لم يكن يظن أنه سيمكث على هذه الأرض ويعمر في الحياة قرنا كاملا.. ولكنه عاش.. رحل أصدقاؤه وأغلبية من هم من جيله، مثل سارتر ، هوالمفكر الفذ كلود شتراوس بقي بعدهم كلهم وعبأ حياته طوال سنينه الأخيرة بقراءة الروايات وتعلم اللغات.. ويمضي وقته وكأن لا علم له بسنواته المائة وما كان ليتذكر القرن الذي يحمله عمره لولا الاحتفال الذي أقامه له القرويون بعيد ميلاده، المائة أي قبل وفاته بمدة قصيرة.. بتلك المناسبة تناولت كل وسائل الإعلام الفرنسية مساره الفكري وخصصت له الصحافة الثقافية حيزا هاما تعرضت فيه لأهم إنجازاته وأعظم أعماله التي ارتقت به إلى قمة المجد وجعلته مؤسس البنيوية في الفكر الحديث والتي شاعت كمنهج فكري حديث انتشر في كامل أرجاء العالم. رحل كلود ليفي وبقيت البنيوية بعد أن تخلت عن ثوبها كصرعة إيديولوجية كمنهجية بحثية علمية متبعة مسار الحركات الفكرية التي غيرت مرحلتها وأضافت الجديد للتراث الفكري الإنساني. نظرية كلود ليفي شتراوس في البنيوية يعتبرها جل المفكرين المعاصرين على المستوى العالمي نقلة هامة في مجال الفكر النقدي، وأكدت أن كل مظهر وكل ممارسة سياسية واجتماعية وثقافية ،وكل العادات والتقاليد بنية واحدة .. شكلت علاقات القرابة بين أفراد قبائل الهنود الحمر محور اهتمام العالم ليفي شتراوس وراح يطبقها على هذه القبائل التي عايشها لفترة ليستنتج أشياء مدهشة أحدثت انقلابا في علم الأنثروبولوجيا، شروحات هذه الاكتشافات شملها مؤلفه الضخم الذي صدر سنة 9491 تحت عنوان ''البنى الأولية للقرابة'' أوضح فيه أن زواج الهنود الحمر وكل المجتمعات البشرية تتحكم فيه قوانين وضوابط غير مرئية للناس ولكنها بمثابة اللغة التي يتخاطب بها أفراد المجتمع والقبائل فيما بينهم.. وإذن وحسبما تنص عليه منهجية البنيوية لصاحبها شتراوس يمكن دراسة هذه العلاقات الاجتماعية مثلما تدرس العلاقات البنيوية في اللغة.. لأن الوحدة الصوتية الأولى مثلها مثل البنية الأولية للقرابة .وإذا كانت العلاقات بين الوحدات الصوتية هي التي تعطي شكل المعنى في اللغة فإن المصاهرة بين عدة أطراف هي التي تشكل نسيج النظام الاجتماعي.. وهذه الطريقة اعتمدها شتراوس في تدريسه لنظريته أي أنه يدرسها كما يدرس عالم الألسنيات اللغة... ولاحظ ليفي شتراوس أن أنظمة القرابة والروابط العائلية والقبلية في شتى المجتمعات لها ثوابت ولها متغيرات.. من ضمن هذه الثوابت عدم الزواج بالمقربات كالعمة والخالة والأخت والأم وغيرهن .. وهذا ما يؤدي إلى فتح باب المصاهرة بين العائلات المتباعدة ما يؤدي إلى إنشاء علاقات اجتماعية وإنسانية دائمة الحركية .. وما هذه في نظر عالم البنيوية إلى لغة قابلة للدراسة بنيويا شبيهة بدراسة اللغة. اكتشافه هذا جعله يولي أهمية خاصة للاستفادة من علوم الألسنيات تزامنا مع تألق البنيوية التي احتلت مكانة رائدة لدى الباحثين ،وإن كان منهم من أفرط في اتكاله على شكلانية التطبيق . مع العلم أن لفي شتراوس دعا إلى استعمال علم الألسنيات لتطوير نظريته وجعلها منظومة تواصل وتبادل في المجتمعات . وقسم العالم نظريته على ثلاث مراحل: 1 - علاقات الزواج بين العائلات وتبادل النساء مما يولد حركية متشابكة في العلاقات الاجتماعية، وتنشأ هذه الشبكة بناء على تساؤلات عدة منها: ما هي معايير اختيار المصاهرة بين العائلات؟ وما هي القوانين التي تتحكم في ذلك وكيف تتم دراسة البنية المجتمعية؟ 2 - العلاقات المهنية والتجارية بين أفراد المجتمع، وهل تتم بناءا على قوانين وضوابط معينة في علم الاقتصاد أم لا. 3 - المخاطبة الكلامية بين الناس وهي تتم بناءا على قوانين غير واعية. ومن ضمن معاني البنيوية حسب ليفي وحدوية الجنس أي أنها تعد أيضا من الثوابت الطبيعية للبشرية، فالأجناس معها اختلقت أنواعها والبشر معها تنوعوا لا تختلف طبيعتهم البشرية، وشتى المجتمعات التي تعمر الأرض الصغيرة والكبيرة ،الصناعية أو الزراعية ،الحضارية أو البدائية كلها ذات طبيعة بشرية واحدة، الإنسان هو الإنسان في كل مكان، له نفس المشاعر ونفس الأحاسيس ونفس الجوارح، يفرح ويحزن ويبكي ويحسد إلى غير ذلك ولكن كل يفعل ذلك بطريقته تماشيا مع نوعية وبيئة ومستوى المجتمع الذي يعيش فيه . لكن الأحاسيس المنبثقة منه واحدة ،على أن تركيز شتراوس على اللامتغيرات عرضه للاتهام بأنه ضد التطور والحركية التاريخية والجمود .ولم يتحمل صاحب النظرية هذه الادعاءات والتهم وراح يدافع عن نفسه وأوضح في العديد من المرات أنه لا يكره التاريخ وليس ضد التطور كما أنه ضد الجمود والثبوت إلا أنه يدرك أن هناك دوافع عميقة وأحاسيس باطنية لا واعية تسير الروح البشرية وتتحكم في عقلية الإنسان ومن الصعب التأثير عليها، لذا فهو كباحث يرى أن دوره يكمن في الكشف عن هذه الدوافع الراسخة والمتحكمة في سلوكات وعقليات البشر حيثما كانوا. ولا أحد يستطيع أن ينكر أو يكذب أن البشر غير مختلفين، فالحروب نشبت منذ ألاف السنين والناس أحبت وكرهت وتزوجت منذ آلاف السنين، وإن اختلفت الوسائل والظروف لكن الأفعال ظلت نفسها والمشاعر نفسها والحاجات نفسها وإذا كان كانط يؤمن بوجود مقولات سابقة تتحكم في العقل البشري قبل أن يناط بمهمة التفكير فإن ليفي شتراوس استنتج وجود قوانين وإكراهات أبدية تسيطر على الروح البشرية.. كل هذه الأشياء لا يشعر بها الإنسان ويظن أنه يفكر وينصرف ويحيا بحرية ويسير أموره وينظم حياته بطريقة عفوية لعدم وعيه بهذه الإكراهات، إنه لا يدري أن ثمة من يحركه ومن يقوده ومن يقول له ماذا يفعل وماذا لا يفعل، ولكنه لا يراه ولا يشعر به، فهو متخف في العقل اللاوعي، وذلك ما جعل عالم البنيوية يعتقد أن الإنسان مسير لا مخير وإن بدا غير ذلك، هذه النزعة المحافظة جعلت منه خصما لجان بول سارتر التقدمي الرومانتيكي المؤمن بقدرة الإنسان على تغيير المجتمع وتطويره وأيضا بطبيعته البشرية. ما إن أعلن عن نبأ رحيل عالم الانثروبولوجيا كلود ليفي شتراوس في الأيام الماضية حتى هبت الأوساط الإعلامية والسياسية والعلمية تعرب عن أسفها لغياب عبقري الفكر الفرنسي، وسيد الانثربولوجية ومكتشف السولفيج كما أسمته العديد من الصحف الفرنسية إثر إعلان النبأ فهو يعد من أبرز وأعظم مفكري القرن العشرين أنفق حياته المديدة (101) في البحث والتأليف حتى أن ساركوزي وصفه في كلمته التأبينية ''بالإنسان الذي لا يتعب'' في حين أطلق عليه شيراك تسمية ''المثقف الاستثنائي'' وهو الذي علم العالم كيف يرى ويسمع ويشاهد بطريقة مغايرة هذا قاله عنه وزير الثقافة الفرنسي فرديريك ميتران .. وفاة ليفي شتراوس شكلت حدثا مؤثرا اهتزت له الصحف والوسائل السمعية البصرية وكرست له المساحات العريضة والمقالات المطولة متعرضة لانجازاته وإضافاته البارزة التي شكلت نقطة تحول في علم الأنثروبولوجيا .فهو كما وصفته جريدة لومند ''اب الانثروبولوجيا'' . كل الآراء اتفقت على أن شتراوس المولود في بروكسل عام 8091 كان أعظم عالم في فرنسا.. تمكن من تأسيس منظومة فكرية جديدة تترجم رؤيته للإنسان، درس الفلسفة هو المتيم م بالفن التشكيلي لكن محب للموسيقى شغوف بها، إلا أن افتنانه بأسرار الإنسان وإيمانه بأن الإنسان واحد مهما كان وأينما وجد جعله كعالم أنثربولوجيا يبرهن للعالم أن هناك بنية واحدة تربط الجنس البشري وثمة تشابها في الذهنيات البشرية.