تربيت في بيئة عندما يستدل القائل فيها بقول الشاعر كأنما يستدل بكلام لا يأتيه الباطل لا من بين يديه ولا من خلفه، و كأنما الشاعر حوى حكمة العالم كلها فصاغها في عبارة موجزة محكمة البناء قطعية الدلالة. والكلام نفسه يقال عن الكتاب والأدباء وكل من استطاع أن يصوغ الكلام حروفا نثرها بعبقرية على بياض الورق. فتكوَّن لدينا نوع من الإحساس بالرهبة تجاه ما هو مكتوب وبالتعظيم لمن يكتب، لأن صاحب القلم في الحقيقة رضاه يعني رضا الحق وسخطه يعني البغي والعدوان وعلى الجميع مراجعة حساباتهم. قد يقول القائل ما علاقة هذا الكلام بألبير كامو ؟! ببساطة أني كنت أضع الكُتَّاب جميعا في برج كريستالي ماسي لأنهم الضمير الحي المتبقي، وهم آخر الحصون الأخلاقية. لكن فاجأني ابن عمي بأن الأخير قال: ''إن خيرت بين العدالة و أمي لاخترت أمي'' يعني بأمه فرنسا وبالعدالة الجزائر. أي يفضل بقاء الاستعمار على استقلال الجزائر لأن في ذلك مصلحة بلده. وهذا كلام الأستاذ جيلالي خلاص: ''كانت العدالة هي استقلال الجزائر وكانت أمه هي فرنسا، فأي وضوح أكثر من هذا.'' دفعني هذا إلى البحث أكثر وراء هذه الشخصية لمعرفة المزيد، بعد أن اكتشفت حقيقة أني لا أعرف شيئا عسى أن أعرف و أُعرِّف غيري. فلنعد إلى البدايات ولد يوم 7 نوفمبر 1913 بمدينة الذرعان بالجزائر، ولدَ لعائلةٍ فرنسية كانت مُستوطِنَةً بالجزائر. والدته من أصول إسبانية، ووالده لوسيان كان عاملا زراعيا فقيرا من أصول ألزاسية، فقد مات في عام 1914 خلال الحرب العالمية الأولى، وهو يخدم في فوج للمشاة. تم قبوله في جامعة الجزائر. أصيب بمرض السل في عام ,1930 مما وضع حدا لممارسته كرة القدم، حيث أنه كان حارس مرمى فريق الجامعة. وقد عمل في عدد من الوظائف منها وظيفة معلم خاص، وكاتب في تجارٍة بيع أجزاء السيارات، كما عمل لدى معهد الأرصاد الجوية. انتهى من ليسانس الفلسفة في عام ,1935 ثم نجح في ماي 1936 في تقديم أطروحته المسماة ''البلاتونية الجديدة والفكر المسيحي''، والتي قدمها كأطروحةٍ لدبلوم الدراسات العليا. انضم كامو إلى الحزب الشيوعي الفرنسي في ربيع عام ,1935 بوصف الحزب وسيلةً لمكافحة عدم المساواة بين الأوروبيين والمواطنين في الجزائر. ولقد كتب أننا ''قد نرى الشيوعية نقطة انطلاق وزهدٍ، تُمَهِدُ الطريقَ أمام المزيد من الأنشطةِ الروحية''. وفي عام 1936 ، تأسس الحزب الشيوعي الجزائري الذي اهتم بأمر الاستقلال. انضم كامو لأنشطة حزب الشعب الجزائري، والذي ورطه في مشاكل مع رفاقه في الحزب الشيوعي. ونتيجةً لذلك طُردَ من الحزب في عام .1937 و بعدها ارتبط بالحركة الفوضوية الفرنسية. عاد لزيارة الجزائر و لفترة و جيزة سنة 1942 و ذهب إلى وهران. راسل العديد من الجرائد الفرنسية، يذكر فيها ما يحدث في الجزائر للمدنيين خصوصا سكان القبائل ، واعترض بشدة على الإعدامات الصورية والمحاكم العسكرية مما أدى به إلى الفصل عن العمل. ولكن رغم ذلك لم يدع إلى استقلال الجزائر بل وعارض ذلك بأن نادى إلى قيام إتحاد فدرالي، ومنح الجزائريين حدودا بعيدة من الحريات على غرار سويسرا. و كتب الكثير من المقالات التي تجابه العنف و تدعو إلى السلام. وحذر من استفحاله عندما يكون رد الشر بالشر، وذلك كرد على العمليات التي يقوم بها الجزائريون تجاه المعمرين المدنيين. ولم يقبل أي تبرير من أي مثقف تجاه هذا السفك المستمر للدماء من الطرفين. يقول: ''مهما كانت عدالة القضية التي ندافع عنها، فإنها ستظل مسربلة بالعار بسبب مذبحة عمياء تستهدف مجموعة بريئة من الناس، وفيها يعرف القاتل مسبقاً أنه سوف يصيب المرأة أو الطفل''. لقد تورطتُ في فهم هذا الرجل الغريب! فمن جهة يواجه و بشدة، ويصر على الالتزام بمبادئه التي نرى فيها نبلا مع ما يراه كما حدث في اعتراضه على احتلال الاتحاد السوفيتي للمجر، واعتراضه الشديد على الممارسات غير الأخلاقية للجيش الفرنسي في الجزائر. ومن جهة أخرى يفضل بقاء الجزائر مستعمرة فرنسية. وأنا هنا لست أتحدث عن عسكري أو رجل سياسة إنما هو الكاتب والأديب. انفرجت الأمور حينما عثرت على توصيف لصديق له يسمى آلبرت ميمي حينما قال عنه: ''مستعمر حسن النية'' ففي أفريل 1957 صرح عبر مجلة ''الأزمنة الحديثة'' قائلا عنه: ''المستوطن المنتمي إلى الجناح اليساري يتعاطف مع ورطة المستعمَر(بفتح الميم الثانية)، و لكنه عاجز أصلا عن دعم نضاله من دون الهجوم على وجوده هو، ووجود طائفته''. هذه الكلمات القليلة مفتاح اللغز المحير في شخصية كامي، فعادة اليساريون ميَّالون إلى التحرر و المساواة والعدالة التي لم نجدها في شقه الجزائري، لأنه لم يستطع إيجاد المعادلة الكيميائية الموفقة بين رغبته و مبادئه. في 11 ديسمبر 1957 وهو اليوم الثاني لحصوله على جائزة نوبل للأدب التقى بطلبة جامعة ستوكهولم وأثار موضوع الجزائر فساد القاعة توتر شديد إذ أمطره طالب جزائري بوابل من الانتقادات وقاطعه مرارا حتى أثار غضب كامي وطلب منه السماح له باستكمال أفكاره عن بلد يعيش فيه الشعبان بسلام. وأردف أنه ربما للطالب زملاء أو أهل كان هو سببا في نجاتهم من الإعدام. ثم صدم الحاضرين بقوله: ''دنت دائما وأبدا الإرهاب العشوائي في شوارع الجزائر، على سبيل المثال الذي يمكن في يوم ما أن يضرب أمي أو أسرتي إنني أؤمن بالعدالة، ولكنني سأدافع عن أمي قبل دفاعي عن العدالة''. هذا يعيدنا إلى البداية من كلام الأستاذ الجيلالي خلاص بأنه حمل كلام كامي غير الذي يحتمله عندما أعطاه تأويلات أخرى، والمعنى الحرفي لكلام كامي أقرب للحقيقة. ألبير كامي أديب وفيلسوف فرنسي، ولد في الجزائر. خاض حربا ضروسا لا هوادة فيها على أكثر من صعيد، و تسببت له في الكثير من الآلام و الخسائر. كان بإمكانه تحاشيها و اغتنام الفرص ليكون أفضل حالا و لكنه لم يفعل. خصومه لم يتوانوا في إطلاق النار عليه في كل مناسبة. لم يرض عنه أحد لا الجزائريون لعدم قبولهم إلا بالاستقلال، ولا الفرنسيون الذين لم يقبلوا حتى بالاندماج، ولم يسع لإرضاء أحد، مما منحه العزيمة للثبات على مبادئه. عاش يساريا ولم يكن يوما شيوعيا. عارض الاتحاد السوفيتي في احتلال المجر. وهاجم اليساريين فيما يعتقد أنه خطأ حتى قاطع أقرب أصدقائه إليه ''سارتر'' وما توانى في رصده من بعيد و تقريعه في كل شيء. لهذا نرفع قبعة الاحترام له في ذكراه الخمسين.