ما كان يريد ان يكمل حياته على تلك الشاكلة .. اراد الكثير ولم يتحقق .. اراد العدل .. اراد الحق .. اراد التراب وارض .. احب ان يعود الى مسقط راسه ويحتضن عزيزته كرمكول .. لكن مدينة الضباب والضباب تشبثا به .. كتب ولم يبرأ من جرح البعاد والنفي عن الوطن .. ابدع ولم يشف من جرح الفراق .. بريطانيا وعظمتها بل العالم وما فيه ما كان ليعوض الطيب صالح جلسة تحت نخلة من نخلات '' دومة ود حامد ''.. هجم الكبروتكومت السنون بحمولتها المفجعة امامه كانما لتعتذر عما فعلته وعما لم تفعله به.. عما اقترفه الزمن في حق روح اعتنقت الحرية وامنت بالانسان والمكان .. تاثر .. تبعثر .. فآثر ان يغمض عينيه قبل الاوان ..قبل ان تداهمه النهاية .. النهاية التي تنبه لها باكرا فاستبقها .. ماعاد يلزمه شيء .. ما عاد ينتظر شيء .. ماعاد يرغب في شيء .. سارع الى الله .. مرتديا عباءة الزهد في اخر ايامه وفاجأ الجميع بانسحابه من الحياة العامة وعزوفه عن ملاقاة الاصدقاء والاحباب والقراء بعد ان اخذ قراره بان يفني لحظاته في العشق الالاهي..ربما لتاكده ان ثمة اسم واحد للحياة والموت : اسمنا ..شاعرنا عز الدين ميهوبي هو اول من اطلعني عن اعتزال الطيب صالح كل مظاهر حياة اديب كبير مثله .. قال لي التقيت الطيب صالح في بريطانيا ماعاد يهتم بشيء ولا يحفل بشيء لقد تفرغ للعبادة .. ماعاد الطيب صالح الذي نعرفه .. وعادت بي الذاكرة الى ذاك اليوم الذي التقيته فيه لاول مرة وكان ذلك بمناسبة ملتقى الرواية العربية الذي انعقد في الجزائر في منتصف التسعينيات في قصر الثقافة مفدي زكريا شاهدت الطيب صالح عن قرب لأول مرة وكنت مفتونة باعماله وبرائعته حاصة موسم الهجرة للشمال .. مثل الكثيرين .. ووجدت نفسي امام قامة ابداعية غاية في البساطة والتواضع قدمت نفسي اليه وكنت وقتها في وكالة الانباء الجزائرية ولم تمنعه شهرته وصيته الادبي الواسع من يوليني اهتماما وترحيبا مبديا اعجابه الشديد بجمال الجزائر وبكرم الجزائريين .. سالته وكنت اعلم انه اول مرة يزور فيها الجزائر : كيف وجدتها ؟ الجزائر بلد خلاب وساحر.. اجابني بنبرته المتانية الرصينة .. بالنسبة لي كمعجب بكتاباته كيف كان لقاء العمر .. وفرصة لا تعوض .. ومدفوعة بفضولي الصحفي اردت ان اعرف عنه كل شيء في ذاك اللقاء القصير اردت ان ابوح له بكل ما ساورني وانا اتابع صولات وجولات مصطفى السعيد يطل موسم الهجرة الى الشمال . وقبل ان ان اخوض معه في الاسئلة التي تتزاحم في راسي باغتني قائلا : انت اما شاعرة او اديبة .. اجبته بعد ان افقت من دهشة الملاحظة : لازلت في بداياتي ولي رواية قيد الطبع..لابد ان اقراها عندما تصدر با زهرة .. الطيب صالح يقرا لي ؟ دوختني بساطته وتواضعه ..كان يكلمني بذاته الحقيقية بعفويته الاخاذة. سالته : لكاذا انت مقل في كتابة رغم انك تملك كل هذه العبقرية وكل هاته الافكار والرؤى المتفوقة ؟ انا كسول يا زهرة .. وحده الكسل يمنعني من المواضبة على الكتابة '' ضحك كالمعتذر '' ومد دراعيه على ظهر المقعد الخشبي الذي كنا نجلس عليه في باحة قصر الثقافة .. اسرتني صراحة الرجل وبساطته بقدر ما ما بهرتني ابداعاته .. الكبار دائما لهم طقوسهم وخرجاتهم الخاصة في الكلام والتصرفات كما في الافكار والكتابة .اسفرت تلك الجلسة التاريخية التي كانت لي مع الاديب الفذ الطيب صالح عن شريط تسجيلي ملاته بكل اردت معرفته في حدود ما سمح به الوقت عن صاحب دومة ود حامد .. كشف لي عدة اشياء عن عالمه وحياته وكتاباته .. عرفت منه ان الكتابة عنده ذاك الصدق . ذاك العري المقدس للحقائق .. عرفت ايضا انه كتب وابدع وما كان يخطط لان يكون اسما .. لان يكون تلك الطفرة الابداعية .. كتب وفقط ..لا شيء بعد ولا شيء قبل.. رغم ترفعه عن بهرجة وفخامة كبارالشان والقامة كان كل ما فيه بنضح حياة واملا كانت كلماته ملونة وهو يتكلم عن حلمه بالعودة الى السودان الذي نفي منه لمواقفه السياسية وبتحرير فلسطين .. وبنهوض الامة العربية .. كان مفعما بالمشاريع والتجديد متحمسا لعمله وانجازه لحصة ادبية فكرية في اذاعة البي بي سي بلندن .. وفجاة كانما تبدت له الحياة ثقبا مملوءا بالفراغ بلا شيء .. لا بد ان ذلك من سمات العظام الذين بقدر ما يخققون الخارق والخارج عن العادة بقدر ما تتاكد لهم عبثية الحياة .. من يتملى مسيرة الطيب صالح ويقرا اعماله على قلتها'' خمس او ست روايات'' لابد ان يلاحظ ان الكتابة بالنسبة لهذا الاديب ماكانت ولعا ولا شغفا عكس سائر الكتاب والادباء .. لعلها ما كانت سوى ظلا لمعاناة ما كانت أثقلت واقعه ..ان يحيا بها .. طبعا لم افوت الفرصة وطلبت منه ان يخط لي اهداء على روايته التحفة موسم الهجرة الى الشمال التي كانت معي .. تناولها من يدي واخذ يتصفها كانما يبحث عن عبارة او شيء كتب فيها بطريقة لا تشي بانه كاتبها .. انا لا ارى فيها ما يراه الناس ..ما الذي اعجبك فيها بالضبط ؟ سالني فجاة .. كل شيء .. رددت وانا احاول ان استذكر مشهدا او موقفا شدني فيها .. كل الكتاب مذهلا في الحقيقة .. لم تقنعه اجابتي كان يريد اجابة محددة .. كل من اساله ماذا اعجبك فيها يجيبني كما اجبتيني انت ..واستطرد : انا بهمني ان اعرف شيئا بعينه اعجب الناس .. لقد كان مصرا بشكل ملفت على معرفة ما الذي جعل الناس يعشقون روايته كانما اراد ان يؤكدوا له ويثبتوا له بالدليل والبرهان انه يستحق فعلا تلك القيمة .. مع هكذا مبدعين ومع هكذا كبار لا يجب ان نستغرب مثل هذه المواقف وهذه الافكار .. تركت الطيب صالح في هذا اللقاء الحلم بوجه وبملامح وبكلام ليواتيني الحظ مرة ثانية والتقيه خلال حفل توزيع جائزة البابطين بفندق الاوراسي في الجزائر بعد ثلاث سنوات من اللقاء الاول .. واذا بالوجه غير الوجه والرجل غير الرجل كان الوجوم طاغيا على كامل مظهره وكل ملامحه متلهية بشيء خفي على قدر كبير من الجدية والخطورة .. شفتاه لا تت وقف عن الذكر وترديد الايات القرانية .. ومع ذلك تمكنت من التقرب منه والدردشة معه على طاولة الغذاء في مطعم الفندق كان متحفظا في كلامه وردوده وادركت ان ماقاله الشاعر عز الدين ميهوبي وهو من اشد المعجبين به صحيحا .. سلمته روايتي الاولى''بين فكي وطن '' كما وعدته في اللقاء الاول الا انه لم يرحب بها كثيرا طلبت منه ان يقراها ويقول لي رايه فيها الا انه لم يعدني بشيء وفضل الخوض في نوعيات الاطباق والطبخ العربي والجزائري وسالني كم مرة عن مكونات الطبق الذي كان بصدد تناوله وماعدت اذكر ماهو بالضبط الا انه كان طبقا جزائريا اراد ان يعرف ايضا مكوناته وطريقة تحضيره كانما فقط ليتجنب الخوض في الكلام عن شي ء اخر ادركت وقتها ان الادب والكتابة ماعادت تعني هذا المبدع الكبير.. هو الان منشغل بامور اخرى يراها اجدى من الادب وما ترفعه وعدم اكتراثه يترشيحه لجائزة نوبل لمرة الثانية الا دليل على حالة الاعتزال التي التزم بها الفقيد الطيب صالح لعله كان يتهيا للرحيل ونحن لاندري .. وهاهويغادر عالمنا تاركا لنا اسئلته الاستثنائية المدوخة لنعيد قراءتها والتمعن فيها على ضوء ''البيت بيبندريش '' و'' ودومة ود حامد '' و''عرس الزين '' وموسم الهجرة الى الشمال '' . . هجرنا الطيب صالحوذهب حيث السؤال الأكبر غيبه الموت صحيح الا ان موت مثل هؤلاء ليس سوى مصل وجود ابدي ومعنى اخر لحضور صعب على الزمن ان يلعقه ويمسح على شفتيه وكأن أحدا لم يكن .