سوف أخصص، بعون الله تعالى، فصولا فيما يأتي من الحلقات لمناقشة هذا العنوان غير مكتف بحلقة واحدة، أملي في ذلك أن أبرز ما يمكن إبرازه من خصوصية وانفرادية في تحديد هذا المفهوم أو ذاك، تكون قد ترسخت في أدبيات حزب جبهة التحرير الوطني، وبخاصة ما تحصّن منها عبر التجربة والممارسة على مرّ السنين، إن مساهمتي المتواضعة هذه ارتأيت بسطها للاطلاع والتأمل على أوسع نطاق ممكن من الرأي العام المهتم والمتتبع لما يعرفه الحزب من نشاط، آخذا بعين الاعتبار انطلاقة هياكلنا الحزبية في توفير الجو الملائم للشروع في التحضير المسؤول لإنجاح أشغال المِؤتمر التاسع. إن أهم مبدأ من مبادئ الدولة الحديثة الذي تأسست عليه دولة الأمير هو مبدأ المساواة، عكس ما كان عليه الأمر عند الأتراك، لقد تكونت الوحدة والمساواة حتى بين أفراد القبيلة ورئيسها، وبهذا المسلك وفي ظرف قصير تجاوز الشعب الشعور بالوحدة القبلية إلى الشعور بالوحدة الوطنية، وكانت في واقع الأمر وحدة دينية أخلاقية. إن الدعامتين الممثلتين في الوحدة الدينية المعززة بالوحدة الوطنية، لم تكن خاصة بالجزائر وحدها في القرن التاسع عشر، بل كانت كثير من الدول الأوروبية التي واجهت حربا ضد الاحتلال الأجنبي كثيرا ما تتعزز فيها الوحدة الوطنية بالدين، ومن هنا جاء مزج الدين بالوطنية كخطاب ظل إرثا سياسيا في الجزائر تتوارثه الأجيال منذ نشاط ونضال الحركات الوطنية، مرورا بحزب الشعب، إلى نداء ثورة نوفمبر، إلى مواثيق حزب جبهة التحرير وأدبياتها، التي ما زالت مستمرة وتمثل مرجعيات الحزب في مرحلة التعددية الحزبية والسياسية، وما أسجله في هذا المقام يمكن أن يعتبر عامل التزاوج بين الوطنية والدين في خطابنا السياسي مرجعية من مرجعيات حزب جبهة التحرير دون غيره. ومما يذكر عن سيرة الأمير عبد القادر أن سياسة المساواة وحدها التي تشبع بها إلى درجة التقشف في حياته الخاصة، كانت كفيلة بأن تحقق الشعور بالوحدة الوطنية، وهي درجة أعلى من الوحدة الفعلية، وهكذا نجد الفكر الديني الوطني للأمير عبد القادر يتواصل عند رجال جمعية العلماء من ناحية والمتمثل في مقاومة الاحتلال الفرنسي للجزائر، بمنظور تلك الفترة ،''أما ما ظهر من تقليد ومحاكاة له في مرحلة التسعينات من استعمال الدين في الفتنة، فالدين منه براء... وهكذا يظهر جليا مدى الربط والتواصل بين الأجيال في استعمال أفكارها السياسية وتجاربها عبر السنين، والحقبات، وتحيين، وتقييم هذا المخزون والاستفادة منه في حاضرها ومستقبلها على ضوء ما يحمله العصر من مستجدات وتحديات، وبخاصة إذا ما ثبت تطابق هذه المستجدات الحديثة التي يدعو إليها العصر مع مخزون الحضارة الإسلامية في جوهره ومحتواه، كمفهوم الحرية، والمساواة، والعدالة، والديمقراطية، وحقوق الإنسان الخ.. لقد سبقت الإشارة فيما ذكر أعلاه إلى ما روجت له وبالغت فيه بعض الصحف من دون تروي من تصنيف للأحزاب المتواجدة في الساحة الوطنية التي كسبت وأكدت تواجدها من خلال ما تحصلت عليه من مقاعد في المجالس الشعبية المنتخبة فيه كثير من السطحية، والإثارة، ومع ذلك فإن توزيع الصحف لهذا التصنيف لايخلو من بعض الصحة، ذلك أن واقع الحال لا يخفي علينا وجود أحزاب قائمة على مرجعيات دينية، وذلك ظاهر من خلال خطابها المتطرف وما تدعو إليه جهارا نهارا، إذ بعضها كما يقول المثل الشعبي ''بمجرّد ما شطح نطح..'' وكاد أن يزيل الدولة الجزائرية من الخارطة السياسية مع بداية التسعينات وشعاره: ''لا ميثاق ولا دستور، قال الله، قال الرسول..''، فاختفى اليوم بدون رجعة...، وبعضها اندثر ولم تبق من ذكراه إلا اسمه وتاريخ ميلاده في سجلات وزارة الداخلية، أما البعض الآخر فقد استطاع أن يتأقلم مع الأوضاع ويسلكك مسلك الليونة في مظهرها الشكلي على الأقل ليتمكن، وعندما تتهيأ له الظروف وتتغير غدا فلا شيء يثنيه عن مرجعيته الدينية، والمتمثلة في قيام الدولة الإسلامية...؟ مع العلم أن قليلا من الدول أخذ فيها الدين السلطة السياسية، وأوضاعها لا تحتاج إلى تعليق، لذلك بات من حقنا جميعا أن نتساءل..؟! ما هي هذه الدولة الإسلامية؟ هل مثالها دولة صدر الإسلام؟ أم هي الدولة الأموية؟ أو الخلافة العباسية في بغداد؟ وقد تكون دولة المماليك؟ وفي عصرنا هذا هل النموذج هو إيران؟ أم اندونيسيا؟ وقد تكون دولة السودان التي شرعت في تطبيق الشريعة الإسلامية منذ سبتمبر ,1983 أو دولة الصومال أخير، أو قد يكون واد سوات بباكستان ابتداء من تاريخ 14 / 5 / 2009 الخ...؟ وبمفهوم المخالفة هل الدول العربية كمصر، والجزائر، وسوريا، والعراق، وليبيا، وباقي الدول العربية جميعها ليست دولا إسلامية؟ وأن مشروع دولة الطالبان هو مستقبلها المفترض الحتمي، إن صحّحت أركانها وتأقلمت في أحسن الأحوال وكانت من الفائزين، أو سيف القاعدة يكون لها بالمرصاد في حالة العكس على نحو ما تتعرض له بعض الدول من إرهاب؟ !.... وفي جميع الحالات هذه الدول ليست دولا من أهل الذّمة... أطرح هذه التساؤلات المركزة، وهناك الكثير من الأسئلة لم يحن أوانها قد تحتاج إلى توضيح أيضا، أما دواعي هذا التساؤل فهي متصلة بالدّين الإسلامي كدين للدولة ومبدأ من المبادئ العامة التي تحكم الشعب الجزائري، نصه يتصدر دساتير الجمهورية الجزائرية منذ أول دستور عام ,.1963 وقد جاء تكريس هذا التوجه بمنع تأسيس الأحزاب على أساس ديني طبقا لنص المادة 42 / 3 من الدستور منذ الدخول في عهد التعددية، إذ تبقى الدولة راعية ومتكفلة بالحياة الدينية بصفة عامة وفقا للتنظيم المعمول به، وحرية المعتقد طبقا للمعاهدات الدولية، وحقوق الإنسان. ومن ناحية أخرى يلاحظ استمرار بعض الأحزاب، بل وتمادي بعضها على الإبقاء على مشروع الدولة الإسلامية غامضة المرامي، بل والسعي من البعض الآخر من أجل تأسيس أحزاب إسلامية في جوهرها، متسترة من الناحية الشكلية بتسميات لتبعد على نفسها كل شبهة من عدم امتثالها لسلطان قانون الدولة، هذه المناورات يبقى أمرها محيرا ويحتاج إلى جواب..! وبالنسبة لحزب جبهة التحرير الوطني، ومنذ دستور ,1989 فأعتقد أن الإسلام يبقى ثابتا من ثوابت حزبنا أصلا وفصلا، وبنفس المقام أو المكانة التي حددها نداء ثورة نوفمبر، يبقى السير سيرا ثابتا متمهلا لا إفراط ولا تفريط في هذا المبدإ الدستوري، رغم الصاعقة التي نزلت على رؤوس الجميع والهلع الذي صاحبها مع مطلع التسعينات، أما الإسلام ودواعيه وعلّة لزومه من منظور حزبنا فاعتقد أني قد أثرت عدة جوانب من موضوعه فيما سبق. ومع ذلك تبقى الأحزاب التي تأسست على إيديولوجية دينية إمكانيات النضال فيها حتى لا أقول الجهاد.. من أجل الوصول إلى الحكم، تبقى قائمة من اجل بناء صرح الدولة الإسلامية كمعتقد والتزام ديني.. شعارها في ذلك ''عليها نحيا وعليها نموت..'' إلخ وهذه الدولة الدينية إن قامت كاحتمال وله ما يبرره، فإن إطارها السياسي الذي تستند عليه سيكون: الحكم بالحق الإلهي، الذي لا يعترف بالدساتير، والقوانين الوضعية، ولا يرى من مصدر للفكر السياسي غير القرآن والسنة، ولا يعرف من الأحزاب السياسية إلا حزب الله؛ وان حزب الله ممثل في من يحكمون باسم الدين ورايته، وهم رجال الدين يقينا، وإن آرائهم تصبح من وجهة نظرهم حكما شرعيا، من يختلف معهم إنما يختلف مع الله، وبذلك يخرج الأمر من دائرة النقاش والمعارضة ،إلى رفض حكم إلهي، وبالنتيجة فقد حقّ على الآخرين حكم الله في من يختلف مع أوامره ويرفض نواهيه، ولا سبيل أمام رجال حزب الله إلا أن يتهموهم بالفسق والظلم، ولا ممدوحة لهم أمام فقهاء الدين إلا التوبة، أو التكفير... وهكذا فالأمر ليس أمر قرآن أو سنة، أو إيمان أو عدم إيمان، إنما فيما يحكمون به، من أن الاختلاف في الرأي جريمة، وان معارضة الحاكم كفرا، وان رفض الرأي الآخر معصية، وفي الاجتهاد المخالف فسوقا، إن الخلط واضح بين اجتهاد البشر وحكم الله تبارك وتعالى، وهو آفة من يحكمون دولة دينية. ومن نافلة القول أن ما ذكر بالنسبة لخارطة الأحزاب الإسلامية التي تأسست في الجزائر بعد أكتوبر ,1988 فإنها كلها كانت امتدادا لإيديولوجيات ومعتقدات دينية مركزها الشرق الأوسط تدور حول تنظيم الإخوة المسلمين في مصر، وتحت تسميات متقاربة، وعلى درجات مختلفة من التطرف والاعتدال، تداعياتها ومشاكلها تعاني منها جل الدول العربية، وقد يكون من المفيد تتبع مفهوم الدولة الإسلامية من خلال عجالة خاطفة عبر بعض محطات التاريخ الإسلامي لاستخلاص ما يمكن استخلاصه من دروس التاريخ. .../ ... يتبع