المحن تصنع الرجال وتشكل قامتهم، فبحجم المحن والصعاب تعلو قامة الرجال كما القمم التي تقف في وجه أعتى العواصف، ولا تكاد تخلو شخصية جزائرية من هذه المواجهة بينها وبين الصعاب، وصدق الأفغاني حين قال »الأزمة تلد الهمة« وأزمة الجزائري أنه كان يحب العلم، بل الحلم الذي يتعلق به ويتمنى أن يحققه هو التعلم، ولم تكن الطرق إلى العلم سهلة ومعبدة، بل كانت مكابدة ومجاهدة ومشقة ليس على طالب العلم فقط، بل على أسرته أيضا، ومن هذه المصاعب والأزمات انبثقت الأرض الصلبة لتخرج منها هذه القامة العلمية المتمثلة في اللغوي الأديب موسى الأحمدي نويوات. موسى الأحمدي العالم الذي يشبه الأسطورة، بل هو نسيج من ملحمة انسانية ونبوءات الصالحين التي تشبه نبوءات آلهة اليونان القدامى في ملاحمهم وإلياذاتهم، » نسأل الله الوهاب الرزاق أن يرزقك ولدا، ويجيئك عالما أو ظالما« هل تحققت الرؤية، وهل استجيبت الدعوة؟ بهذه القصة الملحمية التي لم تكن من الأسطورة، إلا أنها أخذت بناء الأسطورة ونسيجها، وما أكثر الحقائق في وطننا التي تشبه الأساطير لأننا مجتمع يملؤه الصفاء ويعمره الإيمان والخير. بدأت القامة تتشكل. قصة ميلاد الشيخ موسى الأحمدي نويوات بدأت كما الأسطورة وتواصلت كما تتواصل حياة الفرسان الآتون من أرض بعيدة لا يملكون إلا إرادة، ويواصلون طريقهم. يقول الشيخ موسى الأحمدي إنه ولد بعد ست سنوات من يوم أن قطعت والدته الولادة وأنه قبل ولادته حدثت لأمه قصة مفادها : »إن امرأتين من أولاد سيدي حملة تجولان الأحياء، لما جاءتا إلى منزل الوالدة قالتا لها: » قدمي للحمارتين التبن والشعير رزقك الله بولد، فضحكت الوالدة، فقالتا لها: مم تضحكين؟ فقالت: يا ضيفتي العزيزتين إني عجوز توقفت عن الولادة منذ ست سنوات، فقالت لها المرأتان نسأل الله الوهاب الرزاق أن يرزقك ولدا يجيئك عالما أو ظالما، فكنت أنا المرزوق«. قصة الشيخ موسى الأحمدي تشبه الأسطورة وما هي بالأسطورة، بل تشبه قصص الأنبياء مضمونا وإن كانت تختلف عنهم رتبة وشكلا، فهي تشبه قصة الملائكة مع أم الأنبياء »سارة« حين انبئت بميلاد إسحاق عليه وعلى نبينا السلام، إلا أن تلك البشرى كانت من الملائكة، أما بشرى أم موسى فكانت من بشر ومن امرأتين، ثم ها هي الأسطورة والتي ما هي بالأسطورة تتشابه وقصة سيدنا يوسف عليه السلام في عدد إخوته الأحد عشر وكان أصغرهم، ثم حياة التشابه تتكرر، فالأخوة يحبون حياة البدو الرعاة يرعون الإبل والغنم أو يحرثون قطعة أرض صغيرة، إلا أن هذا الطفل المبشر به يكون استثنائيا في حياتهم البدوية، حيث تخطط له الأقدار كما تخطط لأبطال الأساطير حتى لا ينشأ هذه التنشئة وإنما ينشأ حسبما جاءت به البشارة، فبعد أن كانت أسرته تسكن بيوت الوبر والشعر رحلت لتسكن وتستقر في بيوت الطين والحجر في منطقة تسمى »السعدة« بالقرب من جامع سيدي عقبة. الملاحظ في حياة هذا العلامة أنها حياة مرمزة مشفرة حتى في الأسماء »السعدة« و»عقبة« قد ترمز إلى "السعد" الذي هو الحظ أو السعادة، وعقبة« وهو المستقبل »وعقبى الدار« ولم تبدأ هذه الرموز في الحل إلا بتدرج هذا الطفل في الحياة والتحاقه بجامع سيدي عقبة ليحفظ القرآن الكريم ويتعلم مبادئ القراءة والكتابة، وهكذا تمضي القصة فيترك الطفل عند رجل من ذوي الإحسان يدعى ب»العلمي« وترحل أسرته كما كانت ترحل في الماضي، وبدأ الطفل يتعلم ويهجئ الحروف وعندما أحس بأنه بلغ هذا المبلغ من التفريق بين الحروف كتب رسالة إلى أهله كما يروي، رسالة خربش حروفها وأرسلها إلى أهله، وعندما وصلت - يقول موسى الأحمدي - إلى والدي »ركب فرسا وراح يجوب القرية يبحث عمن يقرأ له تلك الرسالة، فلم يفهم أي قارئ ما كتبت فيها.. وعاد والدي إلى المنزل مسرورا وقال لوالدتي: إن ابننا صار طالبا ممتازا، لقد عجز "الطلبة" ان يفهموا ما كتب لأنهم دونه في الفهم«. لو بدأت هذه الحياة أو كان لها شيء من الشبه في شخصية غير شخصية موسى الأحمدي ووجدت بالمشرق العربي المولع بالأساطير والنبوءات لصنع منها ملحمة تلفزيونية تكون أكثر تأثيرا من مسلسل جمال الدين الأفغاني أو محمد عبده والعقاد، ولذاع صيتها في المجتمعات العربية. ليست قصة موسى الأحمدي بالخيالية ولا الواقع الجزائري الدرامي التراجيدي بالواقع السينمائي الذي يتم استخياله ليتحول إلى دراما، بل كان واقعا حقيقيا تجري فيه الحياة كما تجري في الأساطير، فمن هو موسى الأحمدي؟ هو موسى بن محمد بن الملياني بن النوي بن عبد الله بن عمر بن أحمد الأحمدي بن محمد بن سعيد بن حمادة بن إبراهيم بن عيسى بن يحيى بن لخضر. ولد موسى في 15 جانفي سنة 1900 بمنطقة أولاد عدي لقبالة بمنطقة المسيلة. أول ما تعلم بجامع سيدي عقبة كما سبق ذكره بعد أن قام بكفالته العلمية ذلك المحسن السيد »العلمي«، وبعد أن مكث سنتين تحت رعاية ووصاية السيد العلمي التحق بأسرته المقيمة بالحضنة، ومنها ذهب إلى برج الغدير ليواصل حفظه للقرآن الكريم ويأخذ العلوم الشرعية من فقه وتوحيد ونحو على يد الشيخ محمد أرزقي بزاوية الحاج السعيد بن الأطرش، وعندما بلغ سن الفتوة اندلعت الحرب العالمية الأولى (1914-1918) وكان لابد لهذه الحرب من حطب لكي توقد، ولابد من تجنيد الشباب الجزائري المهمش والذي كان يعيش على حافة الحياة يتناهشه المرض والفقر ويقذف به الجهل في مرامي الهلاك. ينقطع الفتى الأحمدي عن الدراسة وتختطفه الحرب وتقذفه في أتونها على خط القتال مع الجيش الفرنسي على أرض الألزاس واللورين في ألمانيا، وهذا مشهد ثان من مشاهد الحياة الدرامية المتصاعدة، ولم يكن في هذه الحرب بمفرده، بل كان مع آلاف الجزائريين الذين سيقوا إلى جحيم الحرب قسرا مرغمين ولكل واحد منهم قصة مأساة. عاد موسى الأحمدي من الحرب التي ألقت أوزارها ليدخل مرة أخرى جبهة جديدة؛ جبهة العلم وهي الأخرى لا تقل قساوة من الحرب ذاتها، خصوصا إذا كان طالب العلم جزائريا لا يملك من وسائله إلا الإرادة في تحصيله مهما كانت الظروف. يعود موسى الأحمدي من الحرب إلى طلب العلم، كانت يومئذ قسنطينة مدينة العلم إليها يفد الطلبة من كل إنحاء الوطن، ليتلقوا العلم من الإمام الشيخ عبد الحميد بن باديس حيث كان يتحلق حوله طلبة العلم ومريديه في الجامع الأخضر، فالتحق موسى الأحمدي بدروس الشيخ وواصل أخذه عنه مدة سنتين من 1926 إلى 1928م، ولم يكن تحصيله العلمي هذا سهلا، بل كان بمشقة ومكابدة نظرا لفقره وعجزه على سد الرمق أو توفير خبزة يومه، مما جعل هذه الفترة تحفر بذاكرته حفرا بناب الجوع ومخلب الفقر حيث يذكر ذلك قائلا: » نفد مرة ما عندي من الدراهم فبدا لي أن أعود إلى المنزل، فاستشرت الشيخ ابن باديس في ذلك، فقال لي لماذا؟ قلت : نفد ما لدي من المصروف، فاستدعى طالبا من ناحية باتنة وكان مكلفا بالإشراف على الطلبة وقال له: الخبزة الباقية من (24) خبزة أعطها لهذا الطالب، وقال لي وقال لي المشرف : كلها مختفيا وحذار أن يسمع طالب من الطلبة أننا أعطيناك خبزة، وكان عدد الطلبة الفقراء الذين حظوا بهذه الخبزة (23) طالبا وأنا تمام الأربعة والعشرين...«. ويضيف الأحمدي في روايته هذه » بدأت حالتي الصحية تتحسن، وظهرت النضارة على وجهي وراح بعض الطلبة يسأل عن سبب هذا التبدل المفاجئ ولم يهتدوا إلى ما أخفيته عنهم«. أين هذه المشهد من المشهد الذي رسمه الدكتور طه حسين عند التحاقه بجامع الأزهر وهو يصف صحن الفول والعسل وكيف كان يمسحه حتى يظن أنه غسل بالماء الصابون والجافال في أيامه. لم يبق الأحمدي في قسنطينة، فقد لاحظ الشيخ عبد الحميد بن باديس عليه معالم الفطنة والنباهة والذكاء فوجهه إلى تونس للدراسة في جامع الزيتونة وحمله وصية إلى الشيخ معاوية التميمي، فتوصى به خيرا وأشرف عليه إشرافا علميا وأدبيا، ومكث الأحمدي بجامع الزيتونة اربع سنوات واخذ العلم من كبار شيوخ جامع جامع الزيتونة، أمثال الشيخ الحاج احمد العياري والشيخ الزغواني والمختار بن محمود ومحمد اللقاني الجائري والشيخ عثمان بن الخوجة وعثمان الكعاك والشيخ عثمان بن المكي التوزري. عاد الشيخ موسى الأحمدي إلى أرض الوطن سنة 1930 يحمل معه شهادة »التطويع العلامية« وهي أعلى شهادة تمنحها جامعة الزيتونة، وكان حاملو هذه الشهادة نادرون يستقبلون عند أوبتهم إلى بلادهم استقبال العظماء، لكن عودة الأحمدي إلى ارض الوطن كانت عودة اضرارية، فقد شاءت الأقدار أن يتوفى والده وهو أحوج ما يكون إليه، حيث لقي من المصاعب والمشاق ما أجبره على القفول راجعا إلى بلاده. وقد عمل الأحمدي بين البرج - المسيلة - سطيف وراح يلقي خطب الوعظ والإرشاد في المساجد والقرى المجاورة من سنة 1930 إلى 1937، وأقبل عليه الطلاب من كل مكان فكان يلقي عليهم دروسه، وفي سنة 1937 طلب منه الشيخ ابن باديس أن ينتقل إلى مدينة برج بوعريريج ليعلم بمدرسة التهذيب، فاشتغل بهذه المدرسة إلى سنة 1941 يدرس بها مبادئ اللغة العربية وكون بها مكتبة تربو على الخمسة آلاف كتاب. وهكذا استمر الأحمدي ينشر العلم وكان عنده بمثابة باب من أبواب الجهاد، وكيف لا وهو من وضع نفسه في جبهة أمام عدو فتاك يفتك بالعقول فيرديها إلى الحيوانية ألا وهو الجهل. بقي الأحمدي مجاهدا وفارسا من فرسان العلم، لم يتعلم العربية من المدارس الحكومية ولا من الجامعات ولم يأخذ عن المشارقة، بل كان قامة جزائرية مغاربية كما نخلة دجلة نور المتميزة بثمرتها الطيبة الجيدة التي لم يخلق مثلها من التمور في العالم، ليلقى ربه في 17 فيفري 1999، وله من العمر قرن وسبعة عشر يوما. هذا الرجل الأسطورة أو الذي تشبه حياته أبطال الأساطير الذين يأتون من بعيد من وسط ضباب الأزمنة مؤيدون بالأقدار والنبؤات، ترك الأحمدي عدة مؤلفات من بينها كتابه »المتوسط الكافي في علمي العروض والقوافي«، وقد كان مقررا على طلاب الثانويات كما وضع كمقرر بمعاهد الأزهر الشريف والمعاهد الدينية في بلاد الشام، وله أكثر من 10 مصنفات، بالإضافة إلى ديوانه الشعري »وطنيات« وآخر بالشعر الملحون. رحم الله موسى الأحمدي الفارس الأسطوري الذي أخذ العلم من المغرب لكن استفاد منه أهل المشرق في كل من مصر والشام.