في ساحة المرجة بقلب العاصمة السورية دمشق، يوجد ساري كبير تحيط به حديقة غنّاء تستمد مياهها من أحد فروع نهر بردي الشهير، المنظر العام الذي يضفي نوعا من الشاعرية والرومانسية يخفي وراءه حكاية تاريخية تهز الوجدان وتقشعر منها الأبدان. فهذا الساري كان منذ قرون واحدا من أكبر الخوازيق التي كانت تستخدم في إعدام المعارضين السياسيين وأبطال النضال الوطني، ونظرا لبشاعة شكل الخازوق، فقد تم تهذيبه وتحويله إلى صورته الحالية. »الشروق« تبحر عبر الزمن لتكشف عن أبشع وسائل الإعدام، وأشهر من تمت خوزقتهم، خاصة وأنه يتردد في وقتنا الحالي على لسان كثير من السجناء الذين خرجوا من المعتقلات الأمريكية حكايات حول عمليات إعدام بالخازوق كانت تتم في تلك المعتقلات في حق العرب والمسلمين. الخازوق أبشع وسائل الإعدام تتعدد وسائل الإعدام فمنها الرمي بالرصاص... الشنق... الجلد حتى الموت... حقنة سامة قاتلة... وأخيرا الإعدام بالخازوق، طرق كثيرة ممكن أن نتصورها، لكن ما لا يمكن تصوره أسلوب الإعدام بالخازوق، فهذه الطريقة البشعة والتي لا أساس لها سياسيا أو دينيا، تعتبر أكثر ما توصلت له البشرية من اعتداء في حق المذنبين أو المجرمين، والغريب في الأمر أن بعض القبائل العربية هي التي تبنّت طريقة الإعدام بالخازوق. وكلمة الخازوق تستخدم كثيرا في حديث أهل المشرق اليومي، وفي اللغة الدارجة أصبح الخازوق مرادفا لكلمة مقلب، لكن الخازوق في الحقيقة شيء أبشع بكثير من مجرد مقلب، فهو وسيلة إعدام وتعذيب في الوقت ذاته، تمثل إحدى أشنع وسائل الإعدام، حيث يتم اختراق جسد الضحية بعصا طويلة من ناحية، وإخراجها من الناحية الأخرى، ويتم إدخال الخازوق من فم الضحية أحيانا، وفي الغالب من الشرج، بعدها يتم تثبيت الخازوق في الأرض ويترك الضحية معلقا حتى الموت. أما الأبشع في هذه الطريقة، أنه يتم إدخال الخازوق بطريقة تمنع الموت الفوري، ويستخدم الخازوق نفسه كوسيلة لمنع نزف الدم، وبالتالي إطالة معاناة الضحية لأطول فترة ممكنة تصل إلى عدة ساعات، وإذا كان الجلاد ماهرا فإنها تصل إلى يوم كامل. تاريخ الخازوق بين الشرق والغرب وفقا لما ذكره المؤرخ الإغريقي هيرودوت، فإن الملك الفارسي داريوس الأول قد قام بإعدام حوالي 3000 بابلي بالخازوق عندما استولى على مدينة بابل، وربما كانت هذه هي أقدم إشارة لهذه الأداة في كتب التاريخ، ولذلك فمن المرجح أنه ابتكار فارسي، ففي روما القديمة كانوا يفضلون الصلب. واستخدم الخازوق أيضا في السويد خلال القرن السابع عشر الميلادي، وقد كان أداة لعقاب المتمردين في إقليم تيرا سكانيا الدانماركي، وقد كان الخازوق يتم إدخاله بين العمود الفقري والجلد، وبهذه الطريقة كان الضحية يظل يعاني لأربعة أو خمسة أيام قبل أن يموت. وما بين القرنين الرابع عشر والثامن عشر كان الخازوق هو وسيلة إعدام الخونة في اتحاد الكومنويلث البولندي الليتواني. ومن المرجح أن استخدام الخازوق كان شائعا في العصور الوسطى في أوروبا، كما أنه من الشائع أن كلا من فلاد الوالاشي المعروف بدراكولا، وإيفان الرهيب كانا أشهر المستخدمين لطريقة الإعدام هذه. الأتراك ورحلة الخازوق في عالمنا العربي للخازوق تاريخ طويل في منطقتنا العربية، وقد كان مستخدما في مصر الفرعونية القديمة، حيث كان ينص قانون حورمحب أن السارق يعاقب بألف جلدة، وقد تصل العقوبة في بعض الأحيان إلى الحبس أو الإعدام بالخازوق. وبعد دخول الأتراك العثمانيين لمصر والشام، تم استخدام الخازوق على نطاق واسع، وقد نقل الأتراك الخازوق من العراق، وأجروا العديد من الدراسات حول استخدامه، وكانت الدولة العثمانية تدفع المكافآت للجلاد الماهر الذي يستطيع أن يطيل عمر الضحية على الخازوق لأطول فترة ممكنة تصل إلى يوم كامل، حيث يتم إدخال الخازوق من فتحة الشرج ليخرج من أعلى الكتف الأيمن دون أن يمس الأجزاء الحيوية من جسم الإنسان كالقلب والرئتين بأذى قد يودى بحياة »المُخَوزَق« سريعاً، أما إذا مات المُخَوزَق أثناء عملية الخَوزَقَة، فيحاكم الجلاد بتهمة الإهمال الجسيم وقد يتعرض لتنفيذ نفس العقوبة عقابا له على إهماله. سليمان الحلبي... أشهر ضحايا الخازوق من المعروف أن أشهر حالة خوزقة في تاريخنا الحديث هي حالة البطل »سليمان الحلبي«، الذي قتل القائد الفرنسي كليبر، فقد تعرض سليمان للتعذيب حتى حملوه على الاعتراف، بالتهم المنسوبة إليه، ويقول الجبرتي: »فلمّا أن كان المتهم لم يَصدق في جواباته، أمر ساري عسكر أن يضربوه حكم عوائد البلاد، فحالا أن ضرب لحد أنه طلب العفو ووعد أن يقر بالصحيح فارتفع عنه الضرب وانفكت له سواعده وصار يحكى من أول وجديد«، وفي المحاكمة طالب مقرر المحكمة سارتون أن تكون عقوبة الجاني من العقوبات التي يسوغها عُرف البلاد المصرية، فقضت المحكمة بأن تحرق يد سليمان الحلبي اليمنى ثم يعدم فوق الخازوق وتترك جثته فوق تل العقارب حتى تفترسها الجوارح، أما شركاؤه فيُعدمون بالقتل على الخازوق ومصادرة أموالهم على أن تقطع رؤوسهم ثم توضع فوق الرماح وتحرق جثثهم بالنار، لكن هذه الواقعة التي تمثل ملحمة بطولية لا يعرفها الكثيرون، بالرغم من أنها تكشف بشاعة وإجرام الاحتلال الفرنسي على مرّ التاريخ وفي مختلف المناطق العربية. بطل كردي تحمّل الويل من أجل أمته في يوم 28 جوان من عام 1800... نفذ حكم الإعدام بالفلسطينيين الثلاثة الذين ساعدوا سليمان في مهمته أمام عينيه، وتمَّ حرق أجسادهم حتى التفحم، ثم غُرِزَ وتد الخازوق في مؤخرة سليمان الحلبي فوق تل حصن المجمع »تل العقارب« بالقاهرة، وبقي جثمانه على الخازوق عدة أيام... تنهشُهُ الطيور والوحوش. هكذا أذن أُستشهد البطل الكردي سليمان محمد أمين المعروف بسليمان الحلبي قاتل قائد الحملة الفرنسية على مصر والشام في بدايات القرن التاسع عشر. وقد كتب لوتسكي عن بطولته قائلا: »... وبعد مدة قصيرة 14 جوان عام 1800 اغتيل كليبر من قبل »الإرهابي« سليمان الحلبي... والذي تسلل إلى محل إقامة كليبر فطعنه بخنجره عدة طعنات، وحكمت المحكمة العسكرية الفرنسية بحرق يد سليمان ومن ثم خوزقته، كما قطعت رؤوس أربعة شيوخ مسلمين بتهمة اشتراكهم في الجريمة، وقد قابل سليمان الموت ببسالة، إذ وضع يده بجرأة في النار الملتهبة ولم ينبس ببنت شفة حينما كانت تحترق كما كان باسلا طيلة الساعات الأربع والنصف الذي قضى من بعدها نحبه وهو مخوزق«. الأزهر حينما كان رمزا للجهاد في سبيل الله ولد سليمان عام 1777 في قرية كردية سورية من أبٍ متديّن كان يعمل بالتجارة، وحين بلغ العشرين من عمره أرسله أبوه عام 1797 بَرًّا إلى القاهرة ليتلقى العلوم الإسلامية في جامعة الأزهر واستقرَّ في »رُوَاق الشُّوَام« المخصص للسكن الداخلي لطلبة الأزهر من أبناء بلاد الشام، وداخل الأزهر توطّدت صلته بالشيخ أحمد الشرقاوي أحد أساتذته وأحد الشيوخ الذين رفضوا الاستسلام للغزوة الفرنسية وساهم في إشعال فتيل ثورة القاهرة الأولى يوم 21 أكتوبر 1798. ولم يفارق سليمان الحلبي أستاذه الشيخ الشرقاوي، بل كان إلى جانبه عند اقتحام جيش نابليون أرض الجيزة وأرض القاهرة. ووقتها أرسل بونابرت رسالة إلى شريف مكة غالب بن مسعود، ووجه بياناً آخر إلى مشايخ وأعيان القاهرة يبشرهم كما زعم بأنه هدم الكنائس في أوروبا، وأنه خَلَعَ بابا روما قبل قدومه إلى مصر، وأنه عاشقٌ للنبي محمد (ص)، وأنه نصيرٌ للدين الإسلامي...!! لكن الشعب المصري لم ينخدع بتلك المزاعم، وقام بإشعال ثورة القاهرة الأولى ضد الغزاة انطلاقاً من منطقة الجامع الأزهر. فما كان من الغزاة إلا أن رَدَّوا عليهم بقصف مدينة القاهرة بقذائف مدافعهم حتى نالت من قدسية المسجد الأكبر، ودنسته خيولهم، وحكموا على ستةٍ من شيوخ الأزهر بالإعدام منهم الشيخ الشرقاوي أستاذ سليمان الحلبي. اقتيد المشايخ الشرفاء إلى القلعة، حيث ضربت أعناقهم، ثم انتشلت أجسادهم إلى أماكن مجهولة. المقاومة الإسلامية للجيوش الفرنسية وبعد تمكن الغزاة من إخماد الثورة، تضاعف العدوان، ولوحق كل مشبوه باسم الجهاد والمقاومة الشعبية الوطنية. وكان بونابرت قد اجتاح كلاًّ من خان يونس والعريش وغزة ويافا وفشل في اجتياح أسوار عكا، فعاد نابليون بجيشه إلى مصر مدحوراً من بلاد الشام، ومنها توجه سرًّا إلى فرنسا عن طريق البحر ليلة الاثنين 16 أوت 1799، تاركاً قيادة جيشه في مصر إلى الجنرال كليبر، وبعد أن وجَّهَ نابليون بيانه الشهير إلى اليهود لإقامة دولة »إسرائيل الكبرى« بدءاً من أرض فلسطين... كان سليمان الحلبي عنصراً من عناصر المقاومة الإسلامية التي تناضل في سبيل تحرير مصر والشام من الغزاة، وبعد عودته ثانية من الشام إلى مصر انضم سليمان إلى مجموعة طلاب الأزهر الشوام المقيمين في رواق الشوام، وكان منهم أربعة مقرئي القرآن من فتيان فلسطين أبناء غزة، هم محمد وعبد الله وسعيد عبد القادر الغزي، وأحمد الوالي. وأعلمهم سليمان عزمه على قتل الجنرال كليبر، وأنه نذر حياته للجهاد الإسلامي في سبيل تحرير مصر من الغزاة، وربما لم يأخذوا كلامه على محمل الجد. وفي صباح يوم 15 جوان 1800... كتب البطل سليمان الحلبي عدداً من الابتهالات الضارعة إلى ربه... على عدد من الأوراق... وثبتها في المكان المخصص لمثلها في الجامع الأزهر... ثم توجه إلى بركة الأزبكية، حيث يقيم الجنرال كليبر في قصر محمد بك الألفي، الذي اغتصبه بونابرت لسكنه. فرغ كليبر من تناول الغداء في قصر مجاور لسكنه ومعه كبير المهندسين الفرنسيين قسطنطين بروتاين، وكان سليمان قد دخل حديقة القصر، وتمكن من طعن الجنرال كليبر بسكينته أربع طعنات قاتلة في الكبد والسُرَّة، وفي ذراعه اليمنى وخده الأيمن. وتمكن كذلك من طعن كبير المهندسين قسطنطين بروتاين ست طعنات في أماكن مختلفة من جسمه. ألقيَ القبض عليه في الحديقة من قبل الفرنسيين، فجُرِّد من سكينته التي جاهد بها، فحُكِمَ عليه بالإعدام بالخازوق حتى الموت. جمجمتان للإرهابي المحتل والبطل الشهيد وحملت عظام الجنرال كليبر في صندوق، وعظام سليمان الحلبي في صندوق آخر. وعند إنشاء متحف »انفاليد الشهداء« بالقرب من »متحف اللوفر« في باريس، خصص في إحدى قاعات المتحف اثنان من الرفوف من رف أعلى... وضعت عليه جمجمة الجنرال كليبر، وإلى جانبها لوحة صغيرة مكتوب عليها »جمجمة البطل الجنرال كليبر«، ورفّ أدنى تحته... وضعت عليه جمجمة سليمان الحلبي، وإلى جانبها لوحة صغيرة مكتوب عليها »جمجمة المجرم سليمان الحلبي«، والجمجمتان لاتزالان معروضتين في المتحف المذكور حتى اليوم. دمشق: وليد عرفات