من المؤكد أن التأريخ بما يتضمنه من تجارب يجسد ذاكرة الشعوب، ووعاء متينا لحفظ مسار حضارتها، وجنة لها من التفكك والانحطاط، فخلاصة التجارب تحمل في مضامينها منطلقات التصدي وبين ثناياها دعائم التحدي ومراقي التطلع نحو المستقبل الأفضل، وعلى هذا الأساس ازداد الاهتمام بالمسائل التاريخية خاصة لدى الشعوب المتقدمة ومجتمعات المعرفة خاصة، ولم يعد تدوين التاريخ مقتصرا على الوقائع الحربية والخلافات السياسية بل صار التاريخ الحديث يهتم بأحوال المجتمعات وطبائع عمرانها ومعايير أفعالها، ويسجل كل صغيرة وكبيرة وفي شتى المجالات، بهدف تنوير البشر بالحقيقة وبالحقيقة وحدها، وصار المهتمون بالمسائل التاريخية يسعون إلى بسط أهم المحطات وإبراز أوجه الاستفادة من تجارب السلف وانتقاء أفضلها. والجزائريون اليوم، كغيرهم من الشعوب المتحررة يعملون بجد من أجل تدارك ما فاتهم واسترجاع ما ضاع منهم خلال حقبة الاستخراب الفرنسي اللعين. وقد أخطأ من اعتقد أن الشوائب الثقافية والأفكار الدخيلة على المجتمع الجزائري خلال تلك الفترة قد تأصلت، وما الظهور الشكلي لبعضها إلا نتاجا لبعض المتاعب المعاصرة التي ألمت بالشعب الجزائري بسبب الانزلاقات السياسية العالمية منها والإقليمية، ويبقى الشعب الجزائري دوما محافظا على أصالته وأخلاقه متمسكا بهويته العربية الإسلامية، كالطود الشامخ تنكسر على صموده تيارات الأحداث، فلا تزعزعه ولا تحيد به عن مساره الصحيح، يفاخر بعزته وأنفته ووفائه لأمته. هذه الأيام احتفلت الجزائر بذكرى ''11 ديسمبر1960م'' إحدى أهم محطات تاريخ الثورة التحريرية، يتجلى تحضر الشعب الجزائري وأخلاقه الرفيعة في رده على رعونة أشباه المثقفين والإعلاميين الجهلة في مصر وهيستيريا ساستها الذين لم يكفهم سوء المعاملة والهجوم على حافلة أعضاء الفريق الوطني الجزائري وأنصاره في القاهرة، وراحوا ينعتون الجزائريين بأقبح الصفات، ويخترعون الشتائم تجاه أعظم ثورة في القرن العشرين، يشتمون شعبا بأكمله وينعتون الشهداء من صانعيها بما لا يقبله عقل عاقل، يصفون شهداء الجزائر المسلمة باللقطاء والبلطجية...الخ، دون أن ينكر عليهم ذلك رئيسهم ورئيسهم المنتظر، بل راح النظام يعقد مجلس الأمن القومي وكأنه في حرب معلنة ضد الجزائر. الأكيد أن لا غرابة أن يقع أولئك السفهاء فيما وقعوا فيه من أغاليط، لأن النفوس إذا خامرها رياء أو نحلة قبلت بما يوافق أوهامها من الأخبار وحينها يكون التشيع غطاء يعمي أعين أصحابها وبصائرهم عن الانتقاء والتمحيص، فيقبلون بالكذب ويعملون على نقل شهادة الزور. إن نفوس هؤلاء مشحونة بحب التقرب إلى السلطان والتصنع على غير الحق، لا بالرغبة في الفضائل واستعمال معايير الحكمة ومجانبة الحق والحقيقة، فسفهاء مصر لم يحركوا ساكنا يوم كانت القنابل العنقودية والقذائف الفسفورية تلهب أجساد البشر وتشوي الأطفال في غزة، ولم يحركوا ساكنا والإسرائيليون يدنسون القدس الشريف أولى القبلتين وثاني الحرمين الشريفين، واليوم يتطاولون على الأمازيغ الذين كانوا واجهة العالم العربي الإسلامي في مواجهة الحملات الغربية المتكررة ودوخوا: ''الرومان والبيزنطيين والوندال والإسبان والإنجليز قبل أن يقهروا فرنسا ومعها الحلف الأطلسي في أعظم ثورة عرفها القرن العشرون ثورة نوفمبر الخالدة''، إن ما قام به سفهاء مصر وغوغاؤها، لا يعبر إلا عن محاولة لجر الجزائر إلى مستنقع الضحالة السياسية، ولم يسلم من شرهم السودان الشقيق الذي أثبت قدرته على التنظيم، وبرهن على مضيافة شعبه العربي المسلم. والرد الجزائري، بقدر ما كان درسا في الأخلاق كان عامل إسقاط لأقنعة طالما أخفت الوجوه القبيحة في مصر الشقيقة تحت شعارات القومية العربية، وطيلة عقود من الزمن وساسة القاهرة يرفضون وجود مزاحم لهم على الساحتين العربية والإفريقية وحتى الدولية، ويسعون لفرض أنفسهم بإيهام الرأي العام العربي بأسبقيتهم وأهليتهم في قياد الشعوب العربية والدفاع عنها أمام القوى الكبرى، ولم ينج من تلك المغالطة إلا شعبي الجزائر وسوريا بفضل الرصيد الثقافي والقيم الحضارية التي كانت لهما الحصن الحصين في مواجهات الهجمات الصليبية والتحديات العصرية، لهذا كان عدم الرد على سفهاء مصر أقوى من الرد، ''والسكوت على السفهاء أحسن جواب لهم طبعا''. إن الموقف المخجل لأشباه الإعلامين وأشباه المثقفين في مصر من تاريخ الجزائر سخره البعض لتمرير تأييد موقف فرنسا الاستعمارية، وتبرير جرائمها البشعة في حق الشعب الجزائري العربي المسلم. على العموم هذه فكرة حضرتني وأنا بصدد الحديث عن تاريخ شعب تعرض إلى ثاني أكبر حملة أوروبية على العالم الإسلامي في العصر الحديث، وعانى ويلات همجية الاستعمار الفرنسي طيلة 132سنة،(1830-1962م)، عمر طويل لمخططات رهيبة، وأحداث متشابكة، عمل خلالها المستعمرون على مسخ كل ما هو عربي مسلم، والسعي لاستبدال شعب بشعب ودين بغيره ولغة بلغة، فواجههم من يشتمهم اليوم سماسرة السياسة في مصر، بثورات وحروب لم تنقطع إلا بقهر فرنسا بحد السلاح واستقلال الجزائر عام 1962م. وإذا كان الفرنسيون قد تستروا على جرائمهم البشعة في الجزائر، وسنوا قانونا لتمجيد الاستعمار إرضاء لغلاتهم القتلة فإن سفهاء مصر قد وقفوا اليوم في مقدمة صفهم وشتموا الثورة وشهدائها علنا، وليعلم هؤلاء أن سلامة الموقف في أي صراع، تكمن في التمسك بالقيم الحضارية والمبادئ الأخلاقية التي أكدت وقائع الماضي القريب منه والبعيد أنه لن تقوم لأي قوم سيادة ولن يكتسبوا مجدا أو وحدة إلا بتلك المبادئ والقيم الأخلاقية والروحية، ولا يمكن لهم تحقيق ما يصبون إليه بغير حق في غياب الأدلة والبراهين. لهذا أود الحديث عن ميزات الشعب الجزائري الذي تضمنت مراحل تاريخه الحديث والقديم مقاطع لم يتعرض لها الدارسون ولا المحللون، وإن ذكر بعضها فبصفة جزئية، سطحية، ذلكم هو عامل المنطلقات العقيدية والمواقف المبدئية لشعب صلب الإرادة، قوي العزيمة، شديد التماسك سريع الاستجابة لنداء الوطن وحينما يتعلق الأمر بالقضايا العادلة والمواقف الإنسانية النبيلة عنيف الرد في الدود عن كرامته، وهي صور تبدو جلية في كبريات محطات الثورة التحريرية المباركة، ثورة خاضها الشرفاء ضد فرنسا الاستعمارية ضد أقبح وجوه الاستعمار في العصر الحديث. صحيح أن الكثير من ميزات الشعب الجزائري وتاريخه يغرب عن أفكار العرب والمسلمين لعدة أسباب في مقدمتها، الحملات الصليبية وتناقضات السياسة الفرنسية ووحشيتها، وسوء فهم الجامعة العربية التي تزعمها مصريون لأعوام. هذه العوامل مجتمعة تدعونا لسرد بعض المحطات واعتمادها كمدخل لفهم تلك الميزات، ومنطلقات نضالات شعب عربي مسلم، وإدراك وحشية السياسة الفرنسية في الجزائر، ومن ثم تصنيف ما جاء في المهاترات المصرية. إن أول ما ينبغي الإشارة إليه هو أن سوء العلاقات الجزائرية الفرنسية أنجبه تناقض السياسة الفرنسية، ومن المعلوم أن بين'' 1515م و1830م'' وقعت الجزائر مع فرنسا 30 معاهدة جلها كان بطلب من فرنسا للاستفادة من المساعدات المادية ''تموين، وتمويل وحماية''، ومنحتها الجزائر ما تريد قمحا وبقولا وقروضا بدون فوائد حين وقفت أوروبا ضدها، ودعمتها الجزائر في حربها ضد الإسبان، ما جعل الفرنسيون يسلمون ميناء تولوز للأسطول الجزائري كمكافأة ليصير الميناء العربي الإسلامي الوحيد في أوروبا، لكن ذلك الاعتراف لم يعمر، فالتنكر للجميل والإصرار على الشر والطمع عوامل دفعت ساسة فرنسا إلى التربص بالجزائر، والسعي لاحتلال الجزائر وطمس هوية شعبها وقاموا بحملتهم الشرسة حين غاب الأسطول البحري الجزائري عام1827م- 1830م كما هو معروف. وامتدت مراحل الاحتلال على زمن التواجد الفرنسي في الجزائر الذي عزل شعبها عن الوطن العربي والعالم الإسلامي ومنع تدريس التاريخ واللغة العربية لأبناء الجزائر ظنا منهم أن ذلك يمكنهم من النيل من أصالة الشعب الجزائري لكن هيهات، هيهات أن تطمس هوية شعب أصيل ذو شخصية قوية ..فكان الجواب بالثورة أسلوبا وبالكفاح المسلح وسيلة، ويئس لقطاء فرنسا يوم عجز مجرموهم عن مواجهة أبطال الجزائر وراحوا يجرون أذيال الهزيمة بعد أن خطط منظروهم لإيهام الرأي العام العالمي بأن ما يقع في الجزائر هو انحراف أشخاص وليس ثورة شعب، وجاءوا بالجنرال ديغول ''رئيس فرنسا آنذاك'' بحنكته ونصائح مخابراته العسكرية ليظهر للعالم صحة زعمهم فإذا بالشعب الجزائري يخرج يوم 11ديسمبر1960م في مظاهرات عارمة منددا بجرائم فرنسا مناديا بسقوطها ومطالبا بالاستقلال فاستهل ديغول خطابه الموجه للجماهير الجزائرية الساخطة بكلمة'' إنني فهمتكم ..'' فهمهم أن لا سلام دون رحيل الفرنسيين، وفهمهم أن الجزائريين متمسكون بقيمهم ولم يتأثروا بمخططات خبراء فرنسا، فكانت صدمة كبرى لخريجي المدارس العسكرية الفرنسية المتخصصة لأن مخططاتهم ومساعيهم لتغييب الجزائر باءت بالفشل، ولم يستفيقوا إلا في سنة 2005م حين أصدروا القانون الممجد للاستعمار في محاولة يائسة لتغطية الفضيحة وستر عار الجرائم، وتبرير كذبتهم على شعبهم. هذه صورة مختصرة عن طبيعة الشعب الجزائري وقيمه الحضارية التي لا يعرفها سذج مصر الإمعة ورعاعها السياسيون، وقد يخطئ أحفاد أبي الهول مهرجي مصر إن ظنوا أن خربشتهم ستحقق ما عجز قادة فرنسا وحلفاؤهم الأطلسيين عن تحقيقه ... وأعتقد جازما أن اعتذار المصريين العلني عن سلوكهم تجاه الجزائر عامة وتاريخ ثورتها على الخصوص، لا، ولن يكفي لإطفاء نار غضب الجزائريين تجاه من شتم شهداءهم ومس أمجادهم. ولن يغفر لهم أحدا، ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه حتى لو سجدوا ووصلت أنوفهم إلى (...)، ما لا يجوز ذكره هنا. والخاتمة البسيطة التي أريدها هي: على هؤلاء السذج أن يتيقنوا أن -من غربل الناس نخلوه - لأن شعارنا هو: ''من كان يبغي ودنا فعلى الكرامة والرحب ومن كان يبغي ذلنا فله المهانة والحرب''.