اخيرا، وبعد عشر سنوات من التقاضي أمام القضاء المصري، أجازت الرقابة على المصنفات الفنية في مصر تصوير فيلم «الرئيس والمشير». ولا يهم كثيرا هنا كيف سيكون حال الفيلم وما سوف يأتي به بعد عرضه على الجمهور المصري والعربي، ولا حتى يهم تلك الإثارة المتصورة في العلاقة الدقيقة والحرجة بين الرئيس جمال عبد الناصر والمشير عبد الحكيم عامر ما بين الثورة في عام 1952 والنكسة في عام 1967 والتي انتحر بعدها الأخير أو تم انتحاره بطريقة أو أخرى. وليس في نطاق الاهتمام أيضا تلك العودة إلى عقد الستينات المضطرب بالبحث عن العدالة تحت اسم الاشتراكية أو الغياب المفعم بالغضب للحريات العامة وقصص التعذيب والقهر السياسي؛ ولا الحنين إلى قصص البطولة والشموخ والمناطحة مع عالم لم يكن يتحمل العظمة من بلدان فقيرة. ورغم أن كل ذلك مغر بالحديث والتعليق فإن مغزى قرار الإجازة هو الشجاعة في تناول تاريخ مفعم بالشجون والحنين والسخط من قبل أجيال عاشته، والحيرة والاضطراب واللامبالاة من قبل أجيال لم تعشه. والحق هو أنه ليس جديدا أن يتم تناول الزعماء في أفلام سينمائية في مصر، فقد ظهر مصطفى كامل في فيلم قديم، وجرى تناول شخصية عبد الناصر في فيلمين واحد منهما ركز على حرب السويس عام ,1956 والآخر على كل الوقائع التي عاشها، أما الرئيس أنور السادات فقد ناله فيلم حظي بإعجاب كبير تحت عنوان «أيام السادات». ورغم كل ما ناله العصر الملكي في مصر من نقد تجاوز الحدود أحيانا، فقد اكتشف المصريون، والعرب معهم، الملك فاروق في مسلسل تلفزيوني. ومن يزور متحف وزارة الخارجية المصرية الواقع في ميدان التحرير بالقاهرة سوف يجد صورة كبيرة للملك فؤاد الذي أسس الدولة المصرية المستقلة والحديثة في 28 فبراير (شباط) 1922 وعلى بقية الحوائط توجد صور لكل من كانوا على رأس القيادة المصرية خلال القرنين الأخيرين. المغزى في ذلك كله أن الدول تنضج عندما تصبح لديها الشجاعة للتعامل مع تاريخها، وفي الدول المتقدمة توجد مدارس كاملة في الفن والأدب والفلسفة السياسية تعيد فهم ما جرى بكل ما له وما عليه. ويكون النضج ملحوظا عندما يتم اكتشاف تلك «الدراما» التي ولدها الصراع بين الشخصيات والأفكار وأنتجت واقعا ظل مؤثرا حتى هذه اللحظة. وربما يكون تناول شخصيات بعينها مثل عبد الناصر أو السادات أو فاروق فيه نوع من التواصل مع التاريخ، أو استغلال الفرصة للتعبئة الوطنية بشكل أو آخر، ولكن الأهم من ذلك أن تكون الأمة قادرة على النظر إلى نفسها من خلال ساحة صراع توقفت عنده أنفاس الأمة بشكل أو آخر. ولم يكن الصراع بين الرئيس والمشير في النهاية إلا صراعا بين الصداقة العميقة والمصلحة الشخصية الملتحمة بالصالح الوطني والقومي. وما زالت كلمات الأستاذ أمين هويدي ? وزير الحربية المصري ورئيس المخابرات العامة المصرية - تخترق أذني في أحد مقاهي لندن عندما حكى كيف دخل على الرئيس جمال عبد الناصر بعد لقائه الأخير مع صفيه المشير بقصر الرئاسة لكي يحدد له القضية بوضوح: إنها مصر يا سيادة الرئيس!. ليس سهلا في هذه اللحظة أن تعرف ما الذي جرى في ذهن الزعيم الخالد، كما أننا لا نعرف ما الذي جرى في لحظات حاسمة أخرى في تاريخ الأمة؛ وفى الأسابيع الأخيرة كنت أقرأ مذكرات «نوبار باشا» الأرمني الأصل، ولكنه الوزير والسياسي الذي أثر في الحياة المصرية خلال القرن التاسع عشر. وكان لافتا للنظر بشدة ليس فقط التحولات الاجتماعية والاقتصادية الكبيرة في الولاية المصرية، ولكن لحظات التغيير الكبرى التي تبدو فارقة ما بين عهود. والمدهش أنها كلها لها أبعاد درامية لم ينظر لها الفن بعين عطف بعد، وكان منها تلك العلاقة القلقة بين محمد علي والي مصر وولده إبراهيم؛ وتلك الواقعة الخاصة باغتيال من خلفهما عباس بعد أن طعنه أربعة من مماليكه أثناء نومه بعد تورط نساء من العائلة المالكة. وفي كل هذه الحالات كانت الذات بنوازعها وطموحاتها تختلط بالموضوعي بما فيه من تيارات قوى داخلية وخارجية تتصادم في لحظات تاريخية عاصفة. وما جرى في مصر حدث تقريبا في معظم الدول العربية وغير العربية الأخرى، ولكن الفارق أن القاهرة تبدو الآن أكثر قدرة على التصالح مع تاريخها؛ وعندما فتح الأميركيون تاريخهم للنقد، أصبح كثيرون من أبطال الحروب ضد السكان المحليين المعروفين بالهنود الحمر جماعة من السفاحين. ولا يعرف أحد عدد الأفلام التي صورت عن الثورة الفرنسية أو الحروب العالمية المختلفة أو الثورات والأحداث الأخرى، والجنرالات الذين نجحوا والآخرين من الفاشلين. وفي يوم من الأيام ربما سيكون متاحا عرض فيلم عن علاقة الرئيس حافظ الأسد بأولاده؛ ومن المؤكد أن اللحظات الأولى لتولي السلطة، واللحظات الأخيرة للخروج منها، بالنسبة للرئيس صدام حسين سوف تكون جديرة بالتسجيل الدرامي، حيث يصير بطلا أحيانا وسفاحا في أحيان أخرى. ولعل الجمهور العربي سوف يشعر بكثير من الإثارة ساعة معرفة كيف تعامل الملك المغربي الحسن الثاني مع انقلاب جنراله أوفقير؛ وربما تكون صراعات أجهزة المخابرات العربية والأجنبية في بيروت جزءا من ثقافة سياسية جديدة تحاول أن تفهم عصرا من العمل السياسي بوسائل أخرى. الفن هنا وفى كل الأحوال سوف يضيف إلى الصورة ما لم تستطع كتب التاريخ أن تصل إليه، وهو يعطي السياسة في النهاية لمسة إنسانية تجعلها أكثر قربا من البشر. والقصة في الأول والآخر متعلقة بالسلطة ووظيفتها إدارة المجتمعات وحمايتها من نفسها ومن الآخرين. وفي مصر الفرعونية، كما هو الحال مع بلدان أخرى، كان للحكام صفات إلهية، ولكن مع ظهور الأديان وتقدم البشرية أصبحت القضية هي عبور الحواجز ما بين السماء والأرض. وفي العصور الحديثة أصبح لا بد للحاكم أن يكون إنسانا بكل ما للإنسان من قدرة على الخطأ والصواب؛ وبينما لم يكن الشعب الأميركي على استعداد لقبول كذب نيكسون في قضية ووترغيت، فإنه تجاوز عن خطيئة كلينتون مع مونيكا لوينسكي وأعطاه من الشعبية ما لم يحصل عليه زعيم أميركي منذ وقت طويل. ولكن الوصول إلى هذه النقطة من النضج، والقدرة على الغفران والعفو، والتقدير والتقييم الصحيح، لا يأتي إلا من خلال المعرفة ليس فقط التي تعطي المعلومات والأمثلة المقارنة، ولكن الأهم منهما التي تقود إلى الحكمة والحصافة. وربما ضاع علينا كثيرا في البلدان العربية كل ذلك لأننا كرسنا الفنون كلها ليس للوصول إلى هذه الدرجة وإنما لتبيان البطولة والفداء. ولو راجعنا كل الأفلام والحلقات التلفزيونية التي تعرض خلال شهر رمضان من كل عام نجدها تظهرنا كأمة من المحاربين، بينما لا يوجد إلا القليل الذي يشرح لنا أسباب ما وصلنا له من أحوال. وفي جميع الحالات نجد لدينا حكاما وسياسيين بعضهم أنبياء، أما معارضوهم فهم خونة، وما بين هذا وذاك يغيب جهلاء أو يعانون من ضعف الكفاءة، أو ببساطة جاءوا في الزمن غير المناسب أو المكان الخاطئ أو خذلتهم الرؤى والسبل، فلا نجد منهم أحدا. وما حدث بين الرئيس والمشير ربما يكون فيه بعض أو كل ذلك، وفي أوقات تمنيت ألا يكون في تاريخنا حجر لم نقلبه ونبحث تحته عما جرى ليس فقط عن حالة الصراع بيننا وبين الأمم والحضارات الأخرى، أو حتى بين طوائفنا وجماعاتنا، ولكنها أيضا داخلنا كأفراد سواء كان هؤلاء حكاما أو محكومين. والإنسان في النهاية ليس فقط موطن الفنون، ولكنه موضوعها الأول والأثير، حيث تستحكم الرؤى والأنغام والتجليات ومس الشيطان ولعنة الزمن، ويخرج كل ذلك في تفاعلات درامية تتصادم فيها أقدار موجعة يضيع فيها الصديق ويسقط المشير ويبقى الرئيس لكي يواجه ما تبقى له من مصير لم يكن نزهة على الإطلاق!