدهم فمه كالثعبان: ماذا تريد؟ فرددت خوفا، أريد الأمن ولا شيء غير ذلك، فقهقهوا قهقهات مزلزلة، للأمن ثمن يا ولدي، قلت: لكم ما تريدون، المقابر هي الأمكنة المستثناة التي لا نسأل عن زيارتها، دعوني أقبلكم، وجدت عندكم حرية الفهم، وحرية الكلام، ورحابة الصدر، فأنا اختبر شجاعتي وصبري على جيوش الوهم؟ لا أريد إلحاق الأذى بأوتادكم، أنا أثبت وجودي بهذا الوتد النحيف الذي هو رمز الصمود والثبات، ذو الشأن العظيم في حياة الناس قديما، انه تفرد بمهام كثيرة، فكان يحتضن حبال الخيمة، وهموم المهاجرين والمهجرين، الرحل والمقيمين، كان ''كالجمل ينام عند كل بيت'' بدأ يندثر، ويستغني عنه أمام سطوة الحفارات والرافعات، والمتفجرات تغير اسمه وتحول إلى عامود أو خازوق له شهرته الدموية في سجن ''أبو غريب'' وفي معتقلات الربيبة الشمطاء إسرائيل، أتعرف سجن أبوغريب؟ أجل..لماذا تخجل من ذكر إسرائيل؟ هي مستثناة ياسيدي، وأنا في الحقيقة أحافظ على مشاعر البغال والحمير، أردت إبعاد هذا الوتد إلى حين استرجاع الخيول سيادتها، أنا لست من ذوي الأوتاد، الذين طغوا في البلاد. 05- تصايحت الأرواح وقلن: إن لم تكن منهم فأنت من ملوثات الزمان والمكان، أنت منتوج أفكارهم الوتدية الإفسادية، أنت واحد من أبواقهم، فيا للخيبة إنكم ''تدقون المسامير على صوت المزامير'' دون وعي قلت: والله ما فكرت في شيء، قالوا: لقد لوثتم العقول بالتملق والبهتان، واتخذتم السياسة الوثنية مطيّة للنفاق وتخريب العمران، عفوا يا سادة النفاق هو الذي استعملنا، علا صخبهم وطفقوا يضحكون، قلت: إرهاب حمالة الحطب ومطارقها وأوتادها الآثمة هي التي أفزعتنا، صيّرتنا بلهاء، استغرقوا في التفكير وأعينهم محدقة قد أبتلعهم الصمت قلت: أما تذكرون حوار الحائط مع الوتد؟ قالوا لا نذكر.. ''قال الحائط للوتد لم تشقني؟ قال: سل من يدقني..'' إذن أنت مستعمل، أمركم عجيب، صرتم أوتادا تدق، وصارت مطارقكم قضاء وقدرا، أصبت كبد الحقيقة يا هذا، فذاك مكمن الداء!! قلت: عاش الحق لكن للأسف الحقيقة دفنت، باتت محفوظة في القبور بعد أن ضاقت بها الصدور، قالوا: لأمنك ثمن، قلت ما هو؟ أن تنحني ساجدا، قلت : لا أسجد إلا لله، ولا أنحني إلا للوطن، حينها أفرجوا عني، انفجر الرفاق بضحكات مجلجلة فانتبه مذعورا... 06- لاذ بالصمت هنيهة، ثم انكفأ على نفسه لائما معاتبا، وبدا أمام الرفاق كائنا بريئا كأنه يحمل هموم الدنيا وأخطاء أهل السياسة، فجأة انتبه مفزوعا وقد أصابه الوهن وصار يبتلع ريقه في اندهاش،عندما ترامت إليه ضحكاتهم المجلجلة، فأمعن النظر فيهم، وهم يقولون: أنت أسير أفعالك، ربما خلعت ملابسك خوفا، وتخليت عنها، فيطلق ضحكات ساخرة فيها الكثير من الرفض ليقول: أليست هي التي تخلت عني كما تخليتم عن ملابسكم؟ أنتم غير منتبهين لهذا، فامتدت أناملهم تتلمس أجسادهم وإذا بهم جميعا يتصايحون: يا للفضيحة إنهم عراة!! يا للعار هم أضحوكة!! إنها لإحدى الكبر، قلت بل هي الخفافيش المستترة، والنكرات العابثة غزتكم بأوبئتها في عقر داركم، وصيرتكم دمى مبرمجة، للتو تواروا خجلا خلف أصابعهم يتلاومون، تقدمت منهم ببطء وأنا أرنو بعيني بعيدا، ورفعت صوتي يا أهلي ويا عيالي، إنكم في عام: 2009 وما زلتم ضعافا متخاذلين تختفون كالأرانب، وهل الضعيف الخائف الذليل يطير بأجنحة عارية مكسورة ليصل؟ 07- صاحوا منفعلين أفي المقابر تثبت الجذور؟! أجل! في ذلك رجوة أمل، التقط أنفاسه وحمد الذي لا يحمد سواه، عندما أدركه الصحو إثر نداء خفي، فردد كلمات بلهاء غير مترابطة وسط هذا الصخب، وقال: يا الهي، إن بعض الذكريات الجميلة تكون مدفونة مع أصحابها، وصداها ما يزال في نبض الناس باقيا، أنا ضحية أوتاد تركت مزروعة، أنا أسير الذكريات!! أتشهى سماع الحكايات الملطفة، وشعر برعشة ارتياح لم تدم إلا ثواني، فجأة تنهد وفزع يقول: فعلها الوتد الخبيث إي والله!! سامحيني أيتها الأرواح الطاهرة، فأنا أعيش على وقع الهزائم كابوسا رهيبا، اعتاش على الصدقات وأصف لواعج همومي، أنام على كنوز الدنيا وأمد يدي مستجديا، أنا عملاق مفتون بالترهات، ثائر منبطح، معولم إلى النخاع. ''عصروني كحبة عنب'' فصرت تافها مثلهم اشتغل بالتوافه وأتلهي بالقشور ''في الكف لاشيء غير السراب''.!! وانصرف منتشيا،، من يومها والصحف تكتب عن الوتد وأهل المدينة يسألون ...ولكن..؟